صفحة الدهر
" كنت أتصور أن الحزن يمكن أن يكون صديقا لكنني لم أكن أتصور أن الحزن يمكن أن يكون وطنا نسكنه ونتكلم لغته ونحمل جنسيته " قالها هذا الرجل المسكين في هدوء .
لكن هذا الهدوء لم يكن ليعجب هذا الرجل العنيد الجالس بجواره .... هو أدولف هتلر .... الزعيم النازي الذي أشعل في الدنيا نارا لم تجد صفحات الدهر مسلكا لإخمادها ...... صاح عاليا : " هدوء.... لا أستطيع أن أنام ... أليس من حقي قليل من الراحة في هذا البيت الحقير "
رد هذا الرجل : " كنت لأتركك لتنام لو أن عندي شك بسيط أنك في حلمك ... ستحلم بالحرية ..... و لكن لا أظن أن هواء الحرية الرقيق ... قادر على أن يبدد ظلمات صدرك المحزون "
نظرة مريبة من هتلر إليه : " يا هذا أتعرف من أنا؟ .... لا تتعجل في كلام .. غدا ترجو تأخير عواقبه " ..... رد هذا الرجل " أعرفك جيدا ... هتلر ... قائد موهوم ... في سنوات قليلة جنى دمارا عظيما مغلفا بنصر زائف في بدايته " ....و قبل أن يقاطعه أكمل " بل لعلك أنت لا تعرفني ... تشي جيفارا .. عاشق الحرية حتى النخاع ... بعد أن ذقت حلاوتها ... طفت العالم ليجدوا بعض ما وجدت "
رد هتلر : " نعم.... أذكر أني سمعت صديقي جوزيف جوبلز يتحدث عنك أكثر من مرة .... لا أدري أين هو الآن ... ولكنه يتنقل كثيرا في هذا النزل القديم الذي نقيم فيه ... و يسمع أخبار كثيرة عن الجميع .... و يعود كل فترة و يطلعني على الجديد ....نعم .. أنت التشي جيفارا .... مخبول الحرية .... سمعت عنك كثيرا .... فأنت تضحكني كثيرا ... أنت تشعر على وجهك ألم في كل صفعة على وجه مظلوم .... يبدو أن آلامك كثيرة و مستمرة . "
قال جيفارا : " إن نار الثورة المشتعلة في جسدي ... تجعلني لا أقف عند الألم"
رد هتلر: أتعلم ما مشكلتك ؟ ... أنك لم تعرف الإنتماء لوطن ... لقد تعلقت بمعنى
جميل... ولم تستطع أن تفهمه .... سرعان ما تتطاير من بين يديك إلى غير رجعة ... فطفت العالم لعلك تفهمه و ما أظنك فعلت ..... أما أنا فوطني ألمانيا كان هدفي .... حاربت أنت من أجل الفقراء و الضعفاء ... أما في وطني فلا مكان لفقير أو ضعيف ... الكل يعمل و الكل ينتج ..... ناضلت أنت من أجل مصير الشعوب .... فأي مصير أفضل من مصير شعبي ... بعد أن كتبت لهم التحرير "
رد جيفارا : " زورت لهم تحريرا زائفا... على أنقاض حرية الشعوب الأخرى ... أحلامك الإستعمارية كانت أكبر من حلم وطنك المشروع في التقدم .. فانفجر الوطن بما فيه .... و ضاع ما بنيت من بناء متساقط "
قال هتلر : " لم أرد أن أكون منقذا و لا زعيما ..... كل ما أردت فرصة واحدة فقط .... لم أقل من قبل هذا الكلام .... في رسمتي البسيطة لمدرسة فيينا للفنون ...رسمت امرأة عجوز تقف في نافذة بيتها .... لتجدد شبابها بما تبثه أشجار حديقتها من الحياة ..... لم يعترفوا بي كرسام .... علمت أن البشر لا يعترفوا بالجمال كقيمة و لا بالحياة كمعنى دافئ .... و وجدت طريقي في القوة لا في الضعف الذي عشته فترة شبابي "
ضحك جيفارا ثم قال : " يبدو أنك لم تحب حياتك قط ... و كان هذا كافيا لتقتل نفسك في حصنك لتعترف أمام نفسك بالفشل .... أما أنا فأمري مختلف .... نظرات الرعب في عيني قاتلي .... رغم أني أسير في القيود ... إلا أن يديه المرتعشة ... جعلتني أتيقن أني لن أموت أبدا .... و لهذا قاتلت حتى آخر لحظة ... فقد قررت ألا أغادر الحياة أبدا "
و هم في حوارهم الجاد دخل عليهم شاب منمق ... فقال لهم : " أنتم لا تستريحون أبدا..... قد أرهقتم أنفسكم في الدنيا ... أما آن لكم أن تهدأوا قليلا ... فحزني لا إنقطاع له .... قرون طويلة أبحث عن جولييت و لا أجدها ... لا أدري أين هي ؟ ... مازال والدها متحجر الرأس .... كما أن هذا البيت المتواضع لا شرفات له أقف تحتها ...و لا نوافذ تطل منها ... آه يا حبيبتي ... أتذكرينني ..أم أن طول البعاد قد مسح ذكراي ؟ "
صاح هتلر : " اخرس يا هذا .... لا بد أنك روميو ... ألا تسأم قط ... أضعت حياتك بلا هدف من أجل امرأة ... يكفي ما مضى .... كما أنك لست حتى شخصية
حقيقية ... أنت مجرد وهم من أوهام هذا الكاتب الإنجليزي السخيف شكسبير ... الذي يرى قيمة الدنيا في الحب "
و بالطبع تدخل جيفارا ... و سرعان ما تداخلت أصوات الجميع و ارتفعت .... حتى سمعوا كلهم صوت عالي واضح يقول : " اصمتوا جميعا أذهبتم النوم من عيني و تفجرت رأسي "
و قال جيفارا : " و من أنت حتى تخرسنا " .... أجاب الفتى : " أنا شاب صغير ....انشغلت بقراءة مجموعة من الكتب في الأسبوع الماضي عن الحروب و الثورة و كتب أخرى عن الحب .... و يبدو أن كلكم قد اجتمعتم في أحلامي "
قال هتلر : " ماذا تقول ؟ ... أتقصد أننا لا وجود لنا ... و أننا مجرد أشباح في خيالك المريض ... مستحيل "
قال الفتى : " نعم كلكم قد انتهيتم ... أنتم مجرد صفحات في كتب أقرأها .. و أفرغ منها .... قد طوتكم صفحة الدهر ... و لا أحد يذكر منك يا هتلر إلا تحيتك النازية عندما نريد أن نضحك .... و لا نذكر منك يا جيفارا إلا أن القوى الإمبريالية التي صارعتها طوال حياتك .... استفادت منك بعد موتك و ربحت الملايين ... فطبعوا صورتك على الملابس و الملصقات .... و جنوا الكثير"
ثم أكمل الفتى : " أما الآن فأنا مضطر إلى ترحيلكم من خيالي لأنال قسط من الراحة .... و أرجوكم لاتعودوا مرة أخرى"
مصطفى جبر