حكاية الهميان
كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومائتين للهجرة، وأَمَّ أهلُ مكة الحرمَ ، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين ،محطم ما عليه الا قميص مشدود بحبل فلما قضى صلاته قام فنزع القميص ، و نادى: يا لبابة. فجاءت امرأة ملتفة بخرقة قذرة ، فدفع إليها بالقميص و أخذ الخرقة فالتف بها… فقالت المرأة : يا أبا غياث ، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً ، و هذا يوم صيام وحر… فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات و العجوز لا يقدرن على الصبر ، وقد هدهن الجوع ، فاستعن بالله ، واخرج فالتمس لنا شيئاً فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها فطورنا.
قال: أفعل إن شاء الله.
وانتظَرَ حتى علت الشمس وكان الضحى ، فخرج يجول في أزِقَّة مكة وطرقِها
واشتد الحر و تخاذلت ساقاه ، وزاغ بصره ، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش ، و كان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار
و جعل ينكب التراب بيده ، و هو سادر في أمانيه ، فلمست يده شيئاً مستطيلاً ليناً فسحبها و نظر فإذا الذي رآه حزاماً وليس بحية ، فشده فجاء في يده (هِميان) فيه الذهب ، عرفه من رنينه وثقله ،
وتصور أن سيحمل إلى نسائه الشبع والراحة ، ويملأ أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة ، ورغد العيش ، وجعل يفكر فيما يشتريه لهن ، وكيف يلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن ، حتى كاد يخالط في عقله.
ثم تنبه في نفسه دينُه ، وعلا صوت أمانته يقول له : إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لابد لك من التعريف بها سنة ، فإذا لم تجد صاحبها حلَّت لك.
ودخل الدار متلصصاً ، فرأته امرأته فقالت:
ما جاء بك يا أبا غياث؟
فال: لاشيء. وأَحَبَّ أن يكتمها خبر الهميان ، وما كان يكتمها من قبل أمراً.
قالت : بلى والله ؛ إن معك شيئا، فما هو؟
فخاف أن تراه فيستطار لبها… فقص عليها القصة ، وكانت امرأة تقية دينة ، ولكنها أضعف منه إرادة ، وأوهن عزماً فقالت :
افتحه ، وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئاً ، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة…
قال لا والله ، ولئن مسستِه أو أخبرتِ خبره أحداً فأنت طالق
ومشى إلى الحرم ، وكان فيه شاب طبري طالب علم.
فال الشاب الطبري : ( فرأيت خراسانيا ينادي ، يا معشر الحاج من وجد همياناً فيه ألف دينار فرده علي ، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير ، فقال : يا خراساني ، بلدنا فقير أهله ، شديد حاله ، أيامه معدودة ، ومواسمه منتظرة ، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالاً فيأخذه ويرده عليك.
قال : الخراساني : يابا كم يريد؟
قال العُـشر، مائة دينار.
قال: يابا .لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى).
قال الرجل الطبري: ( فلما كان من الغد سمعت الخراساني يقول : معاشر الحاج ووفد الله من حاضر و باد ، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب . فقام الشيخ إليه ، فقال : يا خراساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع ، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل ، فامتنعتَ . فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.
فقال له الخرساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.
ثم افترقا…
فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه ، فقام إليه الشيخ. فقال: يا خراساني: قلت لك أول أمس العُشر منه ، وقلت لك أمس عُشرَ العُشرِ عشرةُ دنانير فلم تَقبَل ، فأعطِه ديناراً واحداً عُشرَ عُشرِ العُشرِ ، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.
قال: يابا. لانفعل ولكن نحيله على الله عز وجل).
فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه ، وانقطع آخر خيط من حبال آماله ، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها… وأن هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعري ، والموت الكامن وراءهما ، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها ، أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً ، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر ، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة ، وهو يعلم أن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر ، وشقاءها كله تذهبه نفحةٌ واحدةٌ من نفحات الجنة. وقال للخراساني:
تعال خذ هميانك…
فقال له: امش بين يدي…
قال الشاب الطبري : ( فمشيا وتبعتهما ، حتى بلغا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج ، وقال : ادخل يا خراساني ، فدخل ودخلت ، فنبش الشيخ تحت درجة له فأخرج الهميان أسود من خرق غلاظ ، وقال : هذا هميانك؟
فنظر إليه ، و قال: هذا همياني.
ثم حلّ رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً ، ثم قال : هذه دنانيرنا.
( وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده. ووضعه على كتفه وقلب خلقانه فوقه وخرج).
ولم ينظر، في وجه الشيخ ، ولم يُـلقِ في أذنه كلمة شكر.
وسمع الشيخ حركة ، فنظر فإذا الخراساني قد رجع… فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد ، وكان أولى به أن يعرض عنه ، وأن يبغضه ، وقد منعه ديناراً واحداً يحيى لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت ، ولكن الشيخ كان رجلاً سمحاً لا يتسع قلبه لبغضاء ، فقام إليه وسأله عما رجع به ، فقال الخراساني:
( يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار ، فقال : أخرِج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له ، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك ، ففعلت ذلك ، وأخرجت ثلثها ألف دينار ، وشددته في هذا الهميان ، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن رجلاً أحق به منك ، فخذه بارك الله لك فيه.... ووضعه وولّى).
قال الطبري: ( وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني فرجعت إليه فقال لي : لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم ، وعلمتُ أنك عرفت خبرنا ، وقد سمعت أحمد بن يوسف اليربوعي يقول : سمعت نافعاً يقول : عن عبد الله بن عمر أن النبيقال لعمر و لعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها ، و لا ترداها فترداها على الله ؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر )) فسِـر معي.
فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك ، وما رأيت هذا المال قط ، ولا أمَّلتُه قط ، أترى هذا القميص ؟ إني والله لأقوم سَحَـراً فأصلي الغداة فيه ، ثم أنزعه فتصلي فيه زوجتي وأمها ، وبناتي ، وأختاي ، واحدة بعد واحدة ، ثم ألبسه وأمضي أكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله علي من أقِطٍ وتمر وكسيرات كعك ، فنتداول الصلاة فيه…
حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى : يا لبابة يا فلانة وفلانة ، حتى جئن جميعاً فأقعدني عن شماله ؛ وحل الهميان وقال : ابسطوا حجوركم ، فبسطت حجري ، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن ، وأقبل يعد ديناراً ديناراً ، حتى إذا بلغ العاشر قال ، وهذا لك ، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار و نالني مائة)).
ولما أذن المغرب وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس ، عليها الطيبات من الطعام ، قال لامرأته:
أرأيت يا لبابة ؟ إن الله لا يضيع أجر الصابرين ، إن الله هو أرحم الراحمين ، يا لبابة ، لقد منعنا أنفسنا دينارا حراما ، فجاءنا الله بألف حلال. وأكل الشيخ لقيمات ، ثم قام ليخرج ، فقالت له امرأته:
إلى أين يا أبا غياث؟
قال : أفتش ، فلعل في الناس فقيراً صائماً ، لا يجد ما يفطر عليه ، فنُـشـرِكه في طعامنا...
قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:
(وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوتُّ بها ، وكتبت العلم سنين ، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك ، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور ، فكنت أنزل على أزواجهن وأولادهن فأروي لهن القصة ، ويكرمونني غاية الإكرام.
وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت أنه لم يبق منهم أحد ، رحمة الله عليهم جميعا)).