الرجل..ذو البدلة البيضاء" قصة قصيرة "
ماأجمل الليلة...الصفاء..السكون..الصمت..النسيم الرقيق الذي يداعب وجهي.. وأضواء القمر الخافته..لا عجب من ذلك..فهي آتية من نهار ربيعي..ماأجمل الربيع وليله البديع....لا توجد ضوضاء.. ولا بشر يزعجونني...حقا..ً "الجحيم هم الآخرون"
ثم يأخذ هذا الأستاذ (المثقف) نفساً عميقاً من هذا الهواء المنعش ويخرجه ببطئ وكأنه يتخلص من عمل اليوم ..فهي لحظات نادرة يحصل عليها وهو عائد الي بيته في ذلك الوقت المتأخر من الليل وطالما أن الرجل هذا متذوق بهذا الشكل للجمال والهدوء ..فإنه لم يذهب مباشرة الي البيت من طريقه المختصر بل قرر الإلتفاف والسير لمدة أطول علي ضفاف بحراً صغيراً تبدو مياهه ساكنة للناظر إليها وكأنه بحراً ميتاً لا حركة فيه..وهذا مايريده..! مش عايز دوشة من أي حد ولا حتي من مياه البحر الوديعة هذه..!
ولكن لم يدم هذا المنظر طويلاً..فأثناء سيره بدأ يردد أشياء غريبة ،ولكن مازال استمتاعه قائم ولا صوت يظهر غير كلماته العجيبة ووقع أقدامه علي الطريق وبعض الحركات العشوائية من الفئران التي تخرج في مثل هذا الوقت ،ولكنه بدأ يتوقف فلقد سمع وقع اقدام أخري فالتفت وأخذ ينظر للحظات...
ولكن لم يجد شيء..واستمر في المسير..ومن الملفت للنظرأن مياه البحر الميت هذه بدأت تتحرك..ثم تهدأ..ظن أنها من تمرد بعض النسيم الهادئ الذي أراد أن يخرج عن هدوئه...لكنه بدأ يصدر حركة أكبر وكأن أحد يحركه ويسيطر عليه..فأسترعي هذا انتباهه وتوقف ولم تتوقف حركة المياه الثائرة وكأن رياح عنيفة تستفزها..وما زال متوقفاً..وبدأ قلقاً يسري في نفسه..ودقات قلبه تتسارع هي الأخري من الخوف.. وفقد استمتاعه وهدوئه..وهنا أحس فجأة بيد غليظة تمسكه من كتفه فارتجف جسده وكأن شحنات كهربية عالية سرت فيه.. وكاد قلبه أن يتوقف من الخوف..ولم يستطع حتي أن يحصل علي حق الصراخ و إنما التفت وجسده يرتجف.. وقبل أن يقول أي شئ....
بادره هذا الرجل قائلاً في هدوء مستفز ليس له مكان هنا:
مساء الخير ياأستاذ..أنا آسف اني قطعت عليك خلوتك الجميلة دي.. بس طبعاً مش معقول أبقي ماشي في الوقت ده وأشوف حد و....
لم يكمل جملته عدما صرخ الأستاذ في وجهه بعد خروجه من فزعه وقال له:
أنت عارف الساعة كام ..! انت عارف ايه اللي انت عملته فيا دلوقتي! أناممكن كنت أموت فيها..حرام عليك ..مافيش شوية نظر..حضرتك مش واخد بالك احنا فين..!
هذا الرجل العجوز بدا متأنقاً مرتدياً بدلة كاملة بيضاء علي قميص أسود وكأنه كان قادماً لتوه من حفلة ..ولكني أعتقد أنه هنا لهدف ما..وليس صدفة..!!
أنا شكلي أفزعتك..أنا آسف...(قالها هذا الرجل العجوز بلهجة باردة)
ثم أردف قائلاً:
إنني أراك منزعج من حركة المياه المفائجة..وتمرد الهواء ..بالرغم من أني أحب أن أري هذا العالم المادي أقل سكوناً..من الممتع أن أراه في عنف وصخب..اندفاع الشلالات..ونيران مشتعلة متوهجة ..وتراقص الأغصان وأوراق الأشجار..وهيجان هذا البحر الذي أمامك..علي العموم أنا أراك غير مهتم..ولكنك ستعرف هذا الكلام بل ستتعلمه في وقت قريب..قريب جداً..وأرجو أن تحب ذلك..وشدد الرجل علي كلماته الأخيره تلك..
-من أنت..! وما شأني بكل هذا..( قالها الأستاذ بإستنكار)
-رد عليه الرجل في لهجة يٌعتقد منها أن الأستاذ يفهم مايقصد:
ألم تفهم بعد..! ألم أعطك الآن متعة مجانية..
- أي متعة هذه..!!؟
- ماشعرت به عندما خرجت المياه عن طبيعتها وأحسست بقوة الهواء تضرب وجهك هذا..ألم تشعر بالخوف..هي تلك.. انها متعة الخوف
- رد عليه الاستاذ وقد بدأ يشعر بالضيق:
يالك من رجل متحزلق..لقد فزعت من هذه المباغتة منك في هذا الوقت المتأخر..ودخولك الغير لائق..فمن الطبيعي أن أخاف..وتعتقد أن ذلك متعة..!! من أين أتي لك ذلك الإعتقاد..!
- لم يرد عليه الرجل وقال له في استعجال :
معذرة يجب أن أذهب الآن..
لم ينتظر حتي أن يأذن له..لذلك غضب الأستاذ منه وقال بغيظ حقاً إنك رجل مجنون وأحمق..هذه الأناقة لاتليق بعقلك السفيه...أتسمعني..!
<< نعم لقد سمعك...! >>
لأن الرجل لم يبعد كثيراً لذلك سمع تلك الجملة الأخيرة..وسيعود من أجلها...فتوقف..ونظرإليه في حدة من فوق كتفه العريض بعيونه السوداء اللامعة..بعدما اشتعل وجهه من الغضب
كيف يهينه بهذا الشكل..بعدما قدم له خدمة المتعة المجانية -كما يعتقد - فعاد لكي يريه الآن شكل الخوف..وليس صوته فقط..فاليستعد للمتعة الكبري..!
لم يري الأستاذ وجه الرجل الغاضب جيداً من بعيد في ذلك الظلام..بل تغيرت ملامحه الغاضبة بسرعة عندما رجع إليه..وكأن شيئاً لم يكن..!
- قال له في هدوء غريب..متأسف ياصديق الليلة..كان يجب الإستئذان..واعذرني من فضلك علي استعجالي
فرد عليه الأستاذ في استعلاء واضح قائلاً:
من الجميل أن يعرف الإنسان خطأه..اذهب ان شئت الآن.
- ولكن الرجل قال له:
قبل ذلك..أريد منك طلباً بسيطاً ..أرجوك..!
- من الواضح أن هذه الليلة لن تنتهي..هذا اثبات أن الجحيم هم الآخرون...ماذا تريد ياسيدي العزيز..؟(قالها بإستخفاف)
نظر إليه الرجل في انكسار ورأسه منخفضة ثم قال :
- أرجوك تأتي معي لتساعدني في حمل أمتعتي الي ذلك المسجد القريب..فأنا سأنام هذه الليلة هناك..
- ماذا..!! أتستخف بي..تتكلم وكأن ليس لك مأوي..كيف يكون مبيتك هناك في المسجد..ان هذه الأناقة لاتدل علي ذلك
- ليس كل ماتراه يبدو حقيقياً..الآن.. هل ستساعدني..؟
- فاليكن..حتي ننتهي من تلك الليلة..أين هذه الأمتعة..؟!
- إنها هنا..فلنذهب لإحضارها
ذهب الرجلان معا وأحضرا الأمتعة الي المسجد بالفعل وأثناء دخولهما تفاجأ الاستاذ بشئ أسود قائم في ركن بعيد وأخذ يقترب إليه شيئا فشيئاً حتي أصبح قريباً جداً..فوجدها امرأة مقوسة الظهر..واضعة رأسها علي ركبتيها فلا يبدو من وجهها شئ
علي الفور وفي تعجب وذهول واضحين..تسائل.. من هذه المرأة..أهي من أمثالك..أم ماذا..ألديك شئ تقوله لي..؟!!
- لم يرد عليه الرجل الذي بدأت ملامحه تتغير وبدأ يردد كلمات غريبة غير مفهومة
اقترب الأستاذ أكثر في حذر وعندما هم بوضع يده علي كتفيها.. بدأت فجأة تبكي بصوت غريب وكأنه صادر من قطة تبكي متألمة في عمق الليل وازداد الصوت في البكاء وانتفضت المرأة من مكانها بوجهها البشع الرهيب تجري في أرجاء المسجد علي أيديها وأرجلها وكأنها حيوان هائج..
تجمد الأستاذ في مكانه واتسعت عينياه..وتبول علي نفسه..وانهار من الرعب.. وكأنه رأي الجحيم أمامه
ثم علا صوت الرجل العجوز بشدة قائلاً: الآن تذوق ...الآن تمتع...الآن تعلْم..
وقبل أن يقع الأستاذ في الأرض مغشياً عليه..وجد الرجل والمرأة معاً في شخص واحد..صائحين في صراخ عنيف :
الآن... الجحيم ليس الآخرون..الجحيم هو أنت نفسك.
تمتبقلم: محمد فهمي