حركة و أجواء نشطة تخلل أركان المنزل ، فقد حان موعد العشاء في الاجتماع الأسري الكبير ، و لم تكن تلك الجلبة بسبب العشاء فقط ، فقد كان الجميع ينتظر قدوم هذا الموعد حيث أنه موعد قصة ما قبل النوم ، التي اعتاد الجميع على سماعها من جدهم " أبو ملك " ..
رائحة الطعام الشهية تخترق أنوف الجميع ، و أصوات الأحاديث الجانبية تُحْدِثُ ضوضاء لطيفة ، تزينها ضحكات الأطفال و مزاحهم ، و يغلفها قهقات الرجال حول مائدة الطعام ..
مرت ربع ساعة ،، و أطباق الطعام نزلت بشتى ألوانها و أصنافها و أطيبها ،، و اجتمع الجميع .. و عم هذا الجو الأسري الذي يفتقده الكثير من الناس .. انتهى الجميع في دقائق قليلة من طعاهم ،، و اتجهت كل الرؤوس و الآذان و الأعين ناحية الجد العجوز ،، منتظرة بلهف قصة اليوم ..
و قبل أن يبدأ الجد في حديثه ، تجولت عينيه بنظرة خاطفة ليتأكد من وجود الجميع ،، و استعدادهم لسماع قصة اليوم ، ثم تنحنح معتدلا ،، و بابتسماته اللى اعتاد أن يبدأ بها أي حديث ،، ارتسمت البسمة على أفواه الآخرين ،، و قلوبهم يشغلها شغف شديد لسماع الجد ..
اعتدل في جلسته ، ثم بدأ حديثه بصوته الوقور قائلا :
اليوم يا أحبابي ، سأقص عليكم قصة تحمل بين صفحاتها صفة جميلة هي " الوفاء " ..
تامر .. رجل أعمال مشهور ، بدأ حياته و صعد على سلم النجاح حتى وصل لغايته المنشودة ..
كان تامر أحد طلاب مدرسة مسافي الثانوية للبنين ، و كان معروفا بين زملائه و أستاذته بجده و اجتهاده و تفوقه الذي ما توقف يوما عن إبهار الجميع ،، و بفضل توفيق الله سبحانه و تعالى له أولا ،، و مثابرته و سعيه الجاد ،، حصل على شهادة الثانوية بالدرجة التي تؤهله للالتحاق بكلبة التجارة ، حلم حياته .. و الدرجة الأولى على سلم طموحاته ..
و كما كان مجتهدا في مدرسته .. نراه متفوقا أيضا في الجامعة .. فمرت الأربع سنوات سريعا ، و بدأ بعدها مباشرة في التحضير لشهادتي الماجستير و الدكتوراة ،، و لم يكن من الغريب أن يحصل عليها في وقت قياسي ،، فلطالما كان سريع البديهة و يحمل إصرار عجيب على تحقيق حلمه .. و هذا هو حال أي مجتهد ..
بعد انتهائه من تحصيل الدكتوراة .. عرض عليه والده مساعدته بإنشاء شركة صغيرة لينطلق منها إلى حلمه الكبير ،، و بعد عامين من العمل الشاق ،، أبحت الشركة من أكبر الشركات و أهمها في البلاد ،، و ليس ذلك فقط ،، بل امتد نجاحها لتصل للمستويات العالمية ،، و لها جذور كثيرة في بلاد المعمورة ..
و كحال أي شاب في هذا السن الذي قارب على الثلاثين ،، أن يفكر في الزواج و ينشأ أسرة تكون له سند و عون ،، و ليؤدي رسالته العظمى في الدنيا ،، و كافئه الله بعز و جل .. بزوجة صالحة كانت نعم السند و نعم العون .. و مضيا في حياتهما سوية و عاشا في سعادة غامرة بظل طاعة الله عز وجل ..
بعد مرور عامين من زواجهما ،، يشاء المولى عز وجل أن ترحل زوجته الغالية إلى الرفيق الأعلى ، و تحل عليه سحابة محملة بالابتلائات ،، فيسود على قلبه الحزن و الأسى ،، و تستمر سلسة المصائب و تحل مصيبة أخرى عليه ..
فقد تأخرت الشركة في دفع رواتب العمال ،، لأسباب مادية و ديون كبيرة على الشركة ،، فيعتصم العمال و يضربون عن العمل مطالبين بحقوقهم قبل استمرارهم في متابعة أعمالهم ..
هكذا فجأة ،، أحس تامر بأن الدنيا انقلبت على رأسه ، حائر لا يدري ما يفعل ،، فهو رب عمل و مسؤول ،، تمضي الأيام و يهتدي لفكرة كانت سببًا في مأساة جديدة ،، فيبيع شركته و يسدد أجور عماله جميعا و يسدد ديون الشركة ،، و يصبح هو " لا شيء " ..
انهارت تلك المؤسسة العظيمة ،، و لكم صاحبها لم يقنط من روح الله ،، بل كان نعم المؤمن الحق ،، فحمد الله و استعان به في وقت شدته ..
و في أحد الأيام و بينا هو نائم ،، تأتيه زوجته في منامه ،، ضاحكة بشوشة ،، تبشره بالخير و تسأله أن يثبت ،، فإن الله سيجعل بعد عسرٍ يسرًا .. ينتفض صاحبنا من منامه مستغربا ما رآه ،، فيقوم متوجها للصلاة ..
و بعد انتهائه من صلاته ،، تأخذه قدماه لخزانة زوجته ، يفتحها بهدوء ممزوج بالخوف و الحزن ، و يفتح صندوق ذكرياتهما معــًا ،، و بينما يفتح هذا الصندوق فإذا بورقة تسقط على الأرض و تستقر بين قدميه ، فينحني بسرعة ليلتقطها و يقلب محتوياتها فإذا برسالة قديمة من زوجته ،، أخذت عينيه تتحرك على أسطرها و كلماتها كسائق متهور .. يتابعها حرف بحرف و كلمة بكلمة ،، و كلما تعمق أكثر في قرائته كلما زادت عينيه حزنا لتفتح الباب أمام سيول الدموع الحارقة فتهوي على وجنتيه كالنار الحارقة ..
كانت محتويات الرسالة تحتوى على مدى حبها له ، و سعادتها معه ، و كيف كانت تحمد الله كثيرا بأن رزقها إياه ،، فهو النور لعينيها بل أغلى ،، و النبض لقلبها بل هو أنقى ،، و الهدى لبصيرتها بل هو أقوى .. و تُذيّل رسالتها بآية من كتاب الله : " إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا " ..
انتهى تامر من قراءة الرسالة ،، و حنينه و شوقه لزوجته يعتصر قلبه ألما على فراقها ،، و يشتاق للدنيا بجوراها ،، فهي هواءه و ماءه و ظله و نبض حياته .. حب حياته .. و قرة عينه .. و من شد حزنه ثقل كاهله فاستند على طرف سريره ،، و ترك الرسالة لتقع من يده و يقع معها مفاجأة أخرى ..
يستعيد تامر رباطة جأشه بعوبة بالغة ،، و حينما هم بالوقوف فإذا به يلحظ هذه الورقة الثانية التي سقطت من الرسالة التي كان يقرأها ،، فينحني ليتلتقطها و يقلبها بين يديه فإذا به شيك يحمل مبلغ طائل من الأموال ،، هذه الأموال التي كان يغدق بها على زوجته ليوفر لها سب العيش الكريم ،، بسبب عشقه المجنون لها ،، و في المقابل كانت هذه المخلصة تأخذ ما يكفي احتياجها و احتياجات المنزل و تدخر البقية ،، و تضع هذه الأموال في حساب باسم زوجها لينتفع منه في وقت شدة ..
أحاسيس غريبة تجتاح كيانه الآن ، فهو يشعر بفرحة غريبة تمتزج بالحزن الشديد ،، فكانت عينيه تبكي و شفتاه مبتسمة ،، فيلهج لسانه بقول " الحمد لله " .. حامدًا الله على هذه الزوجة الوفية - رحمها الله - ..
ينظر مرة أخرى إلى رسالتها و يرى تلك الآية ،، التي كان مفعولها عليه كمولد الكهرباء ،، يمد مدينة بأكملها .. فتشتعل حماسته و يقرر وفاء لزوجته أن يمضي في حياته و يرجع مرة أخرى لطريق الجد و الاجتهاد و حمل على عاتقه رسالة غالية ألا و هي خدمة المولى عز و جل و دينه و أبناء وطنه ..
تمر السنوات كالبرق ،، و يعود سهم تامر للمعان و التوهج ،، ليملع بريقه مرة أخرى في سماء الأعمال الحرة ،، و لم يخفت هذا البريق حتى بعد أن فارق حياته ،، فلقد ظلّ اسمه محفورا في ذاكرة الكثيرين الذين سمعو عنه و عايشوه و تعلمو منه " ..
.. تمت بحمد الله ..
25 - 07 - 2004
بقلمي