صفحة 17 من 19 الأولىالأولى ... 71516171819 الأخيرةالأخيرة
النتائج 161 إلى 170 من 189

الموضوع: مخلوقة اقتحمت حياتى.....

  1. #161
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Apr 2010
    المشاركات
    105

    Thumbs up

    ايه يا امانى اتاخرت تانى ليه ياجميل يا رب يكون خير احنا منتظرين باقى الحلقات بس وحياتك بسرعة شوية

  2. #162
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    مستلق ٍ على سريري و شاعر بإعياء شديد في جميع عضلاتي...
    أجاهد من أجل إرغام الهواء على المرور عبر أنفي شبه المسدود...
    تنتابني نوبات فظيعة من السعال إن تجرأت و فتحت فمي... أنا وليد...
    الصامد في وجه النواكب العظمى... مستسلم تماما أمام المرض!
    أقبلت أروى تحمل طبق الحساء الدافئ و شرابا من خلاصة الأعشاب...
    و جلست قربي... استويت أنا جالسا و قرّبت ُ كأس الشراب من أنفي
    استنشق البخار المتصاعد منه... علّه يساعد على توسيع مجرى الهواء...
    و لم أكن أحس برائحته... و لم أحس بطعمه...
    " الحمد لله "
    قلت بعدما أنهيت وجبتي فعقّبت أروى :
    " بالهناء و العافية... حبيبي "
    نظرت إليها فابتسمت بحنان... ساهم في رفع معنوياتي المحبطة...
    من جراء المرض و من حالي مع رغد و أقاربها...
    رددت إليها ابتسامة ممتنة... ثم عدت مضطجعا على الوسادة... شاعرا بالارتياح...
    الساعة كانت العاشرة مساء ً و أنا ألازم فراشي منذ حضوري عصرا ...
    و منذ حضوري لم أر رغد...
    سألت أروى :
    " ماذا عن رغد ؟ "
    هذه المرة لم تحاول أروى إخفاء انزعاجها من سؤالي... و ردّت :
    " ربّما نامت في غرفتها... لا تفكّر في شيء الآن... ابق مرتاحا و مسترخيا أرجوك "
    و كأنها تؤكد أن رغد هي أحد أسباب قلقي و تعبي... و هي حقيقة غنية عن التأكيد !
    ابتسمت ُ لأروى و قلت خاتما الحديث :
    " تصبحين على خير "
    كانت حالتي أفضل بكثير حينما نهضت صباح اليوم التالي... و تمكنت من مغادرة الفراش...
    أخذت حمّاما منعشا زاد من حيويتي...
    و فيما كنت أرتب فراشي بعد ذلك أقبل كل من أروى و الخالة
    و العم إلياس يطمئنون علي و يحمدون الله على تحسّن صحّتي...
    جلسنا نتبادل بعض الأحاديث بشيء من المرح و السرور...
    و الضحك أيضا... إنني أنتمي إلى هذه الأسرة...
    و إن الله كان غاية في اللطف و الكرم سبحانه... و هو يضعها في طريقي...
    تعويضا عما فقدت.. و عمّن فقدت...


    لكن... لم يكن حبهم لي و عطفهم علي...
    ليغني عن حاجتي للمحبة و العطف من شقيقي الوحيد سامر...
    أو شقيقتي الوحيدة دانة ... أو ... صغيرتي الحبيبة... رغد...
    ما أحوجني إليهم جميعا...
    لم أكن قد رأيت صغيرتي منذ قدمنا إلى المزرعة يوم أمس...
    لا أعرف كيف نامت أو كيف صحت... و أين تجلس و ماذا تفعل...
    و صدّقوني... إنه من المستحيل علي أن أتوقف عن التفكير بشأنها... مهما حاولت !
    قلت و أنا افتقدها بينما الجميع من حولي :
    " أين رغد ؟ "
    هناك نظرة كانت خاطفة تبادلتها أروى و أمها ، لم تغب عن انتباهي...
    بل كنت أرصدها... ثم قالت خالتي :
    " لم تغادر غرفتها منذ دخلتها يوم أمس "
    و هو جواب لا يصلح لرفع معنوياتي أو التخفيف عن آلامي... البتة !
    وجهت خطابي إلى خالتي :
    " اذهبي و تفقديها يا خالة... رجاء ً "
    ابتسمت خالتي و قالت :
    " بكل سرور يا بني... سأستدعيها ... "
    و غادرت يتبعها العم إلياس... ثم عادت قائلة :
    " يظهر أنها لا تزال نائمة "
    بعد ساعات انشغلت أورى و الخالة في المطبخ، و العم في المزرعة...
    و أنا في القلق المتزايد على رغد !
    ويحك يا رغد ! ألن تأتي للاطمئنان علي ؟؟
    لم أطق صبرا... و ذهبت أنا للاطمئنان عليها...
    طرقت باب غرفتها و قلت مصرحا :
    " أنا وليد "
    و لما أذنت لي بالدخول... دخلت فرأيتها تقف عند المكتبة ممسكة بقلم...
    ربما كانت ترسم...
    قلت :
    " كيف حالك يا رغد ؟ "
    رغد ابتسمت بفرح و قالت بصوت خافت :
    " بخير... "
    ثم بصوت أقوى :
    " كيف حالك أنت ؟ "
    و لمحت القلق على وجهها... و شعرت بسعادة !
    قلت مبتسما :
    " الحمد لله ... أفضل بكثير "
    فاتسعت ابتسامتها و ازداد فرحها و كررت :
    " الحمد لله "
    قلت :
    " لم ْ أرك ِ منذ الأمس... أقلقتني... لم َ لم ْ تأتي لزيارتي ؟ "
    طأطأت رغد رأسها ثم قالت :
    " لا استطيع أن... أتجوّل في المنزل ... "
    صمت ّ قليلا ثم قلت :
    " هذا ... بيتي يا رغد... و بيتي هو بيتك ... "
    لكن رغد هزّت رأسها مخالفة لكلامي... أردت أن استنبط منها رأيها فقلت :
    " أليس كذلك يا رغد ؟ "
    رفعت بصرها و قالت :
    " لن أعتبر ... هذا المكان... بيتي أبدا يا وليد...
    و سأظل أشعر بالغربة بينكم... طالما أنا هنا "
    تنهّدت ُ بمرارة... لم أكن أريد لصغيرتي أن تشعر بالغربة و هي معي أنا...
    قلت :
    " سنغادر غدا... إلى منزلنا يا صغيرتي "
    شيء من الاعتراض أيضا ارتسم على وجهها و قالت :
    " لكن... أنت... مريض "
    قلت مطمئنا





    " أنا بخير... سبق و أن حجزت التذاكر و لا داعي لتأجيل الأمر... "
    صمتت رغد فسألتها :
    " هل هذا ... سيريحك ؟ "
    انتقلت أنظار رغد من عيني إلى الأرض... و لم تجب...
    كنت أعرف بأنها لا ترغب في السفر بل في العودة إلى خالتها...
    خطوت خطوات نحوها حتى صرت جوارها تماما...
    و أمكنني رؤية الرسوم التي كانت ترسمها على الورقة...
    كان رسما لفتاة صغيرة تحضن ذراعا بشرية كبيرة...
    تخرج من حوت مغمض العينين مفتوح الفكين تقطر الدماء من أنيابه !!
    ما المقصود من هذا الرسم الغريب ؟؟!
    ناديتها :
    " رغد "
    فرفعت بصرها إلي ّ ...
    " عندما نذهب إلى المدينة الساحلية... فسألحقك بالجامعة ... "
    ظلت رغد تحدّق بي... بشيء من التشكك أو المفاجأة
    قلت مؤكدا :
    " لقد رتّبت للأمر...و دبّرت لك مقعدا في كلية الفنون...
    لتتابعي دراستك...ألم يكن هذا حلمك ؟"
    قالت بتردد :
    " أحقا ؟ "
    قلت :
    " نعم يا رغد... أنت موهوبة و المستقبل المشرق ينتظرك ... "
    رأيت تباشير ابتسامة تتسلل إلى وجهها ... إذن...
    فقد استحسنت الفكرة... الحمد لله !
    " و في وقت الإجازات سآخذك إلى خالتك... أعدك بذلك ...
    صدّقيني يا رغد ... أنا أعمل لمصلحتك ... و لم يكن قصدي إجبارك على شيء...
    و إن فعلت... أو تصرّفت معك ِ بصرامة... فأرجوك... سامحيني "
    عادت رغد ببصرها نحو الأرض ...
    " هل تسامحيني يا رغد ؟ "
    رغد ابتسمت و أومأت إيجابا فتنفّست الصعداء عبر فمي بارتياح...
    تصادم الهواء البارد مع حلقي المتهيّج فأثار نوبة خفيفة من السعال
    جعلت رغد ترفع رأسها بقلق و تمسك بذراعي تلقائيا و تهتف :
    " وليد ... "
    انتهت نوبة السعال ... و ركزت نظري نحو رغد...
    و رأيتها تشد ذراعي بقوّة ... تكاد تحضنها !
    فيما تتجلى تعبيرات القلق و الخوف على قسمات وجهها...
    ابتسمت ! لا بل تحوّل سعالي إلى قهقهة !
    أطلقت ضحكة قوية و أنا أقول :
    " لا تخافي يا صغيرتي ... حتى الحيتان تمرض أحيانا ! "
    تحسنت صحتي كثيرا و سافرنا جوا إلى العاصمة
    و من ثم إلى المدينة الساحلية أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا.
    أقبلت على العمل بجد و شغلت معظم أوقاتي فيه
    و قسّمت الباقي بين شؤون المنزل، و أروى و رغد
    و آه من هاتين الفتاتين !
    إنهما تغاران من بعضهما البعض كثيرا
    و باءت كل محاولاتي للتأليف فيما بينهما
    و تقريب قلبيهما لبعضهما البعض بالفشل و الخذلان...
    المشاحنات تضاءلت بعض الشيء مع بداية الموسم الدراسي...
    إذ أن رغد أصبحت تغيب عن المنزل فترات طويلة...
    الأمر كان صعبا في البداية إلا أن رغد تأقلمت مع زميلاتها
    و من محاسن الصدف
    أن كانت إحدى بنات السيد أسامة – المشرف السابق على إدارة مصنع أروى-
    زميلة لها و قد تصاحبت الفتاتان و توطدت العلاقة بينهما...
    تماما كما توطّدت فيما بيني و بين السيّد أسامه عبر الشهور...
    و وافق مبدئيا على عرضي بالعودة إلى المصنع...
    و الدراسة شغلت فراغ رغد السابق و نظّمت حياتها
    و زادت من ثقتها بنفسها و بأهميتها
    و مكانتها في هذا الكون بعد أن فقدت كل ذلك بموت والدي ّ رحمهما الله...
    و لأن الله أنعم علي بالكثير و له الحمد و الشكر دائما و أبدا...
    فقد أغدقت العطاء على صغيرتي
    و عيّشتها حياة مرفهة كالتي كانت تعيشها في كنف والديّ أو أفضل بقليل...


    و فتحت لها حسابا خاصا في أحد المصارف...
    و وظفت خادمة ترعى شؤونها و شؤون المنزل...
    ابتسمت لي الدنيا كثيرا و انتعشت نفسيتي...
    و لم يعد يعكر صفو حياتي غير الحرب...
    إضافة إلى ... المعارك الداخلية المستمرة بين الفتاتين !
    " يجب أن تتحدّث إلى ابنة عمّك يا وليد فهي مصرّة على المذاكرة في المطبخ ! "
    تقوّس حاجباي استغرابا و سألت :
    " المطبخ !؟ "
    قالت أروى :
    " نعم المطبخ ! و ها قد نشرت كتبها و أوراقها في كل أرجائه
    بعدما سمعتني أقول لأمي أنني سأعد عشاء مميزا جدا لهذه الليلة ! "
    ضحكتُ بخفة و قلت :
    " دعيها تذاكر حيثما تريد ! "
    بدا الاستهجان على وجه أروى و قالت :
    " و لكن يا وليد الزمن يداهمنا
    و لن أتمكن من إعداد العشاء للضيوف في الوقت المناسب ! "
    كنت آنذاك مستلق ٍ على أحد المقاعد في غرفة المعيشة الرئيسية ...
    أرخي عضلاتي بعد عناء يوم عمل طويل... و الساعة تقترب من الخامسة مساء ...
    أغمضت عيني ّ و قلت بلا مبالاة :
    " لا تقلقي... إنه سيف ليس إلا ! "
    و كنت قد دعوت سيف و زوجته و طفلهما طبعا لمشاركتنا العشاء هذه الليلة...
    " وليد ! "
    فتحت عيني فرأيت أروى تنظر إلي بغضب
    واضعة يديها على خصريها. ابتسمت و قلت :
    " حسنا سأتحدّث إليها ... لا تغضبي "
    و نهضت بكسل و أنا أمدد أطرافي و أتثاءب !
    توجهت نحو المطبخ و وجدت الباب مغلقا فطرقته و ناديت رغد...
    بعد ثوان فتحت رغد الباب و وقفت وسط الفتحة
    " مرحبا رغد... كيف كان يومك ؟ "
    ابتسمت و قالت :
    " جيد..."
    " الحمد لله... و كيف دروسك ؟ "
    قلت ذلك و أنا أخطو نحو الأمام بهدف دخول المطبخ
    غير أن رغد ظلت واقفة معترضة طريقي كأنها تمنعني من الدخول !
    قالت متلعثمة :
    " جيدة... ممتازة "
    إذن في الأمر سر !
    تقدمت خطوة بعد و لم تتحرك ... بل ظهر التوتر على وجهها و احمر خداها !
    قلت :
    " بعد إذنك ! "
    و تظاهرت ُ بالعفوية و تنحّت ْ هي عن طريقي... بارتباك !
    شعرت بالفضول ! لماذا لا تريد رغد منّي دخول المطبخ...؟؟
    نظرت من حولي فرأيت مجموعة من الكتب و الدفاتر و الأوراق...
    و الكراسات أيضا مبعثرة هنا و هناك...
    و كان كوب شاي موضوعا على الطاولة و منه يتصاعد البخار...
    و إلى جانبه كراسة و بعض أقلام التلوين...
    استنتجت أن رغد كانت تشرب الشاي جالسة على هذا الكرسي...
    اقتربت منه فأسرعت هي نحو الكراسة و أغلقتها و حملتها في يدها...
    إذن هنا مكمن السر !
    ابتسمت ُ و قلت ُ بمكر :
    " أريني ما كنت ترسمين ؟ "
    ارتبكت رغد و قالت :
    " مجرد خربشات "
    اقتربت منها و قلت :
    " دعيني أرى "
    قالت بإصرار :




    " إنها لا تستحق الرؤية ... دعك منها "
    وسّعت ابتسامتي و قلت بإصرار أكبر و بفضول أشد :
    " أريد رؤيتها... هاتيها "
    و مددت يدي نحوها... و لما لم تتحرك قلت :
    " هيا رغد "
    و تحركت يدها بتردد و أخيرا سلمت الكراسة إلي...
    تعرفون كم تحب صغيرتي الرسم و كم هي ماهرة فيه...
    و كنت دائما أطلع على رسماتها و أتابع جديدها من حين لآخر... و يزداد إعجابي...
    أخذت أتصفح الكراسة صفحة صفحة و أتأمل الرسمات...
    رسمات جميلة لأشياء مختلفة... من يد فنانة !
    و رغد كانت تراقبني باضطراب ملحوظ...
    شيء يثير فضولي لأقصى حد ماذا تخبئين ؟؟!
    و أخيرا وصلت إلى آخر رسمة...
    و هي الصفحة التي كانت رغد ترسم عليها قبل وصولي بالتأكيد...
    نظرت إلى الرسمة و فوجئت !
    ثم نظرت إلى رغد ... و تلقائيا أطلقت ُ آهة استنكارية !
    أتدرون ما كان مرسوما ؟؟
    صورة لأروى...و هي ترتدي مريلة المطبخ

    و قد امتد شعرها الأشقر الحريري الطويل حتى لامس الأرض و كنسها
    رغد سحبت الكراسة فجأة و أخفتها خلف ظهرها...
    أما أنا فهززت رأسي اعتراضا و استنكارا...
    و يبدو أن رغد أحست بالخجل من رسمها هذا و نزعت الورقة من الكراسة
    و جعّدتها و ألقت بها في سلة المهملات... ثم قالت دون أن تنظر إلي :
    " آسفة "
    قلت رغبة منّي في تخفيف الحرج :
    " أنت موهبة خطيرة ! "
    و لم تعلق رغد بل شرعت في جمع كتبها و أشياءها المبعثرة و من ثم هربت نحو الباب...
    قلت :
    " الشاي ! "
    مشيرا إلى كوب الشاي الذي تركته على الطاولة... فالتفتت إلي و قالت :
    " تركت ُ لها كل شيء... أنا آسفة "
    و ولت مسرعة !
    جلست أنا على نفس المقعد الذي رجحت أن رغد كانت تجلس عليه
    و في داخلي مزيج غير متجانس من الراحة و الانزعاج... و الضحك و الغضب !
    بعد قليل أقبلت أروى تحمل وعاء يحوي بعض الخضار المقشرة
    و كيسا يحوي قشورها...
    و الظاهر أنها عملت في تقشير الخضار في مكان ما خارج المطبخ قبل أن تأتي إلي ّ في غرفة المعيشة...
    وضعت أروى الوعاء على الطاولة و ابتسمت و هي تقول :
    " أخيرا ! ألم تطب لها الدراسة هذا اليوم إلا هنا ؟؟ "
    ابتسمت ُ... و لم أعلّق...
    و توجهت ْ أروى حاملة كيس القشور نحو سلة المهملات...
    كنت ُ أراقب الدخان المتصاعد من كأس شاي رغد...
    و لا أعرف لم تملكتني رغبة عجيبة في احتسائه !
    و ضعت يدي عليه و حالما أوشكت على تحريكه أوقفني صوت أروى :
    " ما هذا ؟ "
    تراجعت بسرعة... و في اعتقادي أنها تستنكر رغبتي العجيبة هذه !
    ما الذي يدعوني لشرب شاي تركته رغد !؟؟
    التفت نحوها ببعض الخجل..
    لكنها لم تكن تراقب الشاي...
    كانت تمسك بورقة مجعّدة مفتوحة بين يديها... و تحملق فيها بغضب...
    وقفت و اقتربت منها... فأخذت تحدّق بي ... ثم مدّت الورقة إلي و قالت :
    " انظر... مذاكرة ابنة عمّك "
    حقيقة لم أعرف كيف أتصرف حيال الموقف...
    حاولت التظاهر بالمرح و جعل الأمر يبدو دعابة بسيطة لكن أروى كانت غاضبة جدا...
    " هذه إهانة متعمّدة يا وليد... لن أسكت عنها "
    " لا أعتقد أن رغد تقصد شيئا ... إنها دعابة لا أكثر ! "


    قالت بغضب :
    " ليست دعابة يا وليد... منذ متى و ابنة عمّك تهوى مداعبتي ؟؟
    إنها تقصد إهانتي بهذا الرسم ... لكنّي لن أسكت ! "
    و من فورها خرجت من الغرفة متجهة إلى رغد...
    و لم تفلح محاولتي ثنيها عن إثارة مشكلة و خصوصا في هذا الوقت...!
    ~~~~~~~
    أقبلت أروى إلى غرفتي و كنت أرتب كتبي
    و دفاتري على مكتبي الجديد و الذي اشتراه وليد لي مؤخرا...
    وليد اشترى لي أشياء كثيرة...و غير طقم غرفة نومي كاملا...
    و كان يود نقل أشيائي إلى غرفة دانة سابقا... فهي أكبر حجما...
    و لكنني أصررت على البقاء في غرفتي الصغيرة الملاصقة لغرفته...
    و منعت ُ أروى و أمها من استخدام أي ٍ من غرف النوم التي كنا نستخدمها سابقا...
    فأقامتا في غرفتين من الناحية الأخرى لمنزلنا الكبير...
    و لأنني أعرف أنها ماهرة في أعمال المنزل و خصوصا الطبخ
    و أنها تتباهى بذلك أمام وليد و أمامي...
    و أنها تريد أن تستعرض مهاراتها الليلة على العشاء ...
    فقد اخترت المطبخ بالذات كي أذاكر فيه محاضراتي هذا اليوم !
    يجب أن تعرف هذه الدخيلة أن هذا بيتي أنا... و مطبخي أنا...
    و أنا حرّة في فعل ما أريد وقتما أريد !
    " ماذا تعنين بهذا يا رغد ؟ "
    كانت أروى تقول و هي ترمي بالورقة التي نزعتـُها من كراستي قبل قليل...
    و فيها صورة لأروى الحسناء تنظف الأرض بشعرها الطويل !
    أوه ! كيف وصلت إليها..؟ مستحيل أن يكون وليد !
    كنت ُ غاضبة من تباهيها بمهاراتها... و وعدها وليد بتقديم وجبة لذيذة تبهر ضيوفنا...
    و من شدة غيظي احتللت المطبخ و رسمتها بهذا الشكل!
    لكني خجلة من وليد و الفكرة التي أخذها عنّي... و أريد أن أعتذر لها !
    " أجيبي ؟؟ "
    صرخت أروى و هي شديدة الغيظ... كنت بالفعل سأعتذر لولا أنها أضافت :
    " أنا لست خادمة هذا المنزل بل سيّدته و إن كنت ستسخرين من شيء
    فالأفضل أن تسخري من نكرانك للجميل
    و عيشك مرفهة مدللة من نقود لم ترثيها و لم تتعبي لجنيها يا ابنة العز و الثراء "
    شعرت بطعنة قوية في صدري أوشكت أن أرمي بالكتاب الذي بين يدي نحو وجهها
    لكنني لم أملك إلا الألم...
    و هل أملك ردا غيره ؟؟
    بم أرد و هي الحقيقة..؟؟ ألست ُ أنا العالة على الغير...
    أليست النقود التي يجلبها لي وليد... هي من ثروتها ؟
    بعد أن انصرفت بفترة حضر وليد
    و كعادته يأتي بعد انتهاء أي مشادة بيننا حتى لا يزيد تدخله الأمر سوء...
    و لا بد أنه قضى الدقائق السابقة في استرضائها و جاء الآن ليواسني... أو ليوبخني!
    " هل أدخل ؟ "
    و هو يقف عند الباب... و ينظر إلى الورقة المرمية على الأرض...
    ثم يلتقطها و يتأملها برهة، و يمزقها و يرمي بأشلائها في سلة المهملات...
    قال :
    " انتهى الأمر "
    مسكين وليد! أتظن بأنه بتمزيقك للورقة تحل المشكلة؟
    لا أظنها تحل إلا إذا مزّقت الفتاة المرسومة عليها في الواقع !
    قال :
    " لا تكرري ذلك ثانية يا رغد ... أرجوك "
    نظرت إليه بحنق... أهذا كل ما لديك ؟؟
    قال :
    " انظري أي مشاكل تقع بسبب تافه كهذا...
    نحن في غنى عن المزيد... دعينا نعيش في سلام "
    و استفزتني جملته فقلت بغضب :
    " و هل ترى أنني شارون أم بوش لتخاطبني عن السلام ؟ "
    و ربما أثارت جملتي اندهاشه أو حتى لم يستوعبها إذ أنه حملق في ّ باستغراب
    قلت بعصبية :
    " هل أنا سبب المشاكل ؟ "
    قال :
    " لا ... لكن أروى لا تتعمّد مضايقتك يا رغد ... إنها طيبة و مسالمة جدا "













    ~~~~~~~~
    مستلق ٍ على سريري و شاعر بإعياء شديد في جميع عضلاتي...
    أجاهد من أجل إرغام الهواء على المرور عبر أنفي شبه المسدود...
    تنتابني نوبات فظيعة من السعال إن تجرأت و فتحت فمي... أنا وليد...
    الصامد في وجه النواكب العظمى... مستسلم تماما أمام المرض!
    أقبلت أروى تحمل طبق الحساء الدافئ و شرابا من خلاصة الأعشاب...
    و جلست قربي... استويت أنا جالسا و قرّبت ُ كأس الشراب من أنفي
    استنشق البخار المتصاعد منه... علّه يساعد على توسيع مجرى الهواء...
    و لم أكن أحس برائحته... و لم أحس بطعمه...
    " الحمد لله "
    قلت بعدما أنهيت وجبتي فعقّبت أروى :
    " بالهناء و العافية... حبيبي "
    نظرت إليها فابتسمت بحنان... ساهم في رفع معنوياتي المحبطة...
    من جراء المرض و من حالي مع رغد و أقاربها...
    رددت إليها ابتسامة ممتنة... ثم عدت مضطجعا على الوسادة... شاعرا بالارتياح...
    الساعة كانت العاشرة مساء ً و أنا ألازم فراشي منذ حضوري عصرا ...
    و منذ حضوري لم أر رغد...
    سألت أروى :
    " ماذا عن رغد ؟ "
    هذه المرة لم تحاول أروى إخفاء انزعاجها من سؤالي... و ردّت :
    " ربّما نامت في غرفتها... لا تفكّر في شيء الآن... ابق مرتاحا و مسترخيا أرجوك "
    و كأنها تؤكد أن رغد هي أحد أسباب قلقي و تعبي... و هي حقيقة غنية عن التأكيد !
    ابتسمت ُ لأروى و قلت خاتما الحديث :
    " تصبحين على خير "
    كانت حالتي أفضل بكثير حينما نهضت صباح اليوم التالي... و تمكنت من مغادرة الفراش...
    أخذت حمّاما منعشا زاد من حيويتي...
    و فيما كنت أرتب فراشي بعد ذلك أقبل كل من أروى و الخالة
    و العم إلياس يطمئنون علي و يحمدون الله على تحسّن صحّتي...
    جلسنا نتبادل بعض الأحاديث بشيء من المرح و السرور...
    و الضحك أيضا... إنني أنتمي إلى هذه الأسرة...
    و إن الله كان غاية في اللطف و الكرم سبحانه... و هو يضعها في طريقي...
    تعويضا عما فقدت.. و عمّن فقدت...


    لكن... لم يكن حبهم لي و عطفهم علي...
    ليغني عن حاجتي للمحبة و العطف من شقيقي الوحيد سامر...
    أو شقيقتي الوحيدة دانة ... أو ... صغيرتي الحبيبة... رغد...
    ما أحوجني إليهم جميعا...
    لم أكن قد رأيت صغيرتي منذ قدمنا إلى المزرعة يوم أمس...
    لا أعرف كيف نامت أو كيف صحت... و أين تجلس و ماذا تفعل...
    و صدّقوني... إنه من المستحيل علي أن أتوقف عن التفكير بشأنها... مهما حاولت !
    قلت و أنا افتقدها بينما الجميع من حولي :
    " أين رغد ؟ "
    هناك نظرة كانت خاطفة تبادلتها أروى و أمها ، لم تغب عن انتباهي...
    بل كنت أرصدها... ثم قالت خالتي :
    " لم تغادر غرفتها منذ دخلتها يوم أمس "
    و هو جواب لا يصلح لرفع معنوياتي أو التخفيف عن آلامي... البتة !
    وجهت خطابي إلى خالتي :
    " اذهبي و تفقديها يا خالة... رجاء ً "
    ابتسمت خالتي و قالت :
    " بكل سرور يا بني... سأستدعيها ... "
    و غادرت يتبعها العم إلياس... ثم عادت قائلة :
    " يظهر أنها لا تزال نائمة "
    بعد ساعات انشغلت أورى و الخالة في المطبخ، و العم في المزرعة...
    و أنا في القلق المتزايد على رغد !
    ويحك يا رغد ! ألن تأتي للاطمئنان علي ؟؟
    لم أطق صبرا... و ذهبت أنا للاطمئنان عليها...
    طرقت باب غرفتها و قلت مصرحا :
    " أنا وليد "
    و لما أذنت لي بالدخول... دخلت فرأيتها تقف عند المكتبة ممسكة بقلم...
    ربما كانت ترسم...
    قلت :
    " كيف حالك يا رغد ؟ "
    رغد ابتسمت بفرح و قالت بصوت خافت :
    " بخير... "
    ثم بصوت أقوى :
    " كيف حالك أنت ؟ "
    و لمحت القلق على وجهها... و شعرت بسعادة !
    قلت مبتسما :
    " الحمد لله ... أفضل بكثير "
    فاتسعت ابتسامتها و ازداد فرحها و كررت :
    " الحمد لله "
    قلت :
    " لم ْ أرك ِ منذ الأمس... أقلقتني... لم َ لم ْ تأتي لزيارتي ؟ "
    طأطأت رغد رأسها ثم قالت :
    " لا استطيع أن... أتجوّل في المنزل ... "
    صمت ّ قليلا ثم قلت :
    " هذا ... بيتي يا رغد... و بيتي هو بيتك ... "
    لكن رغد هزّت رأسها مخالفة لكلامي... أردت أن استنبط منها رأيها فقلت :
    " أليس كذلك يا رغد ؟ "
    رفعت بصرها و قالت :
    " لن أعتبر ... هذا المكان... بيتي أبدا يا وليد...
    و سأظل أشعر بالغربة بينكم... طالما أنا هنا "
    تنهّدت ُ بمرارة... لم أكن أريد لصغيرتي أن تشعر بالغربة و هي معي أنا...
    قلت :
    " سنغادر غدا... إلى منزلنا يا صغيرتي "
    شيء من الاعتراض أيضا ارتسم على وجهها و قالت :
    " لكن... أنت... مريض "
    قلت مطمئنا





    " أنا بخير... سبق و أن حجزت التذاكر و لا داعي لتأجيل الأمر... "
    صمتت رغد فسألتها :
    " هل هذا ... سيريحك ؟ "
    انتقلت أنظار رغد من عيني إلى الأرض... و لم تجب...
    كنت أعرف بأنها لا ترغب في السفر بل في العودة إلى خالتها...
    خطوت خطوات نحوها حتى صرت جوارها تماما...
    و أمكنني رؤية الرسوم التي كانت ترسمها على الورقة...
    كان رسما لفتاة صغيرة تحضن ذراعا بشرية كبيرة...
    تخرج من حوت مغمض العينين مفتوح الفكين تقطر الدماء من أنيابه !!
    ما المقصود من هذا الرسم الغريب ؟؟!
    ناديتها :
    " رغد "
    فرفعت بصرها إلي ّ ...
    " عندما نذهب إلى المدينة الساحلية... فسألحقك بالجامعة ... "
    ظلت رغد تحدّق بي... بشيء من التشكك أو المفاجأة
    قلت مؤكدا :
    " لقد رتّبت للأمر...و دبّرت لك مقعدا في كلية الفنون...
    لتتابعي دراستك...ألم يكن هذا حلمك ؟"
    قالت بتردد :
    " أحقا ؟ "
    قلت :
    " نعم يا رغد... أنت موهوبة و المستقبل المشرق ينتظرك ... "
    رأيت تباشير ابتسامة تتسلل إلى وجهها ... إذن...
    فقد استحسنت الفكرة... الحمد لله !
    " و في وقت الإجازات سآخذك إلى خالتك... أعدك بذلك ...
    صدّقيني يا رغد ... أنا أعمل لمصلحتك ... و لم يكن قصدي إجبارك على شيء...
    و إن فعلت... أو تصرّفت معك ِ بصرامة... فأرجوك... سامحيني "
    عادت رغد ببصرها نحو الأرض ...
    " هل تسامحيني يا رغد ؟ "
    رغد ابتسمت و أومأت إيجابا فتنفّست الصعداء عبر فمي بارتياح...
    تصادم الهواء البارد مع حلقي المتهيّج فأثار نوبة خفيفة من السعال
    جعلت رغد ترفع رأسها بقلق و تمسك بذراعي تلقائيا و تهتف :
    " وليد ... "
    انتهت نوبة السعال ... و ركزت نظري نحو رغد...
    و رأيتها تشد ذراعي بقوّة ... تكاد تحضنها !
    فيما تتجلى تعبيرات القلق و الخوف على قسمات وجهها...
    ابتسمت ! لا بل تحوّل سعالي إلى قهقهة !
    أطلقت ضحكة قوية و أنا أقول :
    " لا تخافي يا صغيرتي ... حتى الحيتان تمرض أحيانا ! "
    تحسنت صحتي كثيرا و سافرنا جوا إلى العاصمة
    و من ثم إلى المدينة الساحلية أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا.
    أقبلت على العمل بجد و شغلت معظم أوقاتي فيه
    و قسّمت الباقي بين شؤون المنزل، و أروى و رغد
    و آه من هاتين الفتاتين !
    إنهما تغاران من بعضهما البعض كثيرا
    و باءت كل محاولاتي للتأليف فيما بينهما
    و تقريب قلبيهما لبعضهما البعض بالفشل و الخذلان...
    المشاحنات تضاءلت بعض الشيء مع بداية الموسم الدراسي...
    إذ أن رغد أصبحت تغيب عن المنزل فترات طويلة...
    الأمر كان صعبا في البداية إلا أن رغد تأقلمت مع زميلاتها
    و من محاسن الصدف
    أن كانت إحدى بنات السيد أسامة – المشرف السابق على إدارة مصنع أروى-
    زميلة لها و قد تصاحبت الفتاتان و توطدت العلاقة بينهما...
    تماما كما توطّدت فيما بيني و بين السيّد أسامه عبر الشهور...
    و وافق مبدئيا على عرضي بالعودة إلى المصنع...
    و الدراسة شغلت فراغ رغد السابق و نظّمت حياتها
    و زادت من ثقتها بنفسها و بأهميتها
    و مكانتها في هذا الكون بعد أن فقدت كل ذلك بموت والدي ّ رحمهما الله...
    و لأن الله أنعم علي بالكثير و له الحمد و الشكر دائما و أبدا...
    فقد أغدقت العطاء على صغيرتي
    و عيّشتها حياة مرفهة كالتي كانت تعيشها في كنف والديّ أو أفضل بقليل...


    و فتحت لها حسابا خاصا في أحد المصارف...
    و وظفت خادمة ترعى شؤونها و شؤون المنزل...
    ابتسمت لي الدنيا كثيرا و انتعشت نفسيتي...
    و لم يعد يعكر صفو حياتي غير الحرب...
    إضافة إلى ... المعارك الداخلية المستمرة بين الفتاتين !
    " يجب أن تتحدّث إلى ابنة عمّك يا وليد فهي مصرّة على المذاكرة في المطبخ ! "
    تقوّس حاجباي استغرابا و سألت :
    " المطبخ !؟ "
    قالت أروى :
    " نعم المطبخ ! و ها قد نشرت كتبها و أوراقها في كل أرجائه
    بعدما سمعتني أقول لأمي أنني سأعد عشاء مميزا جدا لهذه الليلة ! "
    ضحكتُ بخفة و قلت :
    " دعيها تذاكر حيثما تريد ! "
    بدا الاستهجان على وجه أروى و قالت :
    " و لكن يا وليد الزمن يداهمنا
    و لن أتمكن من إعداد العشاء للضيوف في الوقت المناسب ! "
    كنت آنذاك مستلق ٍ على أحد المقاعد في غرفة المعيشة الرئيسية ...
    أرخي عضلاتي بعد عناء يوم عمل طويل... و الساعة تقترب من الخامسة مساء ...
    أغمضت عيني ّ و قلت بلا مبالاة :
    " لا تقلقي... إنه سيف ليس إلا ! "
    و كنت قد دعوت سيف و زوجته و طفلهما طبعا لمشاركتنا العشاء هذه الليلة...
    " وليد ! "
    فتحت عيني فرأيت أروى تنظر إلي بغضب
    واضعة يديها على خصريها. ابتسمت و قلت :
    " حسنا سأتحدّث إليها ... لا تغضبي "
    و نهضت بكسل و أنا أمدد أطرافي و أتثاءب !
    توجهت نحو المطبخ و وجدت الباب مغلقا فطرقته و ناديت رغد...
    بعد ثوان فتحت رغد الباب و وقفت وسط الفتحة
    " مرحبا رغد... كيف كان يومك ؟ "
    ابتسمت و قالت :
    " جيد..."
    " الحمد لله... و كيف دروسك ؟ "
    قلت ذلك و أنا أخطو نحو الأمام بهدف دخول المطبخ
    غير أن رغد ظلت واقفة معترضة طريقي كأنها تمنعني من الدخول !
    قالت متلعثمة :
    " جيدة... ممتازة "
    إذن في الأمر سر !
    تقدمت خطوة بعد و لم تتحرك ... بل ظهر التوتر على وجهها و احمر خداها !
    قلت :
    " بعد إذنك ! "
    و تظاهرت ُ بالعفوية و تنحّت ْ هي عن طريقي... بارتباك !
    شعرت بالفضول ! لماذا لا تريد رغد منّي دخول المطبخ...؟؟
    نظرت من حولي فرأيت مجموعة من الكتب و الدفاتر و الأوراق...
    و الكراسات أيضا مبعثرة هنا و هناك...
    و كان كوب شاي موضوعا على الطاولة و منه يتصاعد البخار...
    و إلى جانبه كراسة و بعض أقلام التلوين...
    استنتجت أن رغد كانت تشرب الشاي جالسة على هذا الكرسي...
    اقتربت منه فأسرعت هي نحو الكراسة و أغلقتها و حملتها في يدها...
    إذن هنا مكمن السر !
    ابتسمت ُ و قلت ُ بمكر :
    " أريني ما كنت ترسمين ؟ "
    ارتبكت رغد و قالت :
    " مجرد خربشات "
    اقتربت منها و قلت :
    " دعيني أرى "
    قالت بإصرار :




    " إنها لا تستحق الرؤية ... دعك منها "
    وسّعت ابتسامتي و قلت بإصرار أكبر و بفضول أشد :
    " أريد رؤيتها... هاتيها "
    و مددت يدي نحوها... و لما لم تتحرك قلت :
    " هيا رغد "
    و تحركت يدها بتردد و أخيرا سلمت الكراسة إلي...
    تعرفون كم تحب صغيرتي الرسم و كم هي ماهرة فيه...
    و كنت دائما أطلع على رسماتها و أتابع جديدها من حين لآخر... و يزداد إعجابي...
    أخذت أتصفح الكراسة صفحة صفحة و أتأمل الرسمات...
    رسمات جميلة لأشياء مختلفة... من يد فنانة !
    و رغد كانت تراقبني باضطراب ملحوظ...
    شيء يثير فضولي لأقصى حد ماذا تخبئين ؟؟!
    و أخيرا وصلت إلى آخر رسمة...
    و هي الصفحة التي كانت رغد ترسم عليها قبل وصولي بالتأكيد...
    نظرت إلى الرسمة و فوجئت !
    ثم نظرت إلى رغد ... و تلقائيا أطلقت ُ آهة استنكارية !
    أتدرون ما كان مرسوما ؟؟
    صورة لأروى...و هي ترتدي مريلة المطبخ

    و قد امتد شعرها الأشقر الحريري الطويل حتى لامس الأرض و كنسها
    رغد سحبت الكراسة فجأة و أخفتها خلف ظهرها...
    أما أنا فهززت رأسي اعتراضا و استنكارا...
    و يبدو أن رغد أحست بالخجل من رسمها هذا و نزعت الورقة من الكراسة
    و جعّدتها و ألقت بها في سلة المهملات... ثم قالت دون أن تنظر إلي :
    " آسفة "
    قلت رغبة منّي في تخفيف الحرج :
    " أنت موهبة خطيرة ! "
    و لم تعلق رغد بل شرعت في جمع كتبها و أشياءها المبعثرة و من ثم هربت نحو الباب...
    قلت :
    " الشاي ! "
    مشيرا إلى كوب الشاي الذي تركته على الطاولة... فالتفتت إلي و قالت :
    " تركت ُ لها كل شيء... أنا آسفة "
    و ولت مسرعة !
    جلست أنا على نفس المقعد الذي رجحت أن رغد كانت تجلس عليه
    و في داخلي مزيج غير متجانس من الراحة و الانزعاج... و الضحك و الغضب !
    بعد قليل أقبلت أروى تحمل وعاء يحوي بعض الخضار المقشرة
    و كيسا يحوي قشورها...
    و الظاهر أنها عملت في تقشير الخضار في مكان ما خارج المطبخ قبل أن تأتي إلي ّ في غرفة المعيشة...
    وضعت أروى الوعاء على الطاولة و ابتسمت و هي تقول :
    " أخيرا ! ألم تطب لها الدراسة هذا اليوم إلا هنا ؟؟ "
    ابتسمت ُ... و لم أعلّق...
    و توجهت ْ أروى حاملة كيس القشور نحو سلة المهملات...
    كنت ُ أراقب الدخان المتصاعد من كأس شاي رغد...
    و لا أعرف لم تملكتني رغبة عجيبة في احتسائه !
    و ضعت يدي عليه و حالما أوشكت على تحريكه أوقفني صوت أروى :
    " ما هذا ؟ "
    تراجعت بسرعة... و في اعتقادي أنها تستنكر رغبتي العجيبة هذه !
    ما الذي يدعوني لشرب شاي تركته رغد !؟؟
    التفت نحوها ببعض الخجل..
    لكنها لم تكن تراقب الشاي...
    كانت تمسك بورقة مجعّدة مفتوحة بين يديها... و تحملق فيها بغضب...
    وقفت و اقتربت منها... فأخذت تحدّق بي ... ثم مدّت الورقة إلي و قالت :
    " انظر... مذاكرة ابنة عمّك "
    حقيقة لم أعرف كيف أتصرف حيال الموقف...
    حاولت التظاهر بالمرح و جعل الأمر يبدو دعابة بسيطة لكن أروى كانت غاضبة جدا...
    " هذه إهانة متعمّدة يا وليد... لن أسكت عنها "
    " لا أعتقد أن رغد تقصد شيئا ... إنها دعابة لا أكثر ! "


    قالت بغضب :
    " ليست دعابة يا وليد... منذ متى و ابنة عمّك تهوى مداعبتي ؟؟
    إنها تقصد إهانتي بهذا الرسم ... لكنّي لن أسكت ! "
    و من فورها خرجت من الغرفة متجهة إلى رغد...
    و لم تفلح محاولتي ثنيها عن إثارة مشكلة و خصوصا في هذا الوقت...!






















    ~~~~~~~
    أقبلت أروى إلى غرفتي و كنت أرتب كتبي
    و دفاتري على مكتبي الجديد و الذي اشتراه وليد لي مؤخرا...
    وليد اشترى لي أشياء كثيرة...و غير طقم غرفة نومي كاملا...
    و كان يود نقل أشيائي إلى غرفة دانة سابقا... فهي أكبر حجما...
    و لكنني أصررت على البقاء في غرفتي الصغيرة الملاصقة لغرفته...
    و منعت ُ أروى و أمها من استخدام أي ٍ من غرف النوم التي كنا نستخدمها سابقا...
    فأقامتا في غرفتين من الناحية الأخرى لمنزلنا الكبير...
    و لأنني أعرف أنها ماهرة في أعمال المنزل و خصوصا الطبخ
    و أنها تتباهى بذلك أمام وليد و أمامي...
    و أنها تريد أن تستعرض مهاراتها الليلة على العشاء ...
    فقد اخترت المطبخ بالذات كي أذاكر فيه محاضراتي هذا اليوم !
    يجب أن تعرف هذه الدخيلة أن هذا بيتي أنا... و مطبخي أنا...
    و أنا حرّة في فعل ما أريد وقتما أريد !
    " ماذا تعنين بهذا يا رغد ؟ "
    كانت أروى تقول و هي ترمي بالورقة التي نزعتـُها من كراستي قبل قليل...
    و فيها صورة لأروى الحسناء تنظف الأرض بشعرها الطويل !
    أوه ! كيف وصلت إليها..؟ مستحيل أن يكون وليد !
    كنت ُ غاضبة من تباهيها بمهاراتها... و وعدها وليد بتقديم وجبة لذيذة تبهر ضيوفنا...
    و من شدة غيظي احتللت المطبخ و رسمتها بهذا الشكل!
    لكني خجلة من وليد و الفكرة التي أخذها عنّي... و أريد أن أعتذر لها !
    " أجيبي ؟؟ "
    صرخت أروى و هي شديدة الغيظ... كنت بالفعل سأعتذر لولا أنها أضافت :
    " أنا لست خادمة هذا المنزل بل سيّدته و إن كنت ستسخرين من شيء
    فالأفضل أن تسخري من نكرانك للجميل
    و عيشك مرفهة مدللة من نقود لم ترثيها و لم تتعبي لجنيها يا ابنة العز و الثراء "
    شعرت بطعنة قوية في صدري أوشكت أن أرمي بالكتاب الذي بين يدي نحو وجهها
    لكنني لم أملك إلا الألم...
    و هل أملك ردا غيره ؟؟
    بم أرد و هي الحقيقة..؟؟ ألست ُ أنا العالة على الغير...
    أليست النقود التي يجلبها لي وليد... هي من ثروتها ؟
    بعد أن انصرفت بفترة حضر وليد
    و كعادته يأتي بعد انتهاء أي مشادة بيننا حتى لا يزيد تدخله الأمر سوء...
    و لا بد أنه قضى الدقائق السابقة في استرضائها و جاء الآن ليواسني... أو ليوبخني!
    " هل أدخل ؟ "
    و هو يقف عند الباب... و ينظر إلى الورقة المرمية على الأرض...
    ثم يلتقطها و يتأملها برهة، و يمزقها و يرمي بأشلائها في سلة المهملات...
    قال :
    " انتهى الأمر "
    مسكين وليد! أتظن بأنه بتمزيقك للورقة تحل المشكلة؟
    لا أظنها تحل إلا إذا مزّقت الفتاة المرسومة عليها في الواقع !
    قال :
    " لا تكرري ذلك ثانية يا رغد ... أرجوك "
    نظرت إليه بحنق... أهذا كل ما لديك ؟؟
    قال :
    " انظري أي مشاكل تقع بسبب تافه كهذا...
    نحن في غنى عن المزيد... دعينا نعيش في سلام "
    و استفزتني جملته فقلت بغضب :
    " و هل ترى أنني شارون أم بوش لتخاطبني عن السلام ؟ "
    و ربما أثارت جملتي اندهاشه أو حتى لم يستوعبها إذ أنه حملق في ّ باستغراب
    قلت بعصبية :
    " هل أنا سبب المشاكل ؟ "
    قال :
    " لا ... لكن أروى لا تتعمّد مضايقتك يا رغد ... إنها طيبة و مسالمة جدا "


    و ثار غضبي أكثر... رميت بالكتاب أرضا و صرخت :
    " طبعا ستدافع عنها... أليست خطيبتك العزيزة الغالية ...
    الثرية الحسناء ... السيدة المدبّرة لشؤون هذا المنزل ؟؟ "
    " ليس الأمر هكذا ... "
    قلت بانفعال :
    " بل هو كذلك... و أنت بالتأكيد ستقف في صفـّها و تنحاز إليها "
    تنهّد وليد بانزعاج... و ضرب كفه الأيسر بقبضته اليمنى و قال بضيق :
    " لقد حرت ما أفعل معكما؟ أنتما تثيران الصداع المستمر في رأسي...
    أنا لا أعرف لماذا لا تطيق أحداكما الأخرى بهذا الشكل !؟ "
    صمت برهة ثم قال :
    " على الأقل... أروى يا رغد... لا تتربص لإزعاجك ... لكنك يا رغد... "
    و توقف لانتقاء كلماته ثم قال :
    " أنت يا رغد تتصيدين الفرص لمضايقتها...لا أعرف لماذا ؟؟
    لماذا أنت متحاملة عليها لهذا الحد يا رغد ؟؟ "
    و أخذ يترقّب جوابي...
    " لماذا يا رغد ؟؟ "
    أما زلت تسأل ؟؟
    ألا تعرف ؟
    ألا يمكن لعقلك المحشور داخل جمجمتك الكبيرة هذه أن يستنتج السبب؟؟
    لأنني أحبك يا وليد!
    أحبك و أكره أي امرأة تقترب منك...
    ألا تفهم ذلك؟؟
    ألا تكفي كمية الذكاء المحشوة في دماغك لاستنباط هذا ؟؟
    و لا يبدو أن هذه الفكرة كانت لتخطر على بال وليد... البتة !
    و لأنه كان لا يزال ينظر إلي منتظرا جوابا قررت أن أجيب !
    " أتريد أن تعرف لماذا ؟ "
    قال بلهفة :
    " يا ليت... فلربما استطعت تغيير شيء و حل المشكلة "
    ابتسمت بسخرية من مناه... ثم ضيّقت فتحتي عيني ّ
    و ضغطت على أسناني و قلت:
    " لأنها... أجمل منّي "
    ذهل وليد... و بدوره اتسعت فتحتا عينيه و فمه أيضا...
    قلت :
    " هل عرفت الآن ؟ "
    ارتبك وليد و قال :
    " هل هذا هو السبب حقا ؟ "
    قلت بمكر :
    " نعم... فهل تستطيع تغيير شيء ؟ "
    وقع وليد في الشرك... و حار ماذا يقول... ثم قال بتردد و ارتباك:
    " و ... لكن ... يا رغد... أيعقل أن تجعلي من هذا سببا كي...
    أعني لأن تـُثار كل تلك المشاكل ؟ "
    قلت :
    " هذا أمر لن تفهمه أنت...! إنها أجمل منّي بكثير... أليست كذلك ؟ "
    و ترقبت بلهفة ما سيقول وليد...!
    إن قال ( بلى ) فسأمزقه بأظافري...
    و إن قال ( كلا ) فسأفقع عينيه !
    انتظرت و انتظرت... و لكن وليد لم يجب ! بل تنحنح قليلا ثم أراد الانصراف...
    وليد ! أجبني فورا ... إياك أن تهرب...
    " بعد إذنك "
    و استدار منصرفا...
    لن تهرب يا وليد !
    قلت باندفاع و عصبية :
    " أجبني "




    وليد استدار إلي في ضيق... و كان وجهه شديد الاحمرار... و الحنق...
    قلت :
    " لماذا لا ترد ؟؟ قل أنها كذلك... فحتى الأعمى يستطيع أن يرى هذا "
    " رغد بربّك... ما الذي تهذين به؟ أي جنون !؟ "
    و أولاني ظهره و ولى منصرفا بسرعة... تبعه صوتي و أنا أقول بغضب :
    " لا تحلم بأن أنسجم معها ذات يوم ... لا تحلم أبدا ! "
    ~~~~~~~
    و كالعادة كانت العشاء لذيذا جدا قد أرضى الضيوف و نال إعجابهم...
    " سلمت يداها... أكلتُ كثيرا هذه الليلة "
    قال سيف و هو يحتسي الشاي عقب انتهائنا من وجبة العشاء...
    قلت بسرور :
    " سلّمك الله... بالهناء و العافية يا عزيزي "
    قال مازحا :
    " و أنا من كان يتساءل ما سر هذه العضلات التي نبتت
    و تضخمت بشكل سريع و على ذراعيك ! تبدو أكثر ضخامة كلّما التقينا يا رجل ! "
    ضحكت لتعليق سيف المرح...
    حقيقة هي أنني خلال العام المنصرم ربحت عدة كيلوجرامات !
    قلت :
    " لكني كنت أكثر قوة و أنا أعمل في المزرعة...
    و أبذل مجهودا عضليا كل يوم "
    و لاحت في مخيلتي صورة المزرعة و أشجارها و ثمارها...
    و العم إلياس... و شعرت بالحنين إليهم...
    قال سيف :
    " ماذا بشأن المزرعة ؟ ماذا ستفعلون بها ؟ "
    قلت :
    " كما هي يا سيف... فالعائلة متعلقة بها جدا و لا يمكنهم التفريط فيها...
    و ها أنا أتنقل بينها و بين المصنع في عناء "
    قال :
    " و لكن... يجب أن تستقر يا وليد ! ماذا ستفعل بعد زواجك ؟ "
    أخذت أحك شعري في حيرة...
    " خطيبتي تريد العودة إلى المزرعة و الاستقرار فيها...
    و ابنة عمّي ترفض العيش فيها تماما... و أنا في حيرة من أمري... مشلول الفكر ! "
    تابعت :
    " و ليت الخلاف اقتصر على السكن فقط! بل في كل شيء يا سيف...
    كل شيء و أي شيء! إنني أعود من العمل مشحونا بالصداع فتستلماني
    و تشقان رأسي نصفين !"
    و وضعت طرف يدي على هامتي كما السيف...
    سيف ابتسم... و قال :
    " إنهن النساء ! "
    قلت :
    " الجمع بينهما في بيت واحد هو ضرب من الجنون...
    و الصغيرة صعبة الإرضاء و متقلبة المزاج...
    و أخشى أن أتحدّث معها فتظن أنني ضقت ذرعا برعايتها... و يُجرح شعورها..."
    لم يعلق سيف ... تابعت :
    " أنا حائر يا سيف... لا أريد لأي شيء عظيما كان أم تافها أن يعكّر صفو حياتها..
    و وجود أروى يثير توترها...
    و لا يمكنني إرسال أروى و أمها إلى المزرعة و العيش مع رغد هنا وحدنا ! "
    قال سيف مباشرة :
    " صعب ! "
    " بل مستحيل ! "
    قال مقترحا :
    " و لماذا لا تدعها مع خالتها كما فعلت سابقا يا وليد ؟ "
    قلت و أنا أهز رأسي :
    " أبدا يا سيف... لا يمكنها الاستغناء عن وجودي و قربي ... "
    سيف نظر متشككا ثم قال :
    " أو... ربما العكس ! "


    حملقنا في بعضنا البعض قليلا... و شعرت بابتسامة حمراء تشق طريقها بين شفتي !
    سيف قال مازحا :
    " وليد الضخم... بطوله و عرضه و عضلاته المفتولة...تشل تفكيره فتاة صغيرة ؟!"
    ابتسمت و أنا أقول :
    " و ليست أي فتاة ! "
    و بدا الجد على وجه سيف و قال :
    " فكّر في الأمر مليا يا وليد... الشرارة و البنزين لا يجتمعان في مكان واحد ! "
    كان سيف محقا فيما يرمي إليه...
    قلت مغيرا الموضوع مباشرة :
    " هل قابلت السيد أسامة ؟ ماذا قرر ؟ "
    ابتسم سيف و قال :
    " هنيئا لك ! لقد كسبت حب و تقدير هذا الرجل و لذلك وافق على العمل معك ! "
    أطلقت صيحة فرح و هتفت :
    " آه ... وافق أخيرا ! الحمد لله ! شكرا لك يا سيف "
    و كنت قد طلبت من سيف مساعدتي في محاولة إقناعه بالعودة للعمل معي...
    فقد كنت بحاجة ماسة للمعونة من رجل بمثل خبرته و أمانته...
    و هذا الخبر أبهجني كثيرا تلك الليلة...
    و لم أدرك أنني سأدفع ثمن بهجتي هذه ... عاجلا جدا !
    ~~~~
    احتراما لضيفتنا، تظاهرت بالسرور و أخفيت كل الغضب في داخلي...
    و شاركت الجميع طعام العشاء الذي أعدته الشقراء و أمها...
    و كانتا المسؤولتين عن الطهي و شؤون المطبخ...
    تساعدهما خادمة وظفها وليد منذ فترة...
    كانت الشقراء ترتدي بلوزة جميلة عارية الكمين و الكتفين ...
    و تتزين بعقد ثمين من اللؤلؤ اشترته مؤخرا...
    و تلون وجهها الأبيض ببعض المساحيق... و تبدو في غاية الجمال و الأناقة...
    و لا بد أنها أثارت إعجاب ضيفتنا و أبهرتها في كل شيء...
    و بعد خروج الضيوف ذهبت هي و بكامل زينتها و مباشرة إلى حيث كان وليد...
    أما أنا فصعدت إلى غرفتي لاستبدل ملابسي...
    نظرت إلى نفسي عبر المرآة و تخيلت صورتها إلى جواري فشعرت بالحنق و الغيظ...
    و رغبت في تمزيقها...
    لم استطع تجاهل صورتها و هي تعيّرني بأنني أعيش عالة على ثروتها...
    ولم أتحمّل تخيلها و هي تجلس هكذا قرب وليد...
    تملّكتني رغبة ملحة في الذهاب إلى وليد و إخباره عما قالت في الحال...
    و وضع حد نهائي لحالتي البائسة معها...
    فتحت خزانتي و استخرجت جميع المجوهرات التي أنقذتها من حطام بيتنا المحروق...
    مجوهراتنا أنا و دانة و أمي رحمها الله... و أخذت أتأملها و أشعر بالألم...
    فهي كل ما تبقى لي...و لم أتصور أنني سأفرط فيها ذات يوم...
    جمعتها كلها في علبتين كبيرتين و وضعتهما في كيس
    بالإضافة إلى البطاقة المصرفية التي منحني إياها وليد و كذلك الهاتف المحمول...
    حملت الكيس و خرجت من غرفتي سعيا إلى وليد
    فوصلني صوت ضحكاته هو و الشقراء... ترن في أنحاء المنزل !!
    كدت أصفع الكيس بأحد الجدران و أحطم محتوياته غيظا...
    ذهبت إلى غرفة الجلوس ... مصدر الضحكات...
    و كان الباب مفتوحا و من خلاله رأيت ما زلزني ...
    كان وليد شبه مستلق ٍ على المقعد و أروى الحسناء تجلس ملتصقة به...
    تمد إحدى يديها فوق كتفه و تطعمه المكسرات بيدها الأخرى....
    كانا يشاهدان التلفاز ويبدو على وليد المرح و البهجة الشديدين...
    و هو يمضغ المكسرات...
    حينما رأياني ابتسم وليد و جلس معتدلا بينما أشاحت هي بوجهها عنّي...
    " تعالي رغد "
    قال مرحبا ً ... و الدماء الحمراء تتدفق إلى وجهه...
    " هذه المسرحية مضحكة جدا ! "
    وقفت كالتمثال غير مستوعبة بعد للقطة الحميمة التي رأيتها تجمعهما سوية...
    أما النار فكانت تتأجج في صدري حتى أحرقته و فحّمته...
    لم أتحرّك و لم أتكلّم... و ربما حتى لم أتنفس... فأنا لا أشعر بأي هواء يدخل صدري...


    تبادل وليد و أروى النظرات و من ثم نظرا إلى الكيس...
    قال وليد :
    " أهناك شيء ؟ "
    أردت أن أخنق صوته... أقتل ضحكاته... أكسر فكّه الذي يمضغ المكسرات...
    أن أصفعه... أن أضربه... أن أمزقه بأظافري...
    تبا لك يا وليد !
    قلت باقتضاب :
    " أريد التحدث معك "
    قال مباشرة و قد زال المرح و حلت أمارات الجد على وجهه العريض :
    " خير؟ تفضلي ؟ "
    و الدخيلة لم تتحرك! لا تزال جالسة ملتصقة بوليد تقضم المكسرات...
    إنني أوشك على ركلها بقدمي غيظا...
    قال وليد :
    " ما الأمر ؟ "
    تقدّمت نحوه... و الغضب يغلي في داخلي و رميت إليه بالكيس بعنف...
    و لو لم أتمالك نفسي لربما رميت به على أنفه و هشّمته من جديد...
    الكيس استقر تحت قدميه... فنظر إليه بتعجب و سأل :
    " ما هذا ؟ "
    قلت بانفعال :
    " مجوهراتي "
    ازداد تعجّب وليد فقلت موضحة :
    " أعرف أنها لن تغطّي كل ما أنفقتـَه علي ّ منذ رحيل والدينا... لكن... هذا كل ما أملك "
    قبل ثوان كان وليد مسترخ على المقعد و الآن أصبح على أهبة النهوض!
    " ماذا تعنين يا رغد ؟ "
    قلت بعصبية :
    " خذها... حتى لا يعيّرني الآخرون بأنني عالة على ثرواتهم "
    و رميت أروى بقنبلة شرر من عيني...و وليت هاربة...
    ربما ارتطمت بجدار... أو تعثرت بعتبة... أو انزلقت أرضا...
    لم أكن أرى الطريق أمامي... لم أكن أرى غير اللقطة الحميمة تجمع بين الحبيبين ...
    وليد لحق بي و استوقفني و أنا عند أصعد عتبات الدرج و هو يقول بحدة :
    " انتظري يا رغد... افهميني ما الذي تعنينه ؟ "
    استدرت إليه فرأيت أروى مقبلة خلفه نظرت إليهما بحدة ثم حملقت في أروى و قلت بعصبية :
    " اسألها "
    وليد استدار إلى أروى ثم إلي ثم إليها و سأل بحيرة :
    " ما الذي حدث؟ افهماني ؟ "
    قلت :
    " بقي فقط ثمن التذكرة... و سأطلب من خالتي دفعها إليك حالما توصلني إليها...
    و الآن هل لا أعدتني إلى خالتي ؟
    زمجر وليد بانزعاج :
    " ما الذي تقصدينه يا رغد ؟؟ أنا لم أفهم شيئا...
    هل لا شرح لي أحد ماذا يحدث ؟ "
    و التفت نحو أروى...
    أروى قالت :
    " أنا لم أعن ِ شيئا مما فهمت ْ "
    تقصدني بذلك، فأفلتت أعصابي و صرخت :
    " بل تعنين يا أروى... إنك تعيريني لعيشي عالة متطفلة على ابن عمي...
    لكن اعلمي أنه من أجبرني على الحضور معه...
    و لو كان لدي أبوان أو أهل أو حتى بيت يؤويني ما اضطرني القدر للمكوث معك ِ أنت ِ
    تحت سقف واحد "
    بدا الذهول طاغيا على الأعين الأربع التي كانت تحدّق بي...
    ذهول ألجم لسانيهما عن النطق مباشرة...
    " لكنهما ماتا... وبيتي احترق... و لم يتبقّ َ لي شيء غير هذه الحلي...
    خذاها و دعاني أرحل بكرامتي... "
    وليد قال منفعلا :



    " ماذا أصابك يا رغد ؟ هل جننت ِ ؟ "
    قلت بعصبية أكبر :
    " أرجوك... أعدني إلى خالتي... إن كانت كرامتي تهمك في شيء "
    " أي كرامة و أي جنون...؟؟ "
    و التفت إلى أروى بغضب :
    " ماذا قلت ِ لها ؟ "
    أروى قالت مدافعة مهاجمة في آن معا :
    " لاشيء... طلبت منها أن تحترمني...
    عوضا عن رسمي بتلك الصورة المهينة..."
    وليد كرر بغضب و عصبية :
    " ماذا قلت لها يا أروى ؟؟ تكلّمي ؟ "
    قالت أروى :
    " الحقيقة يا وليد... فهي تعيش على ثروتي و عنائك...
    و لا تقدر و لا تحترم أيا منا "
    دار وليد دورة حول نفسه من شدة الغضب و لم يعرف ما يقول...
    رأيت وجهه يتقد احمرارا و أوداجه تنتفخ و صدره يزفر الهواء بعنف...
    ضرب سياج الدرج بقبضته بقوة و صرخ بغضب :
    " كيف تفعلين هذا يا أروى ؟ "
    قالت أروى بانفلات أعصاب :
    " إن كان يرضيك ذلك فأنا لا يرضيني...
    و إن كنت تتحمّلها لكونها ابنة عمّك فما ذنبي أنا لأتحمّل الإحسان
    إلى و الإهانة من فتاة ناكرة الجميل ؟ "
    هيجتني جملتها أكثر و أكثر و أثارت جنون جنوني... و صرخت بتهوّر :
    " أنا لا انتظر الإحسان من أحد... وليد ينفق علي لأنه الوصي علي ّ
    و المسؤول عن مصروفاتي... و هو من اختار كفالتي بعد عمّي...
    ألا ترين أنني يتيمة و بلا معيل؟ أنا أهلي لم يتركوا لي إرثا عندما ماتوا جميعا...
    مثل عمّك... و هذه الثروة التي تعيرينني بها...
    وليد هو الأحق بها منك ِ أنت ِ و من أي إنسان آخر في هذا الكون "
    و توقفت لألتقط بعض أنفاسي ... ثم قلت موجهة خطابي لوليد :
    " أخبرها بأنها من حقك أنت "
    وليد هتف بانفعال :
    " رغد ! "
    قلت بإصرار :
    " أخبرها "
    صرخ وليد :
    " يكفي يا رغد "
    التفت أنا إلى أروى المذهولة بكلامي و أعلنت دون تردد :
    " إنها لن تعوّض ثمن السنوات الثماني التي قضاها في السجن حبيسا مع الأوغاد...
    بسبب ابن عمّك الحقير الجبان
    " رغد "
    انطلقت صرخة من وليد... ربما كان هي المعول الذي كسر السد...
    انجرف كلامي كالسيل العارم يأبى الوقوف عند أي شيء...
    " و بعد كل الذي سببه الحقير لي... و لابن عمّي...
    تأتين أنت ِ لتعكري صفو ما تبقى من حياتي...
    ألا يكفي ما ضاع منها حتى الآن ؟؟ ألا يكفي ما عنيته و أعانيه حتى اليوم؟؟
    أنا أكرهك يا أروى ... أكرهك و أتمنى أن تختفي من حياتي...
    أكرهك ... أكرهك ... ألا تفهمين ؟؟ "
    رميت الاثنين بنظرة أخيرة ملؤها الغضب... أروى #####ة إلى الحائط في ذهول رهيب...
    أشبه بلوحة مذعورة... و وليد عند أسفل عتبات الدرج تتملكه الدهشة و المفاجأة...
    " لماذا تجبرني على العيش معها يا وليد ؟؟ لماذا ؟؟...
    إن كنت تحبّها فأنا أكرهها... و أكرهك أنت أيضا... و لا أريد العيش معكما...
    أنتما تتعسان حياتي... أكرهكما سوية...
    أعدني لخالتي... أعدني لخالتي... يا بليــــــــــــــــــــــــــــــد " <<أنا مديتها زياده من قهري
    فجرت هذه الجملة و انطلقت مسرعة نحو غرفتي

















    google_protectAndRun("render_ads.js::google_render _ad", google_handleError, google_render_ad);
    -----

    * * الحلقة الأربعون * *

    ~ مُفترق الطرق ~

    وقفتُ عند أسفل عتبات السلّم... مأخوذا بهول ما سمعتُ... مشلول الإرادة...
    اختفتْ رغد بعدما صرختْ في وجهي ( أكرهكَ يا بليد )
    إن أذني ّ لم تسمعا... إنما هو قلبي الذي اهتز بعنف بعد الصدمة...

    التفتُ إلى الوراء بجهد فرأيتُ أروى تقف ملتصقة بالجدار محملقة بي تكاد بنظراتها تثقبُ عيني ّ فيما تعبيرات الذهول طاغية على وجهها الملوّن...

    كانتْ أمسية جميلة و قد استمتعتُ فيها مع سيف و طفله... ثم سهرتُ مع أروى نشاهد مسرحية فكاهية رائعة... كان كل شيء رائعا قبل قليل...
    لماذا يا رغد ؟
    لماذا ؟؟

    " وليد "

    الحروف خرجتْ متقطّعة من فم أروى المصعوقة بما سمعتْ... و بالتأكيد تريد الآن أن تسمع من جديد...

    " وليد... وليد... ماذا قالتْ رغد ؟؟ "

    ركّزتُ نظري في أروى ... و لم أرد...

    أروى اقتربتْ منّي خطوة بعد خطوة ببطء ... كأن قدميها قد ثقلتا فجأة و ما عادتْ بقادرة على رفعهما
    و لما صارتْ أمامي أبعدتُ نظري عن عينيها... فقد كانتْ نظراتها قوية جدا... و مركزة جدا إلا أنها سرعان ما مدّتْ يدها إلي و سألتْ :

    " وليد ... أنت َ ... أنت َ ... من... قتل عمّار ؟؟ "

    سماع اسمه أجبر عينيّ على العودة فورا إلى عينيها المذهولتين

    " وليد ...؟؟ أنت ...!! "

    أجبتُ أخيرا :

    " نعم ... أنا من قتل عمار القذر... ابن عمّك "

    أروى رفعتْ يدها بعيدا ثم وضعتْها على فمها و شهقتْ بقوة.. و تجمّدتْ اللحظة ساعة أو عاما أو حتى قرنا من الزمان...

    لم أحس إلا بقطرات العرق تسيل على جسمي... و بالحرارة تنبعثُ منه...
    و لم استطع تحرير بصري من قيد عينيها...
    بدأتْ الآن تهزّ رأسها في عدم تصديق و دهشة ما مثلها دهشة...

    " لا ... لا أصدّق ! وليد !"

    و التقطتْ بعض أنفاسها و تابعتْ :

    " كل... هذا الوقت... و أنتَ ... تخفي عنّي ؟؟ لا أصدّق ! "

    و مرّة أخرى حرّكتْ يدها نحوي و أمسكتْ بكتفي

    " غير صحيح ! وليد أنتَ ... تمزح "

    قلتُ بحزم :

    " قتلتُه و دخلتُ السجن... و لستُ نادما... هذه هي الحقيقة... هل عرفت ِ الآن ؟ "

    ابتعدتْ أروى عنّي و هي تهتفُ :

    " لا ... لا ... "

    ثم توقفتْ فجأة و استدارتْ إليّ و قالتْ :

    " لماذا ؟؟ لماذا قتلته ؟ "

    قلتُ مباشرة :

    " لأنه يستحق الموت... الحيوان... القذر... الحقير... "

    عادتْ تسأل مندهشة مبحوحة الصوت :

    " لماذا ؟ "

    جوابي كان بضربة سددتُها إلى سياج السلم الخشبي كدتُ معها أن أحطّمُه...

    أروى كررتْ :

    " لماذا ؟ أخبرني "

    و لما لم أجبها أقبلتْ نحوي مجددا و أمسكتْ بذراعي ّ الاثنتين و هتفتْ :

    " أخبرني لماذا ؟؟ لماذا ؟؟؟ "

    صرخت ُ بانفعال :

    " لأنه حيوان... ألا تعرفين معنى حيوان ؟؟ "

    أروى تهزُّ رأسها و تقول:

    " ماذا تخفي عنّي يا وليد ؟؟ قلْ لي ؟؟ لماذا أخفيتَ هذا عنّي ؟؟ لماذا لم تخبرني لماذا ؟ "

    و بدأتْ دموعها بالانهمار...
    شعرتُ بأني أختنق... الهواء من حولي لم يكن كافيا لملء رئتيّ... أبعدتُ يديها عني و أوليتُها ظهري و سرتُ متجها نحو مدخل المنزل...

    نادتني أروى:

    " إلى أين تذهب ؟؟ لا تدعني هكذا يا وليد... قل لي ما الذي تخفيه عنّي ؟؟"

    لم أجبها فقد كنتُ من الضيق و الغضب ما يكفي لأن أدمّر مدينة بكاملها...

    " وليد إلى أين ؟ "

    صرختُ :

    " دعيني و شأني يا أروى "

    و أسرعتُ نحو الباب و غادرتُ المنزل...

    الساعة آنذاك كانتْ منتصف الليل... و لم أكن لأغادر المنزل في مثل هذا الوقت لو أن الضيق لم يصل بي إلى حد الاختناق...
    كنتُ أريد أن أهدأ بعيدا...
    أعيد عرض الشريط و أركز فيما حصل...
    استوعب الحدث و أفكر فيه...

    توجهتُ نحو البحر...أرفس رماله و أرجم أمواجه إلى أن أفرغتُ ما في صدري من ثورة في قلبه... و لو كان يتكلم لصرخ صرخة تصدعتْ لها كواكب المجرة من فرط الألم...

    و كإنسانٍ مجردٍ من أي اعتبارات... على سجيته و فطرته... أطلقتُ العنان لدموعي... و بكيتُ بألم...
    تفقدتُ ساعتي فلم أجدها و تحسستُ جيوبي بحثا عن هاتفي فلم أعثر سوى على سلسلة مفاتيحي... السلسلة التي أهدتني إياها رغد ليلة العيد...
    لا أدري كم من الوقت مضى و لكني لمحتُ أول خيوط الفجر يتسلل عبر عباءة السماء...

    عندما وصلتُ إلى المنزل... وجدتُه يغط في سكون مخيف...
    أردتُ أن أتفقد الفتاتين... وجدتُ أروى نائمة في غرفتها و قد تركتْ الباب مفتوحا و المصابيح مضاءة فاستنتجتُ أنها نامتْ بينما كانت تنتظر عودتي...

    توجهتُ نحو غرفتي و توقفتُ عند الجدار الفاصل بين بابها و باب غرفة رغد
    و استعدتُ ذكرى الليلة الماضية و اشتعل الألم في معدتي...

    أديت صلاتي ثم ارتميتُ على سريري و عبثا حاولتُ النوم... لم أنم و لا لحظة واحدة
    و عاصرتُ بزوغ الشمس و مراحل سباحتها في كبد السماء ساعة ً ساعة و حمدتُ الله أنه كان يوم إجازة و إلا لتغيبتُ عن العمل من شدة التعب...
    لم أفعلْ شيئا سوى التفكير و التفكير...
    و عند نحو العاشرة و النصف سمعتُ طرقا على الباب...

    " تفضّل "

    لقد كانتْ أروى...
    و على غير العادة لم نبدأ حديثنا بالتحية...

    " هل استيقظتَ ؟ "

    سألتني و وجهها يسبح في الحزن...

    " بل قولي : هل نمتَ ؟ "

    لم تعلق أروى، ثم قالتْ :

    " أيمكننا التحدث الآن ؟ "

    " تفضلي "

    و بالطبع تعرفون عم سنتحدث...

    " أريد أن أعرف... تفاصيل مقتل عمار... و لم أخفيتَ الحقيقة عني... و ما علاقة كل هذا برغد ؟ "

    تنهدتُ ثم قلتُ :

    " هل... سيغير ذلك شيئا ؟ "

    أروى قالتْ بسرعة :

    " بالطبع... سيغيّر الكثير... "

    و لا أدري ما قصدتْ بذلك... و لم يعد يهمني ما قد يحدث.... في نظري الآن... لا شيء يستحق الاهتمام...

    " حسنا يا أروى... لقد سبق و أن أخبرتُك بأنني انتظر الوقت المناسب لأطلعكِ على أمر مهم... و لم يعد هناك معنى للصمت بعد الآن "

    " إذن ... اخبرني بكل شيء ... "

    تنهّدتُ تنهيدة مريرة... خرجتْ من صدري عجوزا واهنة لم تجد ما تتكئ عليه... و سرعان ما هوتْ في أعماق الذكريات...

    " قبل أكثر من تسع سنوات... قتلتُ عمار... و دخلتُ السجن... و هناك تعرّفتُ إلى والدك... بمحض الصدفة... و قبل وفاته أوصاني بكِ و بأمكِ خيرا... و ماتَ و هو لا يعرف أنني... من قتل ابن أخيه أو ربما لا يعرف حتّى... أن ابن أخيه قد قُتِل "

    كانتْ أروى تصغي إلي باهتمام...

    و عندما توقفتُ نظرتْ إلي بتعجب و قالتْ:

    " هذا كل شيء ؟ "

    قلتُ بضيق باد ٍ :

    " نعم "

    هزّتْ رأسها استنكارا و قالتْ:

    " لا تخفي عنّي شيئا يا وليد... اخبرني بالحقيقة كاملة "

    " ماذا تريدين أن تعرفي ؟ "

    " لماذا قتلتَ عمّار "

    التزمتُ الصمت

    " لماذا يا وليد ؟ "

    أجبتُ :

    " فيم يهمّك ذلك ؟ "

    " بالتأكيد يهمني أن أعرف "

    قلتُ :

    " لم يكن ذلك يهمّك ... سابقا "

    صمِت ّ قليلا ثم قلتُ :

    " أتذكرين ؟؟ ارتبطت ِ بي و لم تسأليني لِمَ دخلتُ السجن... و من قتلتُ... و لماذا .."

    أروى قالتْ :

    " لكن... ذلك كان قبل أن أكتشف أن الضحية كان ابن عمّي "

    هيجتني الجملة فهتفتُ منفعلا :

    " الضحية ؟؟ تقولين عن ذلك الحقير الضحية ؟؟ "

    حملقتْ أروى بي ثم انطلق لسانها مندفعاً :

    " هذا ما يثير جنوني... لماذا تنعته بالحقير و القذر؟ ماذا فعل؟ ماذا حصل؟ ما الذي كان بينكما؟ و لماذا قتلته؟ "

    لم أجب...

    " وليد أجبني ؟ "

    أشحتُ بوجهي بعيدا... لكنها حاصرتني من كل الجوانب

    " لماذا لا تريد أن تجيب يا وليد ؟؟ بدايةً... أنا لا أصدق أنك يمكن أن تقتل رجلاً مهما حصل... فلماذا قتلتَ ابن عمّي ؟ "

    قلتُ منفعلا :

    " لا تشيري إليه بـ ( ابن عمّي ) فهذا يثير التقزز يا أروى "

    " وليد ! "

    قلت ُ بصبر نافذ :

    " اسمعي يا أروى... لا استطيع أن أفصح عن السبب... لقد قتلتُه و انتهى الأمر... و لستُ نادما... و لن أندم يوما على ذلك... "

    ثم استطردت ُ :

    " أرجوك ِ يا أروى... أنا متعب للغاية... هذا يكفي الآن "

    الحيرة تملكتْ أروى ممزوجةً بالفضول الشديد... و أصرتْ على معرفة المزيد لكنني امتنعتُ عن البوح بالحقيقة...

    فجأة سألتْ :

    " هل... تعرف رغدُ ذلك ؟ "

    و ربما للانفعال الذي ظهر على وجهي استنبطتْ هي الجواب دون أن أنطق...

    ثم بدا عليها بعض التردد و قالتْ أخيرا :

    " و ... هل ... لثروتي علاقة بذلك ؟ "

    نظرتُ إليها مستغربا و سألتُ:

    " ثروتك؟؟ ماذا تعنين؟ "

    قالت :

    " أعني... هل كنتَ تعرف... عن ثروة عمّي قبل زواجنا ؟ "

    صُعقتُ من سؤالها... وقفتُ فجأة مذهولا كمن لدغته أفعى...
    قلتُ :

    " ما الذي تقولينه؟؟ "

    أروى وقفتْ بدورها و أفلتتْ أعصابها منطلقة:

    " أنا لا أعرف ما الذي أقوله... لا أعرف كيف أفكّر... قبل ساعات اكتشفتُ أن خطيبي هو قاتل ابن عمّي... و أنتَ تخفي عني الحقيقة... و ترفض البوح بشيء... كيف تريدني أن أفكّر يا وليد أنا أكاد أجن ... "

    حقيقة لم أرَ أروى بهذه الحالة من قبل...

    قلتُ بعصبية :

    " لا علاقة لهذا بزواجنا يا أروى... لا تذهبي بأفكارك إلى الجحيم "

    صرختْ :

    " إذن قل لي الحقيقة "

    " أي حقيقة يا أروى بعد ؟؟ "

    " لماذا قتلتَ عمار و لماذا أخفيتَ الأمر عنّي ؟؟ و لماذا لا تريدني أن أعرف السبب ؟ "

    وضعتُ يدي على جبيني و ضغطت على صدغي ّ حائلا دون انفجارهما...

    " لماذا يا وليد ؟ "

    صرختُ :

    " أرجوك يا أروى... لا تضغطي علي... لا استطيع إخبارك عن الأسباب... "

    احمرّ وجه أروى الأبيض غضبا و قالتْ و هي تهمّ بالمغادرة :

    " سأعرفُ الأسباب... من رغد إذن "

    و انطلقتْ نحو الباب

    أبعدتُ يدي عن رأسي فجأة و تركتُه ينفجر صداعا قاتلا... و هتفتُ بسرعة :

    " أروى انتظري "

    لكن أروى كانت قد غادرتْ الغرفة و لالتصاق غرفتي بغرفة رغد سرعان ما مدّتْ ذراعها و طرقتْ باب رغد و نادتها

    أسرعتُ خلفها محاولا منعها

    " توقفي يا أروى إيّاكِ "

    قلتُ ذلك و أنا أبعدُ يدها عن الباب...

    " دعني يا وليد... أريد أن أعرف ما تخفيانه عني... "

    جذبتُ أروى بقوة حتى آلمتُها و صرختُ بوجهها :

    " قلتُ توقفي يا أروى ألا يكفي ما فعلتِه بالأمس ؟؟ يكفي "

    " أنا ؟ ما الذي فعلتُه ؟ "

    " ما قلتِه لرغد عن ثروتكِ و عما ننفقه من ثروتكِ... و أنتِ تعلمين يا أروى أنني احتفظ بسجل لكل المصروفات... و أنّ ما أعطيها إياه هو من راتبي أنا و مجهودي أنا... "

    هنا فُتِح الباب و أطلتْ منه رغد...
    أول ما اصطدمتْ نظراتنا تولّد شرر أعشى عينيّ...
    هل رأيتموه ؟؟

    حملقنا ببعضنا قليلا... و الطيور على رؤوسنا نحن الثلاثة...

    أول ما تكلمتْ رغد قالت بحدة:

    " نعم ؟ ماذا تريدان ؟ "

    و نقلتْ بصرها بيننا... و لم ننطق لا أنا و لا أروى...

    قالتْ رغد:

    " من طرق بابي ؟ "

    هنا أجابتْ أروى:

    " أنا "

    سألتْ رغد بغضب:

    " ماذا تريدين ؟ "

    أروى ترددتْ ثوانٍ لكنها قالت:

    " سأسألك سؤالا واحدا "

    هنا هتفتُ رادعا بغضب :

    " أروى... قلتُ كلا "

    التفتتْ إليّ أروى محتجةً :

    " و لكن يا وليد "

    فصرختُ مباشرة و بصرامة :

    " قلتُ كلا ... ألا تسمعين ؟ "

    ابتلعتْ أروى سؤالها و غيظها و أشاحتْ بوجهها و انصرفتْ من فورها...
    لم يبقَ إلا أنا و رغد... و بضع بوصات تفصل فيما بيننا... و شريط البارحة يُعرض في مخيلتنا... عيوننا متعانقة و أنفاسنا مكتومة...
    تراجعتْ رغد للخلف و همّتْ بإغلاق الباب ...

    " انتظري "

    استوقفتها... لم أكن أريدها أن تبتعد قبل أن أرتاح و لو قليلا...

    " ماذا تريد ؟ "

    سألتني فقلتُ بلطفٍ و رجاء :

    " أن نتحدّث قليلا "

    فردتْ بحدة و جفاء :

    " لا أريد التحدث معك... دعني و شأني "

    و دخلتْ الغرفة و أغلقتْ الباب بهدوء... لكنني شعرتُ به يصفع على وجهي و أكاد أجزم بأن الدماء تغرق أنفي...
    جلستُ في الصالة مستسلما لتلاعب الأفكار برأسي تلاعب المضرب بكرة التنس... بعد ذلك رغبتُ في بعض الشاي علّه يخفف شيئا من صداع رأسي...
    هبطتُ إلى الطابق السفلي و إلى المطبخ حيث وجدتُ أروى و خالتي تجلسان بوجوم حول المائدة...
    حييتُ خالتي و شرعتُ بغلي بعض الماء...

    " وليد "

    التفتُ إلى أروى... التي نادتني و رأيتُ في وجهها تعبيرات الجد و الغضب...

    " أريدُ العود إلى المزرعة "

    حملقتُ في أروى غير مستوعبٍ لجملتها الأخيرة هذه... سألتُ :

    " ماذا ؟ "

    أجابتْ بحزم :

    " أريد العودة إلى المزرعة... و فورا "

    التفتُ إلى خالتي فهربتْ بعينيها إلى الأرض... عدتُ إلى أروى فوجدتُها تنتظر جوابي

    قلتُ :

    " ماذا تقولين ؟ "

    " ما سمعتَ يا وليد... فهل لا دبّرت أمر عودتنا أنا و أمي الآن ؟؟ و إذا لم تستطع مرافقتنا فلا تقلق. نستطيع تدبير أمورنا في المطار و الطائرة "

    عدتُ أنظر إلى خالتي فرأيتُها لا تزال محملقة في الأرض...

    " خالتي ... "

    التفتتْ إلي فسألتُ :

    " هل تسمعين ما أسمع ؟ "

    الخالة تنهدتْ قليلا ثم قالتْ :

    " نعم يا بني. دعنا نعود لأرضنا فقد طال بعدنا و أضنانا الحنين "

    أدركتُ أن الأمر قد تمتْ مناقشتُه و الاتفاق عليه من قِبلهما مسبقا... عدتُ أكلم أروى:

    " ما هذا القرار المفاجئ يا أروى... غير ممكن ... تعلمين ذلك "

    أروى قالت بحدة :

    " أرجوك يا وليد... لستُ أناقش معك تأييدك من عدمه... أنا فقط أعلمك عن قراري و أريد منك شراء التذاكر... "

    " أروى !! "

    " و هذا قرار نهائي و لا تحاول ثنيي عنه...رجاء ً يا وليد احترم رغبتي ..."

    و عبثا حاولتُ ... و باءتْ محاولاتي بالفشل... و أصرتْ أروى و أمها على العودة إلى المزرعة و بأسرع ما يمكن...
    تركتُ الماء يغلي و يتبخر و ربما يحرق الإبريق... و خرجتُ من المنزل... لم يكن لدي هدف و لكنني أرت الابتعاد قبل إثارة شجار جديد...
    حاولتُ إعادة تنظيم أفكاري و حلولي فأصابني الإعياء من كثرة التفكير...
    عندما عدتُ وقت زوال الشمس... كانتْ أروى و خالتي قد حزمتا أغراضهما في الحقائب...

    " بالله عليك يا أروى... تعلمين أنه لا يمكنكما السفر... "

    قالت :

    " لماذا ؟ "

    قلتُ :

    " تعرفين لماذا... لا يمكن أن... نبقى أنا و رغد بمفردنا "

    و كأن كلامي هذا أشعل الجمر في وجهها... إني لم أرَ أروى غاضبة بهذا الشكل من ذي قبل...

    " من أجل رغد ؟ لقد انتهينا يا وليد... أنا لم يعد يهمني ما تفعله و ما لا تفعله من أجل رغد... دبر أمورها بعيدا عني... لا علاقة لي بهذه الفتاة من الآن فصاعدا "

    و تركتني و غادرتْ المكان...
    وقفتُ حائرا غير قادر على التصرف... خاطبتني خالتي آنذاك :

    " دعنا نذهب يا بني فهذا خيرٌ لنا "

    قلتُ معترضا :

    " كيف تقولين ذلك يا خالتي؟؟ تعرفين أن رغد تدرس في الكلية و لا يمكنني العودة بها إلى المزرعة و لا البقاء معها هنا وحيدين... أرجوكِ يا خالتي قدري موقفي... أرجوك ... اقنعي أروى بتغيير قرارها المفاجئ هذا "

    لكن خالتي هزتْ رأسها سلبا... و قالتْ:

    " ابنتي متعبة يا وليد... لقد لقيَتْ منك و من ابنة عمّك الكثير... رغم كل ما تفعله من أجلك... أنتَ صدمتها بقوة... و صدمتني كذلك... دعنا نعود إلى مزرعتنا نتنفس الصعداء... يرحمك الله "

    لم أجرؤ على إطالة النظر في عينيها أكثر من ذلك... و لم أجسر على قول شيء... شعرتُ بالخجل من نفسي و أنا أقف حاملا ذنبي الكبير ...أمام كل ما فعلتْه عائلة نديم لي عبر كل تلك الشهور...
    كم أشعر بأنني خذلتهم... و صدمتهم...
    لكن...
    ألم يكونوا يعرفون بأنني قاتل مجرم خريج سجون؟؟
    هل يفرق الأمر فيما لو قتلتُ عمار عما لو قتلتُ غيره ؟؟
    هل كان علي أن... أبوح بسري إلى أروى منذ البداية؟؟

    كان يوما من أسوأ أيام حياتي... حاولتُ النوم من جديد بلا جدوى... و حاولتُ الذهاب إلى رغد و لم أجرؤ... و حاولتُ التحدث مع أروى فصدتني...

    قبل غروب الشمس، ذهبتُ إلى أحد مكاتب شركة الطيران و حجزتُ أربعة تذاكر سفر إلى الشمال...

    عدتُ بعد صلاة العشاء حاملا معي طعاما جلبتُه من أحد المطاعم...
    كنتُ أشعر بالجوع و التعب و آخر ما أكلته كان بعض المكسرات ليلة أمس... كما و أن أروى لم تعد أي وجبة هذا اليوم...

    " أحضرتُ أقراص البيتزا لنا جميعا... دعونا نتناولها فلابد أنكما جائعتان مثلي "

    قلتُ ذلك و أنا أضع العلب الأربع على المنضدة في غرفة المعيشة، حيث كانت أروى و الخالة تجلسان و تشاهدان التلفاز...
    الخالة ابتسمتْ ابتسامة سطحية أما أروى فلم تتحرك...
    فتحتُ علبتِي و اقتطعتُ قطعة من البيتزا الساخنة و قضمتُها بشهية...

    " لذيذة... تعالي يا أروى خذي حصّتك "

    و مددتُ باتجاهها إحدى العلب... أروى لم تتحرك... فقلتُ مشجعا :

    " إنها لذيذة بالفعل "

    أتدرون بم ردّتْ ؟

    " خذها لابنة عمك... لابد أنها الآن تتضور جوعا و هي حبيسة غرفتها منذ البارحة "

    فوجئتُ و اغتظتُ من ردّها... و ما كان منّي إلا أن وضعتُ العلبة على المنضدة مجددا و أعدتُ قطعتي إلى علبتها كذلك...

    الجو غدا مشحونا... و حاولتْ خالتي تلطيفه فأقبلتْ نحوي و أخذتْ إحدى العلب... و وضعتها بينها و بين أروى و بدأتْ بالأكل...

    أما أروى فلم تلمسها...

    حملتُ العلبة الثالثة و قلتُ و أنا أغادر الغرفة:

    " نعم... سآخذها إليها "

    و لا أدري بم تحدثتا بعد انصرافي...

    حالما طرقتُ باب رغد و تحدثتُ إليها :

    " أحضرتُ لك ِ قرص بيتزا... تفضلي "

    ردتْ علي :

    " لا أريد منك شيئا..."

    امتصصتُ ردها المر رغما عني، و أجبرتُ لساني على الكلام :

    " لماذا يا رغد؟ إلى متى ستصومين؟ هل تريدين الموت جوعا؟ "

    و ردّتْ علي :

    " أكرم لي من الأكل من ثروة الغرباء "

    استفزني ردها فطرقتُ الباب بانفعال و أنا أقول :

    " ما الذي تقولينه يا رغد؟ افتحي الباب و دعينا نتحدّث "

    لكنها صاحتْ:

    " دعني و شأني "

    فما كان منّي إلا الانسحاب... مكسور الخاطر...
    استلقيتُ على أريكة في الصالة العلوية... وسط الظلام... لا أرى إلا السواد يلون طريقي و عيني و أفكاري...

    و مرتْ الساعة بعد الساعة... و الأرق يأكل رأسي... و الإجهاد يمزق بدني و الجوع يعصر معدتي... و يهيج قرحتي... و لم يغمضْ لي جفن أو يهدأ لي











    بعد سكون طويل سمعتُ صوت أحد الأبواب ينفتح...
    لابد أنها رغد... إذ أن أروى و الخالة تنامان في غرفتين من الناحية الأخرى من المنزل، بعيدتين عن الصالة و عن غرفتينا أنا و رغد...
    أصغيتُ السمع جيدا... شعرتُ بحركة ما... فقمتُ و حثثتُ الخطى نحو غرفة رغد...
    رأيتُ الباب مفتوحا و يبدو أنها قد غادرتْ قبل ثوان...

    وقفتُ عند الباب منتظرا عودتها... و أنا بالكاد أحملُ جسدي على رجلي... و استندُ إلى الجدار الفاصل فيما بين غرفتينا ليمنحني بعض الدعم...
    كنتُ بحاجة لأن أراها و أكلمها و لو كلمة واحدة... عل ّ عيناي تأذنان بإسدال جفونهما...

    بعد قليل أقبلتْ رغد...
    و انتفضتْ حالما رأتني... و كذلك أنا... تشابكتْ نظراتنا بسرعة... و انفكّت بسرعة!

    رغد كانتْ تحمل قارورة مياه معدنية... و كانت ترتدي ملابس النوم... و بدون حجاب...

    أبعدتُ نظري عنها بتوتر و أنا أتنحنح و أستديرُ نحو باب غرفتي و افتحه و أخطو إلى الداخل... على عجل... و من ثم أغلق الباب... بل و أوصده بالمفتاح !

    وقفتُ خلف الباب لبعض الوقت... أتصبّب عرقا و اضطرب نفسا و أتزايد نبضا... و أشدّ و أرخي عضلات فكي في توتر... حتى سمعتُ باب غرفة رغد ينغلق...
    و نظرتُ إلى الجدار الفاصل بين غرفتينا... و اعتقد ... إن لم يكن السهر قد أودى بعقلي... أنني رأيتُ رغد من خلاله !

    إنني أراها و أشعر بحركاتها... و أحس بالحرارة المنبعثة منها أيضا !

    مرتْ دقائق أخرى و أنا لا أزال أشعر بها موجودة حولي... أكادُ أجن... من أجل التحدث معها و الاطمئنان عليها... و لو لدقيقة واحدة...

    و لم أستطع تجاهل هذا الشعور...
    فتحتُ بابي و خطوتُ نحو بابها و قبل أن يتغلب علي ترددي طرقته بخفة...

    " رغد ... "

    لم اسمع الجواب... لكني متأكد من أنها لم تنم...

    عدتُ و طرقته من جديد :

    " رغد... "

    و سمعتُ صوتها يجيبني على مقربة... بل إنني كدت ألمسه ! أظنها كانت تهمسُ في الباب مباشرة !

    " نعم ؟ "

    ارتبكت ُ و تعثرتْ الكلمات على لساني...

    " أأأ... إممم ... هل أنت ِ نائمة ؟ أعني مستيقظة ؟ "

    " نعم "

    " هل... استطيع التحدث معك ؟ "

    لم تجب رغد...فحدقتُ النظر إلى الموضع الذي يصدر منه صوتها عبر الباب مفتشا عن كلامها!
    أعرف... لن تصدقوني !
    لكنني رأيتُه أيضا ...

    " ماذا تريد ؟؟ "

    أجبت ُ بصوت ٍ أجش :

    " أن أتحدّث معكِ... قليلا فقط "

    و لم ترد... قلتُ :

    " أرجوكِ رغد... قليلا فقط "

    و لم تجبْ... فكررتُ بنبرة شديدة الرجاء و اللطف :

    " أرجوكِ... "

    بعد ثوان انفتح الباب ببطء...
    كانتْ صغيرتي تنظرُ إلى الأرض و تتحاشى عيني ّ... أما أنا فكنتُ أفتش عن أشياء كثيرة في عينيها... عن أجوبة لعشرات الأسئلة التي تنخُر دماغي منذ الأمس...
    عن شيء ٍ يطمئنني و يسكّن التهيّج في صدري...
    و يمحو كلماتها القاسية ( أكرهك يا بليد ) من أذني ّ ....

    " أنا آسف صغيرتي و لكن... أود الاطمئنان عليكِ "

    ألقتْ رغد عليّ نظرة خاطفة و عادتْ تخبـّئ بصرها تحت الأرض...

    " هل أنت ِ بخير ؟ "

    أومأت ْ إيجابا... فشعرت ُ ببعض ٍ من راحة ٍ ... ما كان أحوجني إليها...

    " هل... يمكننا الجلوس و التحدث قليلا ؟ "

    رفعت ْ نظرها إليّ مستغربة، فهو ليس بالوقت المناسب للحديث ... و كنت ُ أدرك ذلك، لكنني كنت ُ غاية في الأرق و انشغال البال و لن يجد النوم لعيني ّ سبيلا قبل أن أتحدث معها...

    " أرجوك...فأنا متعب... و أريد أن أرتاح قليلا... أرجوكِ "

    ربما خرج رجائي عميقا أقرب إلى التوسل... كما خرج صوتي ضعيفا أقرب إلى الهمس... و تفهّمتْ رغد ذلك و فسحتْ لي المجال للدخول...

    توجهت ُ مباشرة إلى الكرسي عند المكتب و جلست ُ عليه... و أشرتُ إليها :

    " اجلسي رغد "

    فجلستْ هي على طرف السرير...
    حاولتُ تنظيم أفكاري و انتقاء الكلمات و الجمل المناسبة و لكن حالتي تلك الساعة لم تكن كأي حالة...
    لمحت ُ قارورة الماء نصف فارغة موضوعة على المكتب إلى جواري...

    " رغد... ألا تشعرين بالجوع ؟ "

    سرعان ما نظرتْ إلي تعلوها الدهشة !
    فهو ليس بالموضوع الذي يتوقع المرء أن يدور نقاشٌ طارئ ٌ في منتصف الليل حوله!

    قلت ُ بحنان :

    " يجب أن تأكلي شيئا قبل أن تنامي... "

    عقــّبتْ هي باندهاش :

    " أهذا كل شيء ؟؟ "

    تأوهت ُ و قلت ُ:

    " لا و لكن... أنت ِ لم تأكلي شيئا منذ ليلتين و أخشى أن يصيبك الإعياء يا رغد "

    لم تتجاوب معي... فأدرت ُ الحديث إلى جهة أخرى...

    " رغد... مهما كان ما قالته أروى... أو مهما كان شعوركِ نحوها... أو حتى نحوي... لا تجعلي ذلك يزعزع من ثقتك... بأن ّ... بأن ّ... "

    و تعلقت ْ الكلمات على طرف لساني برهة شعرتُ فيها بالشلل... ثم أتممت ُ جملتي بصوت أجش...

    " بأنكِ... كما كنت ِ... و كما ستظلين دائما... صغيرتي التي... التي... "

    و تنهدتُ بمرارة...

    " التي ... أحبُ أن أرعاها و أهتم بجميع شؤونها مهما كانت... "

    نظرت ْ إلي بتمعن و اهتمام... و لكنها لم تعلـّـق...

    أضفتُ :

    " و كل ما أملك يا رغد... قل ّ أم كثر... هو ملكك ِ أنت ِ أيضا و تحت تصرّفكِ... يا رغد... أنا لا آخذ شيئا من ثروة أروى... إنما استلم راتبا كأي موظف... إنني احتل منصب المدير كما تعلمين... و دخلي كبير... فلا تظني بأنني أحصل على المال دون عناء أو دون عمل... "

    رغد قالت فجأة:

    " بل أنا من ... يحصل عليه دون عناء و دون عمل... و دون حق و لا مقابل "

    ازداد ضيق صدري و لم يعد قادرا حتى على التنهّد...

    سألتها بمرارة و أنا أحس بعصارة معدتي تكاد تحرق حبالي الصوتية:

    " لماذا يا رغد؟؟ لماذا دائما... تقولين مثل هذا الكلام؟؟ ألا تدركين أنك... تجرحين شعوري؟"

    تعبيرات رغد نمّتْ عن الندم و الرغبة في الإيضاح... و لكن لا أعرف لم انعقد لسانها...

    قلتُ :

    " رغد... أنا ... لطالما اعتنيتُ بكِ... ليس لأن من واجبي ذلك... حتى في وجود والدي ّ رحمهما الله... و حتى و أنت ِ مرتبطة بسامر... و أنت ِ طفلة و أنتِ بالغة و أنت ِ في كل الأحوال و مهما كانت الأحوال... دائما يا رغد... أنتِ صغيرتي التي أريد و لا شيء يبهجني في حياتي أكثر من ... أن اعتني بها... كجزء ٍ لا يتجزأ منّي يا رغد... "

    أجهل مصدر الجرأة التي ألهمتني البوح بهذه الكلمات الشجية وسط هذا الظلام الساكن...

    تلعثمتْ التعبيرات على وجه رغد... أهي سعيدة أم حزينة؟ أهي مصدقة أم مكذبة؟ لا يمكنني الجزم...

    سألتني و كأنها تريد أن تستوثق من حقيقة تدركها... ليطمئن قلبها :

    " صحيح... وليد ؟ "

    لم أشعر بأن إجابتي من كل هذا البعد ستكون قوية ما يكفي لطمأنتها... وقفتُ... سرتُ نحوها... أراها أيضا بعيدة... أجثو على ركبتيّ... تصبح عيناي أقرب إلى عينيها... تمتد يداي و تمسكان بيديها... ينطق لساني مؤكدا :

    " صحيح يا رغد... و رب الكعبة... الذي سيحاسبني عن كل آهة تنفثينها من صدرك بألم... و عن كل لحظة تشعرين فيها باليتم أو الحاجة لشيء و أنا حي على وجه الأرض... لا تزيدي من عذابي يا رغد... أنا لا استطيع أن أنام و في صدرك ضيق و لا أن أهدأ و في بالك شاغل... و لا حتى أن آكل و أنت ِ جائعة يا رغد... أرجوك... أريحيني من هذا العذاب... "

    لم أشعر إلا ويدا رغد تتحرران من بين يدي و تمسكان بكتفي ّ

    " وليد..."

    امتزجتْ نظراتنا ببعضها البعض... و لم يعد بالإمكان الفصل فيما بينها...
    عينا رغد بدأتا تبرقان باللآلئ المائية...

    قلتُ بسرعة :

    " لا تبكي أرجوك "

    رغد ربما ابتلعتْ عبراتها في عينيها و سحبتْ يديها و شبكتْ أصابعها ببعضها البعض... ثم طأطأتْ رأسها هاربة من نظراتي...

    ناديتُها مرة و مرتين...لكنها لم ترفع عينيها إلي ّ... ولم تجبني...

    " رغد... أرجوك... فقط ... قولي لي أنكِ بخير حتى أذهب مرتاحا... أنا بحاجة للنوم... كي أستطيع أن أفكر... لا استطيع التفكير بشيء آخر و أنا... قلق عليك ِ "

    أخيرا رغد رفعتْ عينيها و نظرتْ إليّ...

    " هل ... أنتِ بخير ؟؟ "

    هزّتْ رأسها و أجابت :

    " نعم ... بخير "

    تنهدتُ ببعض الارتياح... ثم قلتُ :

    " جيد... لكن... يجب أن تتناولي بعض الطعام قبل أن تنامي... هل أعيد تسخين البيتزا؟؟"

    قالتْ مباشرة :

    " لا... لا ..."

    قلتُ :

    " إذن... تناولي أي شيء آخر قبل أن تنامي... رجاء ً "

    نظرتْ إلى الأرض و أومأتْ إيجابا...

    تأملتُها برهة عن قرب... ثم وقفتُ و أعدت ُ تأمّلها من زاوية أبعد... و مهما تبعد المسافات... إنها إلى قلبي و كياني أقرب... و أقرب...
    أقرب من أن أقوى على تجاهل وجودها و لو لبرهة واحدة...
    أقرب من أن أستطيع أن أغفو دون أن أحس بحرارة قربها... في جفوني...
    و أقرب من أن أسمح لصدى ( أكرهكَ يا بليد ) بأن... يبعدها عنّي...

    قلتُ :

    " حسنا صغيرتي... سأترككِ تأكلين و تنامين... "

    و خطوتُ نحو الباب... ثم عدتُ مجددا أتأملها... راغبا في مزيد من الاطمئنان عليها... متمسكا بآخر طيف لها... يبرق في عيني ّ...

    " أتأمرين بشيء ؟ "

    رغد حركتْ عينيها إليّ... ثم قالتْ :

    " كلا... شكرا "

    فقلتُ :

    " بل ... شكرا لك ِ أنتِ صغيرتي... و اعذريني... "

    و ختمتُ أخيرا :

    " تصبحين على خير "

    و غادرتُ غرفتها عائدا إلى غرفتي...

    رميتُ أطرافي الأربعة على سريري ناشدا الراحة... لكني لم أحصل حقيقة عليها ... لم تكن جرعة رغد كافية لتخدير وعيي... و لليلة الثانية على التوالي أعاصر بزوغ الفجر و أشهد مسيرة قرص الشمس اليومية تشق طريقها ساعة ً ساعة ... عبر ساحة السماء...





    صحوت ُ من نومي القصير و أنا أشعر بدوار شديد و رجفة في أطرافي... و إجهاد و ضعف عام في عضلاتي... لم استطع التحرك عن موضعي في السرير... لابد أن السبب هو الجوع فأنا لم آكل شيئا منذ ليلة شجاري مع الشقراء... و بالرغم من أن وليد نصحني بالطعام البارحة إلا أنني لم أكن أشعر بأي شهية له

    هذا إضافة إلى تأثير السهر و الأرق... اللذين لم يبرحاني مذ حينها...

    كلّما حاولتُ الحركة ازداد الدوار... و تسارعتْ خفقات قلبي ... و صعُبَ تنفسي...إنه ذات الشعور الذي داهمني يوم فرارنا حفاة من المدينة الصناعية... و تشردنا جياعا عطشى في البر...
    أمن أحد ليساعدني؟ أريد بعض الماء ... أريد قطعة خبز... أكاد أفقد وعيي...!
    أغمضتُ عيني و تنفستُ بعمق و حبستُ الهواء بصدري كي أمنع عصارة معدتي من الخروج... و زفرتُ أنّة طويلة تمنيتُ أن تصل إلى مسامع وليد... لكن الجدار الفاصل بيننا بالتأكيد امتص أنيني...

    بعد قليل سمعتُ طرقا على الباب... معقول أنه وليد قد سمعني؟ الحمد لله...!

    استجمعتُ بقايا قوتي و قلتُ مباشرة:

    " ادخل "

    لم أكن ارتدي غير ملابس النوم و لكن أي قوة أملك حتى أنهض و أضع حجابي؟؟ لففتُ لحافي حولي عشوائيا و كررتُ:

    " ادخل "

    انفتح الباب ببطء و حذر...

    قلتُ بسرعة مؤكدة :

    " تفضل "

    بسرعة... أنقذني...
    و أنا انظر نحو الباب... بلهفة...
    أتدرون من ظهر؟
    إنها أروى...
    فوجئتُ بها هي تدخل الغرفة...
    قالتْ و هي تقفُ قرب الباب :

    " أريد أن أتحدّث معك "

    أغمضتُ عيني... إشارة إلى أنني لا أريدها... إلى أنني متعبة... إلى أنني لم أكن أنتظرها هي... و لم أكن لأطلب العون منها...

    قالتْ :

    " هو سؤال واحد أجيبيه و سأخرج من غرفتك "

    قلتُ و أنا أزفر بتعب :

    " أخرجي "

    لكن أروى لم تخرج... فتحتُ عيني ّ فوجدتها تقتربُ منّي أكثر... أردتُ أن أنهض فغلبني الدوار... أشحتُ بوجهي بعيدا عنها... لا أريد أن أراها و لا أريد أن تراني بهذه الحالة...

    أروى قالتْ :

    " فقط أجيبيني عن هذا السؤال يا رغد... يجب أن تجيبيني عليه الآن... "

    لم أتجاوب معها
    حلّي عني يا أروى ! ألا يكفي ما أنا فيه الآن ؟؟ إنني إن استدرتُ إليك فسأتقيأ على وجهك الجميل هذا...

    " رغد "

    نادتني

    فأجبتُ بحنق :

    " ماذا تريدين منّي ؟ "

    قالتْ :

    " أخبريني... أتعرفين... لماذا ... قتل وليد عمّار ؟؟ "

    انتفض جسمي كلّه فجأة... و الخفقات التي كانت تهرول في قلبي صارتْ تركض بسرعة... بأقصى سرعة...
    التفت ُ إلى أروى... أو ربما الغرفة هي التي دارتْ و جعلتْ وجهها مقابل وجهي... لست ُ أكيدة...

    حملقتْ أروى بي ثم قالتْ :

    " تعرفين السبب... أليس كذلك ؟ أنا واثقة..."

    هززتُ رأسي نفيا... أريد محو السؤال و محو صورتها و محو الذكريات التي كسرتْ الباب و اقتحمتْ مخيّلتي فجأة ... هذه اللحظة...

    قالت أروى:

    " بل تعرفين... تصرفاتك و انفعالك يؤكد ذلك يا رغد... أنا واثقة من هذا... لا أعرف لم أنتما مصران على إخفاء الأمر عنّي... لكن... "

    هتفتُ :

    " كفى..."

    أروى قالتْ بإصرار :

    " للأمر... علاقة بك ِ أنت ِ... أليس كذلك ؟؟ "

    صرخت ُ و أنا أحاول صم أذني ّ عن سماع المزيد... و إعماء عيني عن رؤية شريط الماضي...

    " يكفي "

    لكن أروى تابعتْ :

    " أخبريني يا رغد... يجب أن تخبريني... لماذا قتل وليد عمّار... و ما علاقتكِ أنتِ بهذا ... لماذا صرخت ِ حين رأيت ِ صورته معلقة على جدار المكتب؟؟ و لماذا تنعتانه أنتما الاثنان بالحقير؟؟ ماذا فعل؟؟ ما الذي ارتكبه و جعل وليد... يقتله انتقاما؟؟ أنت ِ تعرفين الحقيقة... أليس كذلك؟؟ من حقي أن أعرف... أخبريني ... "

    " كفى... كفى ... كفى ... "

    صرختُ و أنا أضغط بيدي كلتيهما بقوة على صدغي ّ محاولة منع الذكرى المريرة الملغومة من الانفجار في رأسي...

    آنذاك... ظهر لي وجه عمار في الصورة... نعم... لقد رأيتُه يقترب منّي... رأيتُ يديه تمتدان نحوي... قفزت ُ عن سريري مفزوعة... صرختُ ... رأيت ُ الجدران تتصدع إثر صراخي... رأيتُ السقف ينهار... و الأرض تهتز ... أحسست ُ بعيني تدور ... و الغرفة تدور... و شعرت ُ بيد ٍ ما تمتد ُ نحوي... تحاول الإمساك بي...
    إنها... يد عمّار !


    " لا... لا... لاااااااااااااا "

    على هذه الصرخات انتفضتُ و رميتُ بفرشاة أسناني جانبا و خرجتُ من الحمام مسرعا مبتلعا بقايا المعجون دفعة واحدة و مطلقا ساقي ّ للريح... نحو غرفة رغد...
    كان الباب مفتوحا و الصراخ ينطلق عبره... مفزِعا...
    اقتحمتُ الغرفة فورا و رأيتُ رغد واقفة عند سريرها ممسكة برأسها بكلتا يديها و تصرخ مذعورة ... فيما أروى واقفة مذهولة إلى جوارها معلقة يديها في الهواء...

    " رغد ؟؟ "

    هرولتُ باتجاهها مفزوعا طائر العقل ... و رأيتُ يديها تبتعدان فجأة عن رأسها و تمتدان نحوي... و في ثوانٍ... تخطو إلي ّ... و تهوي على صدري... و تطبق علي ّ...

    تعثر قلبي الراكض و انزلق أرضا بعنف... جراء الموقف...
    كنتُ مذهولا ... لا أعرف و لا أدرك ما يحصل من حولي...

    " رغد ؟؟ "

    صرخت ُ فزعا... و أنا ألتقطها بين ذراعي فجأة و أضمها إلي ّ و أشعر بصراخها يخترق أضلاع قفصي الصدري...

    " بسم الله الرحمن الرحيم... ماذا حصل رغد ...؟ "

    حاولت ُ إبعاد رأسها كي أنظر إلى عينيها لكنها غاصتْ بداخلي بعمق ... بقوة و هي تصرخ:

    " أبعده عني... أبعده عنـّـي ... أبعده عنـّـي "

    ألقيتُ نظرة خاطفة على أروى فرأيتها مجفلة فزعة محملقة بعينيها...

    صرختُ :

    " ماذا حصل ؟ "

    لم تقو َ على الكلام...

    صرختُ ثانية :

    " ماذا حصل ؟؟ يا أروى؟؟ "

    تأتأتْ أروى :

    " لا... أدري... "

    أبعدتُ رأس رغد عن صدري فلم تقاوم... نظرتُ إلى عينيها أريد أن أسألها عمّا حصل... فإذا بهما تحملقان في الفراغ... و إذا بذراعيها تهويان فجأة على جانبيها... و إذا بها تنزلق من بين يدي...

    بسرعة أمسكتُ بها و أنا أصرخ:

    " رغد... رغد "

    رفعتُها إلى السرير و جعلتُ أخاطبها و أهزها ... لكن عينيها كانتا تبحلقان في اللاشيء... و فجأة دارتا للأعلى و انسدل جفناها من فوقهما...

    " رغد... رغد... ما بك ... رغد أجيبيني "

    لكنها لم تجب...

    صرختُ بانفعال :

    " أجيبيني يا رغد... رغد...أرجوكِ... "

    و أنا أهزها بعنف محاولا إيقاظها... لكنها... بدت فجأة كالميتة....
    تزلزل قلبي تحت قدمي مرتاعا و صرختُ مذهولا:

    " يا إلهي... ماتت ْ صغيرتي ماتت ْ ..."

    و أنا مستمر في هزّها بعنف دون جدوى...

    التفتُ إلى أروى و صرختُ بقوة:

    " طبيب... إسعاف... ماء ... افعلي شيئا... احضري شيئا ... تحركي بسرعة "

    و أروى واقفة كالتمثال ... متجمدة في فزع ..

    صرختُ :

    " هيا بسرعة "

    تحركتْ أروى باعتباط ... يمينا يسارا حتى إذا ما لمحتْ قارورة الماء تلك على المكتب... أسرعتْ إليها و جلبتها لي
    رششتُ الماء على وجه رغد ... بل إنني أغرقتُه و أنا لا أزال أهزها و أضرب خديها بقوة... حتى ورّمتهما....
    رغد فتحتْ عينيها فناديتها مرارا لكنها لم تكن تنظر إليّ أو حتى تسمعني... بدتْ و كأنها تسبح في عالم آخر...

    " رغد... أتسمعينني؟؟ ردي عليّ... ردي عليّ يا رغد أرجوك... "

    و لم تتجاوب معي...
    بسرعة قربتُ من فمها قارورة الماء و طلبتُ منها أن تفتحه و تشرب...
    رغد لم تحرك شفتيها... بل عادتْ و أغمضتْ عينيها... لكنها لا تزال تتنفس... و لا يزال الشريان ينبض في عنقها بعنف...
    أبعدت ُ القارورة و رحت ُ أحرك رأسها يمينا و شمالا بقوة ... محاولا إيقاظها...
    و التفتُ إلى أروى آمرا :

    " أحضري بعض السكّر "

    وقد تفجرتْ فكرة هبوط السكر في بالي فجأة...

    أروى حدّقت بي ببلاهة... غير مستوعبة لشيء فهتفتُ:

    " السكر يا أروى... بسرعة "

    وانطلقتْ أخيرا خارج الغرفة و عادتْ بعد ثوان تحمل علبة السكّر...
    كانتْ رغد لا تزال شبه غائبة عن الوعي على ذراعي...
    تناولتُ علبة السكر بسرعة و سكبتُ كمية منه داخل القارورة و رججتها بعنف... ثم قرّبتها من رغد مجددا :

    " رغد... أتسمعينني؟؟ افتحي فمك..."

    لكنها فتحتْ عينيها و نظرتْ إليّ...
    رأس رغد كان على ذراعي اليسرى و القارورة في يدي اليمنى... ألصقتُها بشفتيها و قلتُ:

    " هيا يا رغد...افتحي فمك "

    لم تع ِ رغد كلامي...
    رفعت ُ رأسها و فتحت ُ فمها بنفسي... و دلقت ُ شيئا من الشراب فيه...

    " اشربي...."

    عينا رغد أوشكتا على الإغماض... فهززتها بقوة :

    " أوه لا... لا تنامي الآن... أفيقي... اشربي هيا... "

    و رفعت ُ رأسها للأعلى أكثر...
    حينها وصل الشراب إلى بلعومها فسعلتْ... و ارتد الشراب إلى الخارج...
    فتحتْ رغد عينيها و بدا و كأنها استردتْ شيئا من وعيها إثر ذلك...

    قربت ُ القارورة من فمها مجددا و قلتُ:

    " أتسمعينني يا رغد ؟؟ اشربي... أرجوك..."

    سكبتُ كمية أخرى في فمها فابتلعتها رغد فجأة... ثم فجأة رأيتُ المزيج يخرج من فمها و أنفها... و ينسكب مبللا وجهها و ملابسها...

    " أوه يا رغد.... كلا... كلا...."

    ضممتُها إلى صدري بهلع ... بفزع... بعشوائية... و بانهيار...
    كانت طرية كالورقة المبللة...

    غمست ُ يدي في علبة السكّر و أخذتُ حفنة منه... و رفعتُها نحو فمها المفغور و نثرتُها فيه... مبعثرا الذرات على وجهها المبلل و على عنقها و ملابسها و في كل مكان من شدّة اضطرابي...

    " ابلعيه... أرجوك... أرجوك يا رغد... "

    عدتُ و أخذتُ كمية أخرى و حشوتُ فمها بها... و أغلقتُه بيدي... و هي مستسلمة لا تقاوم... و لا تظهر على قسمات وجهها أية تعبيرات...
    كأنها تمثال من الورق الذابل...
    كانت... كالميتة على ذراعي...
    عدتُ أخاطبها فخرج صوتي مبحوحا ممزقا... و كأن حفنة السكر تلك قد انحشرتْ في حنجرتي أنا... و أعطبتْ حبالي الصوتية...

    " ابلعيه يا رغد... أرجوك... يجب أن تبلعيه... يا إلهي ماذا جرى لصغيرتي ؟؟ "

    أبعدتُ رأس رغد عنّي قليلا... فرأيتُ عينيها نصف مفتوحتين تحملقان في اللاشيء ... و فمها مفتوح تنساب من زاويتيه قطرات اللعاب ممزوجة بحبيبات السكر....
    و شيئا فشيئا بدأتْ تحرّك عينيها و فمها و تستعيد وعيها...

    " رغد ... "

    صحت ُ بلهفة... و أنا أرى عينيها تدوران في الغرفة و من ثم تنظران إلي ّ

    " رغد... رغد... هل تسمعينني ؟؟ "

    رغد تنظر إلي... إذن فهي تراني... و تسمعني...
    فمها أراه يتحرك و يبتلع السكر...

    بسرعة تناولت ُ قارورة المزيج تلك و ألصقتُها بفمها مباشرة و قلتُ :

    " اشربي ... أرجوك... أرجوك... "

    شربتْ رغد جرعة ... و ابتلعتْها... تلتها جرعة أخرى...
    أبعدت ُ القارورة و أعدتُ رجها بقوة... ثم قربتُها من شفتيها و طلبتُ منها أن تشرب المزيد...

    " اشربي... قليلا بعد يا رغد... هيا ... "

    حتى أرغمتُها على شرب المزيج كاملا... و قد تجاوبتْ منقادة و نصف واعية على ذراعي...
    و هي على ذراعي... استردّتْ وعيها تدريجيا...
    و هي على ذراعي... كانتْ تتنفس بقوة... و اضطراب... و ترتعش كعصفور يحتضر...
    و هي على ذراعي... انحدرتْ من عيني دمعة كبيرة... بحجم السنين التي فرقتْ فيما بيننا...
    و هي على ذراعي... و أنا ممسك بها بكل قوتي و كل ضعفي... مخافة أن تنزلق من بين يدي... مخافة من أن يبعدها القدر عني... مخافة من أن أفقدها هذه المرة... للأبد...

    لقد كانت شبه ميتة بين يدي...
    رغد الحبيبة... طفلتي الغالية... منبع عواطفي و مصبها... شبه ميتة... على ذراعي ؟؟

    " هل تسمعينني يا رغد ؟ أتسمعينني ؟ "

    سألتُها عندما رأيتُها تحدّق بي... بدتْ و كأنها مشوشة و غير قادرة على التركيز... أخذتْ تدور بعينيها على ما حولها... توقفتْ برهة تحملق في أروى... و أخيرا عادتْ إلي...

    " أخبريني... هل أنتِ بخير؟؟ أتسمعينني؟؟ أتستطيعين التحدّث؟ ردي عليّ يا رغد أرجوك... "

    " وليد... "

    أخيرا نطقتْ...

    قلتُ بلهفة :

    " نعم رغد... أأنت ِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟ "

    رغد أغمضتْ عينيها بقوة... كأنها تعتصر ألما... ثم غمرتْ وجهها في صدري... و شعرتُ بأنفاسها الدافئة تتخلخل ملابسي... كما أحسستُ بالبلل يمتصه قميصي... من وجهها...

    حركتُ يدي نحو كتفها و ربتُ بخفة:

    " رغد...؟؟ "

    تجاوبتْ رغد معي... أحسستُ بهمسها يصطدم بصدري... لم أميّز ما قالتْ أولا... لكنها حين كررتْ الجملة استطاعتْ أذناي التقاطها ...

    " أبعده عنّي... "

    توقفتُ برهةً أفتشُ عن تفسيرٍ لما سمعتُ... سألتُها بحيرة و عدم استيعاب :

    " أُبعِدُهُ عنكِ ؟؟ "

    كررتْ رغد... و هي تغمرُ وجهها أكثر في ثنايا قميصي :

    " أَبعدهُ عنّي ... "

    قلتُ مستغربا :

    " من ؟؟ "

    سرتْ رعشة في جسد رغد انتقلتْ إليّ ... نظرتُ إلى يدها الممدودة جانبا فرأيتُها ترتجفُ... و رأيتُها تتحرك نحوي و تتشبثْ بي... كانتْ باردة كالثلج... و أيضا أحسستُ برأسها ينغمسُ في داخلي أكثر فأكثر... ثم سمعتُها تقول بصوتٍ مرتجف واهن:

    " عمّار "

    آن ذاك... جفلتُ و تصلبتْ عضلاتي فجأة... و تفجرتْ الدهشة كقنبلة على وجهي...
    حركتُ يدي إلى رأسها و أدرتُه إليّ... لأرى عينيها... فتحتْ هي عينيها و نظرتْ إليّ...

    قلتُ :

    " من ؟؟ "

    فردّتْ :

    " عمار... أبعده عنّي... أرجوك "

    اختنق صوتي في حنجرتي بينما ارتجّتْ الأفكار في رأسي...

    قلتُ :

    " عمــ....مار ؟؟ لكن... "

    و لم أقوَ على التتمة...
    ماذا جرى لصغيرتي ؟ ما الذي تهذي به ؟؟

    قالتْ :

    " أبعده... أرجوك "

    ازدردتُ ريقي بفزع و أنا أقول :

    " أين... هو ؟ "

    رغد حركتْ عينيها و نظرتْ نحو أروى... ثم هزتْ رأسها و أغمضتْ عينيها و عادتْ و غمرتْ وجهها في صدري و هي تصيح :

    " أبعده عني... أبعده عنّي... وليد أرجوك..."

    آنذاك... شعرتُ بأن خلايا جسمي كلها انفصمتْ عن بعضها البعض و تبعثرتْ على أقطار الأرض... و فشلتُ في جمعها...

    البقايا المتبقية لي من قوة استخدمتُها في الطبطبة على رغد و أنا أردد :

    " بسم الله عليكِ... اهدئي يا رغد... ماذا حل بكِ؟ ...هل رأيتِ كابوسا ؟؟ "

    رغد كررتْ مجددا و هذه المرة و هي تبكي و تشدّ ُ الضغط عليّ متوسلة:

    " أبعده يا وليد... أرجوك... لا تتركني وحدي... لا تذهب..."

    " أنا هنا يا رغد... بسم الله عليكِ... يا إلهي ماذا حصل لكِ ؟ هل تعين ما تقولين؟ "

    أبعدتْ رغد رأسها قليلا و وجهتْ نظرها إلى أروى و صاحتْ مجددا:

    " أبعده أرجوك... أرجوك... أنا خائفة... "

    جُن ّ جنوني و أنا أرى الصغيرة بهذه الحالة المهولة ترتجف ذعرا بين يدي ...
    هتفتُ بوجه أروى :

    " ماذا فعلت ِ بالصغيرة يا أروى ؟ "

    أروى واقفة مدهَشة متجمدة في مكانها تنظر إلينا بارتباك و هلع...

    صرخت ُ :

    " ماذا فعلت ِ يا أروى تكلّمي ؟ "

    ردتْ أروى باضطراب:

    " أنا ؟؟ لا شيء... لم أفعل شيئا "

    قلت ُ آمرا بصرامة :

    " انصرفي الآن ... "

    حملقتْ أروى بي مذهولة فكررت ُ بغضب :

    " انصرفي هيا ... "

    حينها خرجتْ أروى من الغرفة... و بقينا أنا و رغد منفردين... يمتص كل منا طاقته من الآخر...
    كانت الصغيرة لا تزال تئن مراعة في حضني... حاولتُ أن أبعدها عنّي قليلا إلا أنها قاومتني و تشبثتْ بي أكثر...
    لم استطع فعل شيء حيال ذلك... و تركتُها كما هي...
    هدأتْ نوبة البكاء و الروع أخيرا... بعدها رفعتْ رغد رأسها إلي و تعانقتْ نظراتنا طويلا...

    سألتُها :

    " أأنت ِ بخير ؟ "

    فأومأتْ إيجابا...

    " كيف تشعرين ؟ "

    " برد ... "

    قالتْ ذلك و الرعشة تسري في جسمها النحيل...
    جعلتُها تضطجع على الوسادة و غطيتها باللحاف و البطانية... و درتُ ببصري من حولي فوجدتُ أحد أوشحتها معلقا بالجوار فجلبتُه...
    و أنا ألفّه حول وجهها انتبهتُ لحبيبات السكر المبعثرة على وجهها و شعرها... و ببساطة رحتُ أنفضها بأصابعي...
    كان وجهها متورما محمرا من كثرة ما ضربته! أرى آثار أصابعي مطبوعة عليه !...
    آه كم بدا ذلك مؤلما... لقد شقّ في قلبي أخدودا عميقا...
    أنا آسف يا صغيرتي...سامحيني...

    لففتُ الوشاح على رأسها بإحكام مانعا أي ٍ من خصلات شعرها القصير الحريري من التسلل عبر طرفه...

    " ستشعرين بالدفء الآن... "

    سحبت ُ الكرسي إلى جوار السرير و جلستُ قرب رغد أراقبها...
    إنها بخير... أليس كذلك؟
    هاهي تتنفس... و هاهما عيناها تجولان في الغرفة... و هاهو رأسها يتحرك و ينغمر أكثر و أكثر في الوسادة...
    لابد أنه هبوط السكّر... فقد مرتْ رغد بحالة مشابهة من قبل... لكنها لم تكن تهذي آنذاك...
    هل كان كابوسا أفزعها؟؟
    هل قالتْ لها أروى شيئا أثار ذعرها؟؟
    ماذا حصل؟؟
    لابد أن أعرف...

    انتظرتُ حتى استرددتُ أنفاسي المخطوفة... و استرجعتُ شيئا من قواي الخائرة... و ازدردت ُ ريقي الجاف إلا عن طعم المعجون الذي لا يزال عالقا به... و استوعبتُ الموقف، ثم خاطبتُ رغد :

    " رغد "

    التفتتْ رغد إلي ّ فسألتُها:

    " ماذا... حصل ؟ "

    كنتُ أريد الاطمئنان على وعيها و إدراكها... و معرفة تفسير ما حدث...
    رغد نظرتْ إلي ّ نظرة بائسة... ثم قالتْ و صوتها هامس خفيف:

    " شعرت ُ بالدوخة منذ استيقاظي... و عندما وقفت ُ أظلمتْ الصورة في عيني ّ و فقدت ُ توازني... "

    ثم أضافتْ :

    " لم آكل شيئا... أظن أنه السبب "

    ثم تنهّدتْ باسترخاء...
    قلتُ :

    " أهذا كل شيء؟"

    قالت :

    " نعم "

    " و أنتِ الآن... بخير ؟؟ "

    أجابتْ :

    " نعم... بخير "

    تنهدتُ شبه مطمئنا و قلتُ :

    " الحمد لله..."

    و أضفتُ :

    " لقد أفزعتني..."

    نظرتْ هي إليّ ثم غضّت بصرها اعتذارا...

    قلتُ :

    " الحمد لله... المهم أنكِ بخير الآن "

    عقبتْ :

    " الحمد لله "

    سكتُ قليلا و الطمأنينة تنمو في داخلي، ثم استرسلتُ :

    " إذن... لم تأكلي شيئا البارحة.. أليس كذلك ؟ "

    و لم أرَ على وجهها علامات الإنكار...

    قلت ُ معاتبا و لكن بلطف:

    " لماذا يا رغد؟ لم تسمعي كلامي... أتريدين إيذاء نفسك؟؟ انظري إلى النتيجة... لقد جعلت ِ الدماء تجف في عروقي هلعا..."

    حملقتْ رغد بي لبرهة أو يزيد... ثم نقلتْ بصرها إلى اللحاف بعيدا عنّي... تأسفا و خجلا...
    لم يكن الوقت المناسب للعتاب.. لكن خوفي عليها كاد يقتلني... و أريد أن أعرف ما حصل معها...

    قلت ُ :

    " أحقا هذا كل ما في الأمر ؟ "

    عادتْ رغد تنظر إليّ مؤكدة :

    " نعم... لا تقلق... أنا بخير الآن "

    سألت ُ :

    " و أروى... ماذا كانت تفعل هنا ؟ "

    أجهل معنى النظرات التي وجهتها رغد نحوي... لكنني رجّحت ُ أنها لا تود الإجابة...
    احترتُ في أمري... أردت ُ أن أسألها عما جعلها تشير إليها كـ عمار... و لم أجرؤ...

    قلتُ أخيرا... و أنا أهب ُ واقفا :

    " حسنا... دعيني أحضر لك ِ شيئا تأكلينه "

    و هممتُ بالانصراف غير أن رغد نادتني:

    " وليد... "

    التفتُ إليها و رأيتُ الكلام مبعثرا في عينيها... لا أعرف ماذا كانت تود القول... غير أنها غيّرت حديثها و قالتْ:

    " أنا آسفة "

    ابتسمتُ ابتسامة سطحية و قلتُ مشجعا :

    " لا عليك "

    ابتسمتْ هي بامتنان و قالتْ :

    " شكرا لكَ "

    و غادرت ُ الغرفة... مطمئن البال نسبيا و اتجهتُ إلى المطبخ...







    هناك حضرت ُ الشاي و فتشتُ عن بعض الطعام فوجدت ُ علب البيتزا التي كنتُ قد اشتريتها بالأمس و لم تُمس...
    و عدا عن العلبة التي تناولتـْها خالتي ليندا، فإن البقية كما هي
    قمت ُ بتسخين أحد الأقراص على عجل... و انطلقتُ حاملا الطعام إلى رغد...

    كانتْ على نفس الوضع الذي تركتُها عليه...
    جلست ُ على المقعد إلى جوارها و قدّمتُ لها الوجبة

    " تفضلي... اشربي بعض الشاي لتدفئي "

    جلستْ رغد و أخذتْ تحتسي الشاي جرعةً جرعة... وهي ممسكة بالكوب بكلتا يديها...

    " هل تشعرين بتحسّن ؟ "

    حركتْ رأسها إيجابا

    قلتُ :

    " جيّد... الحمد لله... تناولي بعضا من هذه ... لتمنحك بعض الطاقة "

    و قربتُ إليها إحدى قطع البيتزا ... فأخذتْها و قضمتْ شيئا منها...

    سألتُها :

    " أهي جيّدة ؟ لا أعتقد أن طعمها قد تغيّر ؟ "

    أتعرفون كيف ردّت رغد ؟؟
    لا لن تحزروا... !

    فوجئتُ برغد و قد قربتْ قطعة البيتزا ذاتها إلى فمي... تريدُ منّي أن أتذوقها!

    اضطربتُ، و رفعتُ يدي لأمسك بالقطعة فأبعدتْ رغد القطعة عن يدي... و عادتْ و قرّبتْها إلى فمي مباشرة !

    الصغيرة تريد أن تطعمني بيدها !

    نظرتُ إليها و قد علا التوتر قسمات وجهي كما لوّنته حمرة الحرج... و رغد لا تزال معلّقة البيتزا أمام فمي...

    أخيرا قلتُ :

    " كـُـ... كليها أنت ِ رغد "

    و لو ترون مدى الامتقاع و التعبيرات المتعسة التي ظهرت على وجهها !

    و إذا بها تقول:

    " لا تريد أن تأكل من يدي ؟ "

    فاجأني سؤالها في وقت لم أصح ُ فيه بعد من مفاجأة تصرفها... و لا مفاجآت حالتها هذا الصباح...
    إنّ شيئا ألمّ بالصغيرة... يا رب... لطفك ...

    رفعتُ حاجباي دهشة... و تلعثمتْ الحروف على لساني...

    " أأأ... رغد... إنه... أنا... "

    رغد... ماذا جرى لك اليوم ؟؟ ماذا أصابك ...؟
    أنت ِ تثيرين جنوني... تثيرين فزعي... تثيرين مخاوفي ... تثيرين شجوني و آلامي و ذكريات الماضي...
    ماذا دهاك يا رغد ؟؟
    بربّك... أخبريني ؟؟

    كنتُ على وشك أن أنطق بأي جملة... تمتّ ُ أو لا تمتُ للموقف بصلة إلاّ أن رغد سبقتني و قالتْ منفعلة:

    " لكنك تأكل من يدها... أليس كذلك ؟ "

    ذهلتُ لجملتها هذه ... أيما ذهول...
    رغد لم تبعد يدها بل قربتها مني أكثر .. لا بل ألصقتْ البيتزا بشفتي و نظراتها تهددني...
    حملقتُ بها بدهشة و قلق... شيء ما قد حلّ بصغيرتي... ماذا جرى لها ؟ يا الهي...

    " رغد... "

    لما رأتْ رغد استنكاري... أبعدتْ البيتزا عني، و وجهها شديد الحزن تنذر عيناه بالمطر... و فمها قد تقوس للأسفل و أخذ يرتعش... و رأسها مال إلى الأسفل بأسى و خيبة ما سبق لي أن رأيتُ على وجه رغد شبيها لهما... و بصوت ٍ نافذ الطاقة هزيل متقطّع أقر ب إلى الأنين قالتْ:

    " أنت ...لا تريد... أن... تأكل من يدي أنا... أليس... كذلك ؟ "

    و هطلتْ القطرة الأولى... من سحابة الدموع التي سرعان ما تكثـّفتْ بين جفنيها...
    إنها ليستْ باللحظة المناسبة لأي شرح أو تفسير... أو علة أو تبرير... أو رفض أو اعتراض !

    قلتُ مستسلما مشتتا مأخوذا بأهوال ما يجري من حولي:

    " لا... لا ليس كذلك ... "

    شيئا فشيئا انعكس اتجاه قوس شفتيها... و ارتسمتْ بينهما ابتسامة مترددة واهية... و تسللتْ من بينهما الدمعة الوحيدة مسافرة عبر فيها إلى مثواها الأخير...

    نحو فمي ساقتْ رغد قطعة البيتزا ثانيةً... و بين أسناني قطعتُ جزءا منها مضغتُه دون أن أحسّ له طعما و لا رائحة...

    اتسعتْ الابتسامة على وجه الصغيرة و سألتني:

    " لذيذة ؟ "

    قلتُ بسرعة :

    " نعم ... "

    ابتسمتْ رغد برضا... و كأنها حققتْ إنجازا عظيما...
    ثم واصلتْ التهام البيتزا و طلبتْ مني مشاركتها ففعلتُ مستسلما... و أنا في حيرة ما مثلها حيرة من أمر هذه الصغيرة...

    كم بدا القرص كبيرا... لا ينتهي...
    كنتُ أراقب كل حركة تصدر عن صغيرتي... متشككا في أنها قد استردتْ إدراكها كاملا... الرعشة في يديها اختفتْ... الارتخاء على وجهها بان... الاحمرار على وجنتيها تفاقم... و الأنفاس من أنفها انتظمتْ...
    و أخيرا فرغتْ العلبة... لقد التهمنا البيتزا عن آخرها لكن... لم أشعر بأنني أكلتُ شيئا...

    في هذه اللحظة أقبلتْ أروى و وقفت عند الباب مخاطبة إياي:

    " إنه هاتف مكتبك يا وليد... رن مرارا..."

    نقلت ُ بصري بين أروى و رغد... الفتاتان حدقتا ببعضهما البعض قليلا... ثم مدتْ رغد يديها و أمسكتْ بذراعي كأنها تطلب الأمان...
    كان الخوف جليا على وجهها ما أثار فوق جنوني الحالي... ألف جنون و جنون...

    " رغد !! "

    رغد كانت تنظر إلى أروى مذعورة... لا أعرف ما حصل بينهما...

    قلتُ مخاطبا أروى :

    " انصرفي الآن يا أروى رجاء ً "

    رمقتني أروى بنظرة استهجان قوية... ثم غادرتْ...

    التفتُ إلى الصغيرة و سألتُها و القلق يكاد يقتلني :

    " ماذا حل بكِ يا رغد ؟ أجيبيني ؟؟ هل فعلتْ بك ِ أروى شيئا ؟؟ "

    رغد أطلقتْ كلماتها المبعثرة بانفعال ممزوج بالذعر:

    " لا أريد أن أراها... أبعدها عني... أنا أكرهها... ألا تفهم ذلك؟؟... أبعدها عني...أرجوك "

    لن يفلح أي وصف لإيصال شعوري آنذاك إليكم... مهما كان دقيقا
    أخذتُ أطبطب عليها أحاول تهدئتها و أنا المحتاج لمن يهدّئني....

    " حسنا رغد... يكفي...أرجوك اهدئي... لا تضطربي هكذا...بسم الله الرحمن الرحيم..."

    بعد أن هدأتْ رغد و استقرتْ حالتها العجيبة تلك... لم أجرؤ على سؤالها عن أي شيء... عرضتُ عليها أن آخذها إلى الطبيب، لكنها رفضتْ تماما... فما كان منّي إلا أن طلبتُ منها أن تسترخي في فراشها لبعض الوقت و سرعان ما اضطجعتْ هي و غطّتْ وجهها بالبطانية... ليس لشيء إلا.. لأنها أرادتْ أن تبكي بعيدا عن مرآي...

    كنتُ أسمع صوت البكاء المكتوم... و لو دفنته يا رغد تحت ألف طبقة من الجبال... كنتُ سأسمعه !
    لكنني لم أشأ أن أحرجها... و أردتُ التسلل خارجا من الغرفة...
    وقفت ُ و أنا أزيح المقعد بعيدا عنها بهدوء... و سرتُ بخفة نحو الباب...
    فيما أنا على وشك الخروج إذا بي أسمعها تقول من تحت البطانية:

    " وليد...أرجوك...لا تخبرها... عما حصل في الماضي... أرجوك "

    تسمرتُ في موضعي فجأة إثر سماعي لها... استدرتُ نحوها فرأيتها لا تزال مختبئة تحت البطانية... هروبا من مرآي...

    تابعتْ :

    " لن احتمل نظرات السخرية... أو الشفقة من عينيها... أرجوك وليد.."

    بقيتُ واقفا كشجرة قديمة فقدتْ كل أوراقها الصفراء الجافة في مهب رياح الخريف...
    لكن المياه سرعان ما جرتْ في جذوري ... دماء ً حمراء مشتعلة تدفقتْ مسرعة نحو رأسي و تفجرتْ كبركان شيطاني... من عيني ّ...

    تبا لك ِ يا أروى...!!

    خرجتُ من غرفة رغد غاضبا متهيجا و بحثتُ عن أروى و وجدتُها في الردهة قرب السلّم... ما أن رأتني حتى وقفتْ و أمارات القلق على وجهها صارخة...

    قالتْ مباشرة :

    " كيف هي ؟ "

    و قبل أن تسترد نفسها من الكلام انفجرتُ في وجهها كالقنبلة:

    " ماذا فعلت ِ بها ؟ "

    الوجوم و الدهشة عليا تعبيراتها و قالتْ مضطربة:

    " أنا !! ؟؟ "

    قلتُ بصوت ٍ قوي غليظ :

    " نعم أنت ِ ... ما الذي فعلته بها ؟؟ أخبريني ؟ "

    أروى لا تزال مأخوذة بالدهشة تنم تعبيرات وجهها عن السذاجة أو التظاهر بالسذاجة... و هو أمر أطلق المدافع في رأسي غضبا... فزمجرت ُ :

    " تكلّمي يا أروى ما الذي كنت ِ تفعلينه في غرفتها؟؟ ماذا قلت ِ لها تكلّمي "

    أروى توتّرتْ و قالتْ مستهجنةْ:

    " و ما الذي سأفعله بها ؟؟ لم أفعل شيئا... ذهبت ُ لأسألها عن شيء... إنها هي من كان غير طبيعيا... بدتْ و كأنها ترى كابوسا أو فلما مرعبا... ثم صرختْ.. .لا علاقة لي بالأمر "

    قلتُ بغضب :

    " عن أي شيء سألتها ؟ "

    بدا التردد على أروى فكررتُ بلكنة مهددة:

    " عن أي شيء سألتها يا أروى تكلّمي؟؟ اخبرني بالتفصيل.. ماذا قلت ِ لها و جعلتها تضطرب بهذا الشكل؟؟ عم سألتها أخبريني؟ "

    " وليد ! "

    هتفتُ بعنف :

    " تكلّمي ! "

    شيء من الذعر ارتسم على وجه أروى... من جراء صراخي...

    أجابتْ متلعثمة :

    " فقط ...سـ... سألتها عن... سبب قتلك عمار... و إخفائك الحقيقة عنّي... و عن ... علاقتها هي بالأمر... "

    انطلقتْ الشياطين من بركان رأسي ... كنت ُ في حالة غضب شديد... لم استطع كتمانه أو التغلب عليه...
    صرخت ُ في وجه أروى بعنف:

    " أهذا كل شيء ؟ "

    أجابتْ أروى مذعورة:

    " نعم... لا تصرخ بوجهي ... "

    لكنني خطوتُ نحوها... و مددتُ يدي و أمسكتُ بذراعها بقوة و ضججتُ صوتي:

    " و لماذا فعلتِ ذلك ؟ ألم أحذركِ من هذا ؟ ألم أطلب منكِ ألا تتحدثي معها ؟ لماذا فعلت ِ هذا يا أروى لماذا ؟ "

    أطلقتْ أروى صيحة ألم... و حاولتْ تحرير ذراعها منّي... لكنني ضغطتُ بشدة أكبر و أكبر... و هتفتُ بوجهها منفعلا :

    " كيف تجرأتِ على هذا يا أروى ؟؟ أنظري ماذا فعلت ِ بالصغيرة... إنها مريضة... ألا تفهمين ذلك ؟؟ إن أصابها شيء ... فستدفعين الثمن غاليا "

    صاحتْ أروى:

    " اتركني يا وليد ... أنت تؤلمني... "

    قلتُ :

    " لن أكتفي بالألم... إن حلّ بالصغيرة شيء بسببكِ يا أروى... أنا لا أسمح لأحد بإيذائها بأي شكل... كائنا من كان... و لا أسامح من يسبب لها الأذى أبدا يا أروى...أتفهمين ؟؟ إلا صغيرتي يا أروى... إلا رغد... لا أسامح فيها مس شعرة... أبدا يا أروى أبدا... أبدا... هل فهمت ِ ؟؟ "

    و أفلتُّ ذراعها بقسوة مبعدا إياها عنّي بسرعة... لئلا تتغلب علي الشياطين و تدفعني لارتكاب ما لن ينفع الندم بعده على الإطلاق...

    كان هذا.. مطلعا تعيسا أسود ليوم جديد أضيفه إلى رصيد أيام حياتي الحزينة المؤلمة... و هو مطلع لم يساوي الكثير أمام ما كان يخبئه القدر... في نهايته..















    طرقتُ الباب و لم ألقَ جوابا، ففتحته و دخلتُ الغرفة

    الوقت آنذاك كان وقت غروب الشمس... الغرفة كانتْ تسبح في السواد إلا عن بصيص بسيط يتسلل عبر فتحة صغيرة بين ستائر إحدى النوافذ...

    البصيص كان يشق طريقه عبر فراغ الغرفة و يقع رأسا على جسم مغناطيسي... طويل... عريض... ضخم... محشور فوق أحد المقاعد !

    متأكدة أن البصيص اختار الانجذاب طوعا إليه هو... دونا عن بقية الأجسام ... الطويلة العريضة الضخمة... التي تفرض وجودها بكل ثقة في أرجاء هذه الغرفة !

    لا أعرف ما الذي دهاني !؟

    كنتُ قادمة بمشاعر غاضبة تريد أن تنفجر... و فجأة تحوّلتْ مشاعري إلى نهر دافئ ينجرف طوعا نحو وليد !

    أغلقتُ الباب و على هدى النور الخافت سرتُ نحو وليد أحمل الكيس بحذر...

    وقفتُ قربه و أنا أشعر بأنه أقرب إليّ من الهواء الذي يلامسني، و من المشاعر التي تختلج صدري...

    وضعتُ الكيس جانبا فأصدر صوتا... لكن وليد لم ينتبه له...

    يبدو أنه نائم بعمق ! و لكن لماذا ينام هنا و بهذا الشكل المتعب و في مثل هذا الوقت؟

    كنتُ على وشك أن أهتف باسمه إلا أن هتافا أقوى و أعظم تسلل عبر زجاج نوافذ الغرفة أو جدرانها و ملأ داخلها إصغاء ً و خشوعا

    ( الله أكبر الله أكبر )

    و لم ينتبه وليد لصوت الأذان...

    توجهتُ نحو تلك النافذة... و أزحتُ الستائر و فتحتها بهدوء... فاندفع صدى الأذان أقوى و أخشع نحو الداخل... و انتشر النور الباهت في الغرفة...

    النافذة تطل على الفناء الخلفي للمنزل، و الذي كانت تستعمره حديقة جميلة في الماضي... تحولتْ إلى صحراء قاحلة خالية إلا من بعض قطع الأثاث و السجاد القديمة التي ركناها هناك عند مجيئنا للمنزل...

    أما السماء فقد كانت تودع خيوط الشمس الراحلة... و التي لم تشأ الرحيل قبل أن ترسل بصيصها الأخير... إلى وليد !

    انتهى الأذان و وليد لم يسمعه ... و لم يشعر بحركة شيء من حوله !

    قررتُ أخيرا أن أوقظه !

    ناديته بضع مرات و بصوتٍ يعلو مرة تلو الأخرى إلى أن سمعني و استيقظ أخيرا !

    فتح وليد عينيه و هو ينظر نحو النافذة مباشرة !

    قلت ُ :

    " صحوة حميدة ! "

    وليد مغط ذراعيه و تثاءب ثم قال :

    " من ؟ أهذه أنتِ رغد ؟؟ "

    أجبتُ :

    " نعم "

    وليد أخذ يدلّك عنقه قليلا... ربما يشعر بألم بسبب نومه على المقعد ! لا أعرف لم يحب وليد النوم على المقاعد ؟؟

    قلت ُ :

    " لماذا تنام هنا وليد ؟؟ "

    أسند وليد رأسه إلى مسند المقعد لبرهة ثم أخذ ينظر إلى ساعة يده:

    " كم الساعة الآن ؟؟ "

    قلت ُ :

    " تقريبا السادسة ! رُفع أذان المغرب قبل قليل فأردتُ إيقاظك ! "

    قال وليد :

    " آه... هل نمتُ كل هذا !؟ إنني هنا منذ الظهيرة "

    ابتسمتُ و قلتُ:

    " نوم العافية ! "

    وليد فجأة نظر نحوي... ثم أخذ يتلفتْ يمينا و شمالا ... ثم نهض واقفا و هو ينظر نحوي و قال :

    " رغد ؟؟! ماذا تفعلين هنا ؟؟ "

    و كأنه انتبه للتو أنني موجودة ! و كأنه استيقظ الآن فقط من النوم !

    قلت ُ باستغراب :

    " أتيتُ لإيقاظك ! وقت الصلاة "

    قال :

    " و النافذة ؟ "

    قلتُ :

    " كنتُ أستمع إلى الأذان... و أراقب السماء ! "

    وليد حكّ شعر رأسه قليلا ثم سار باتجاهي... حتى صار عند الطرف الآخر من النافذة ثم قال :

    " و لكن أين المطر "

    استغربتُ و سألت ُ:

    " المطر ؟ أي مطر ؟؟ "

    قال :

    " ألم تقولي أنك كنتِ تراقبين المطر ؟ "

    قلتُ :

    " أبدا ! قلتُ أنني استمع إلى الأذان و أراقب السماء ! أي مطر هذا و نحن في قلب الصيف!"

    قال وليد :

    " لم أسمع جيدا "

    قلتُ و أنا أبتسم :

    " يبدو أنك لا تزال نائما ! "

    ابتسم وليد و ألقى نظرة على السماء و مجموعة من العصافير تطير عائدة إلى أعشاشها...

    التفت إليّ بعدها و سأل:

    " صحيح رغد... كيف أنت ِ الآن ؟ "

    و تذكّرت ُ لحظتها الدوخة الذي داهمتي صباحا بسبب الجوع ... و كيف أنه أغشي عليّ بضع دقائق... و انهرتُ بين ذراعي وليد !

    و شعرت ُ بطعم السكّر في فمي... فازدرتُ ريقي وأنا أطأطئ رأسي خجلا و أهمس:

    " بخير... "

    وليد قال :

    " جيّد ! و هل تناولت ِ وجبة بعد البيتزا ؟ "

    قلت :

    " لا "

    " سيء ! لماذا رغد ؟ أنت ِ صغيرة و نحيلة و لا تتحملين الجوع لوقت ٍ طويل... تكرر هذا معنا في البر... أتذكرين ؟ "

    رفعتُ بصري إليه و ابتسمت ُ

    طبعا أذكر ! من ينسى يوما كذلك اليوم ؟؟ و نحن حفاه جياع عطشى مرعوبون و هائمون في البر؟؟

    و لكن لحظة ! هل أنا صغيرة لهذا الحد ؟؟

    قلت بمرحُ :

    " لا تقلق... متى ما شعرتُ بالجوع سأحضّر لي بعض البطاطا المقلية "

    ابتسم وليد و قال :

    " طبقك ِ المفضّل ! "

    اتسعتْ ابتسامتي تأييدا و أضفت ُ:

    " و الوحيد ! فأنا لا أجيد صنع شيء آخر ! "

    ضحك وليد... ضحكة عفوية رائعة... أطربت ْ قلبي... و كدتُ أنفجر ضحكا من السعادة لولا أنني كتمتُ أنفاسي خجلا منه !

    في ذات اللحظة، انفتح باب الغرفة ...

    التفتنا نحن الاثنان نحو الباب... فوجدنا أروى تطل علينا...

    و لأن الإضاءة كانتْ خافتة جدا... يصعب عليّ كشف تعبيرات وجهها... لم تتحدّث أروى بادئ الأمر، كما ألجم الصمت لسانينا أنا و وليد... بعدها قالت أروى:

    " استيقظتَ ؟ جيّد إذن... كنت ُ سأوقظك لتأدية الصلاة "

    وليد قال و هو يسير نحو الباب مبتعدا عنّي :

    " نعم أروى... نهضت لتوّي "

    وصل وليد إلى مفتاح مصابيح الغرفة، فأضاءها...

    الإنارة القوية ضيّقت بؤبؤي عينيّ المركزين على أروى، للحد الذي كادا معه أن يخنقاها !

    كانت أروى تنظر نحوي، نظرة حادة... ثم نقلتْ نظرها إلى وليد...

    سمعتُ وليد و الذي صار قربها يهمس بشيء لم تترجمه أذناي... ثم رأيتُ أروى تشيح بوجهها و تغادر الغرفة.

    وليد وقف على وضعه لثوان... ثم استدار و هو يتنهّد و قال أخيرا :

    " سأذهب إلى المسجد... هل تريدين شيئا أحضره ؟ "

    قلتُ و أنا مشغولة البال بفك رموز همسة وليد السابقة :

    " كلا... شكرا "

    و غادر وليد الغرفة...


















    و الآن... الغاضبة هي أروى و هذا دورها!

    ربّاه ! هل أنتهي من إحداهما لأبدأ مع الأخرى ؟؟

    إن أعصابي ما كادتْ تستفيق من صدمة الصباح، و ها هي على وشك الاحتراق بحادثة أخرى...

    كنتُ أود تلطيف الأجواء و لو قليلا... و الاسترخاء في هواء طلق يزيح عنّي شحنات الصباح القوية... و يطمئنني أكثر إلى أن رغد بخير...

    اقترحتُ في تلك الليلة أن نخرج في نزهة و نتناول عشاءنا في أحد المطاعم. رغد وافقتْ و الخالة ليندا رحبتْ بالفكرة غير أن أروى ردتْ بـ :

    " اذهب أنت َ و ابنة عمّك المدللة... و استمتعا بوقتكما... أنا و أمي سنبقى ها هنا "

    كنتُ ساعتها مع أروى في غرفتها و قد قدمتُ للتو لأعرض عليها الفكرة... و لمّا سمعتُ ردها حزنتُ و قلت ُ :

    " لِمَ يا أروى؟ والدتك ِ كذلك رحبتْ بالفكرة و بادرتْ بالاستعداد للنزهة "

    أبعدت ْ أروى نظرها عنّي هروبا من سؤالي.... لكنني واصلت ُ:

    " هيا يا أروى ! دعينا نروّح عن أنفسنا قليلا ! الأجواء خانقة هنا ! "

    اعني بذلك المشكلة الأخيرة بيننا أنا و رغد و أروى ...

    نظرتْ أروى إليّ و قالتْ :

    " كلا و شكرا... لا أريد الذهاب معكم "

    صمتُ قليلا ثم قلت ُ :

    " أما زلت ِ غاضبة مني ؟؟ "

    لم تجب أروى، بمعنى أنها تؤيد هذا...

    قلتُ :

    " و لم كل هذا ؟ "

    قالتْ بعصبية :

    " أنتَ تعرف السبب ... فلم تسأل ؟ "

    و بدا و كأنها تنتظر الشرارة لتشعل الحريق ! لم أكن أريد أن نبدأ الجدال من جديد بل على العكس... أردتُ أن نجدد الأجواء و نرخي أعصابنا المشدودة منذ يومين...

    " ليس بالوقت المناسب لإعادة فتح الموضوع من جديد يا أروى ! "

    ردّتْ أروى بعصبية أكبر:

    " و من قال أنني أغلقته أصلا؟؟ سيبقى معلقا إلى أن تخبرني بكل الحقائق التي تخفيها عنّي"

    كنتُ أقف عند الباب و لما اشتد صوت أروى خشيتُ أن يتسرب إلى آذان أخرى...

    دخلتُ الغرفة و أغلقتُ الباب و اقتربتُ منها و قلتُ برجاء:

    " لا نريد أن نثير شجارا الآن... أرجوكِ يا أروى... لا استطيع إيضاح المزيد... و لن أفعل ذلك مستقبلا فلا تعاودي الضغط عليّ "

    ردتْ أروى مباشرة:

    " إلى هذا الحد ؟؟ "

    قلتُ مؤكدا :

    " نعم . إلى هذا الحد "

    ضيّقتْ أروى فتحتي عينيها و قالتْ:

    " و رغد ؟؟ "

    لم تقلها ببساطة... كانت تحدّق في عينيّ بحدة ثاقبة... كأنها تتوقع رؤية الحقائق تختبئ خلف بؤبؤيهما...

    بدّلت ُ تعبيرات وجهي إلى الجدية و التحذير و قلتُ:

    " إياك ِ أن تقتربي منها ثانية ! يكفي ما حصل هذا الصباح... إياك ِ يا أروى "

    أروى تأملتْ تعبيراتي برهة ثم أشاحتْ بوجهها و هي تقول:

    " اذهب... قبل أن يتأخر الوقت "

    عدتُ أسأل :

    " و هل ستبقين بمفردك ؟ "

    " نعم "

    قلتُ معترضا :

    " لا أوافق على ذلك ! "

    استدارتْ أروى و قالتْ بلهجة أقرب للسخرية:

    " لا تقلق بشأني ! فأنا لا أخاف البقاء منفردة و ليست لدي عقدة من الوحدة ! "

    آنذاك... لم أشأ أن أطيل النقاش حرفا زائدا... و غادرتُ غرفتها و ذهبتُ إلى غرفة المعيشة الرئيسية حيث كانتْ رغد و الخالة ليندا تجلسان...

    قلت ُ :

    " هيا بنا "

    الخالة ليندا سألتْ:

    " أين أروى ؟ "

    تنهّدتُ و قلتُ:

    " لا تريد الذهاب "

    تمتمتْ الخالة بعبارات الاحتجاج ثم قالتْ أخيرا:

    " إذن... اذهبا أنتما فأنا لن أتركها وحدها "

    نهاية الأمر التفتُ إلى الصغيرة و سألت ُ:

    " إذن... أتذهبين ؟ "

    و لعلي لن أفلح في وصف التعبيرات التي كانتْ تملأ وجهها و هي تجيبُ :

    " نعم ! بالتأكيد "




    ~~~~~~~~~~





    " نعم بالتأكيد ! "

    و هل أضيع فرصة رائعة كهذه ؟؟

    أنا و وليد نخرج في نزهة ليلية ! نتجول في شوارع المدينة... نتناول الطعام من أحد المطاعم... و نحلّي بكرات البوظة ! تماما كما كنا نفعل في الماضي ! يــــاه ! ما أسعدني !

    و تحقق الحلم الذي كان أبعد من الخيال! و قضينا نحو ثلاث ساعات في نزهة رائعة أنا و وليد قلبي فقط و فقط !

    أوقف وليد سيارته عند الموقف الجانبي لأحد الجسور المؤدّية إلى جزيرة اصطناعية ترفيهية صغيرة يرتادها الناس للتنزه... و وقفنا أنا و هو على الجسر... عند السياج نتأمل الجزيرة و نراقب أمواج البحر و نتنفس عبقه المنعش... و من حولنا الناس يستمتعون بالأجواء الرائعة ...

    " منظر مدهش وليد ! ليتنا أحضرنا معنا آلة تصوير ! "

    وليد ابتسم، و أخرج هاتفه المحمول من جيبه و استخدم الكاميرا التابعة له و التقط بعض الصور... ثم دفعه لي كي أتفرج عليها !

    " عظيم ! ليتني اقتني هاتفا كهذا ! "

    كرر وليد ابتسامته و قال:

    " بكل سرور! أبقه معك لتصوري ما تودين الليلة! مع أن الظلام لن يسمح بالكثير"

    و مع ذلك التقطتُ بعض الصور الأخرى، و الأهم... صورة مختلسة لوليد التقطتها بحذر دون أن يدري... و قد أبقيتُ الهاتف معي طوال النزهة لئلا يراها!

    و راودتني فكرة أن أنقلها إلى الحاسوب، ثم أقوم بطباعتها و من ثم أرسمها بيدي... و أعيد إلى مجموعة لوحاتي صورة جديدة لوليد قلبي... عوضا عن تلك التي احترقتْ في منزلنا المنكوب...

    آه ! كم أنا سعيدة!

    و لأنني كنتُ في غمرة لا توصف من البهجة فقد تخليتُ عن جزء من حذري و رحتُ أراقب وليد بلهفة و تمعن و أرصد تحركاته و تعبيرات وجهه بدقة منقطعة النظير...

    أتمنى فقط ألا يلحظ هو ذلك !

    و نحن عند الجسر... و فيما أنا منغمسة في مراقبته... مرتْ لحظة أغمض وليد فيها عينيه و أخذ يتنفس بعمق... و يزفر الهواء مصحوبا بتنهيدات حزينة من صدره ... كرر ذلك مرارا و كأنه يريد أن يغسل صدره من الهواء الراكد الكئيب فيه !

    شعرتُ ببعض القلق فسألتُ :

    " ما بك وليد ؟ "

    التفتَ إليّ و هو يفتح عينيه و يبتسم و يجيب:

    " لا شيء! أريد أن أملأ رئتيّ من هذا النقاء! جميل جدا... كيف تفوّتْ أروى و الخالة شيئا كهذا؟"

    إذن... ربما كان يفكّر في أروى !

    خذلتني جملته بعض الشيء... ففيما أنا مكرسة نظري و فكري فيه... يشتغل باله بالتفكير بها هي؟؟

    مرتْ بذاكرتي صورة أروى و هي تشيح بوجهها عن وليد و تخرج من غرفة مكتبه هذا اليوم...عند المغرب...

    بدتْ غاضبة... وبدا وليد حينها منزعجا... و كأن بينهما خصام ما...

    الفضول تملّكني هذه اللحظة و ربما كانتْ الغيرة هي الدافع، فسألت ُ:

    " لماذا رفضتْ المجيء معنا ؟؟ هل... هل هي غاضبة؟"

    وليد نقل بصره إلى البحر... و قال بعد قليل :

    " نعم... منّي "

    لستُ شريرة و لا خبيثة ! لكن... يا إلهي أشعر بسرور غير لائق ! لم استطع كتمه و قلتُ باندفاع فاضح:

    " هل أنتما متخاصمان ؟؟ "

    التفتَ إلي ّ وليد مستغربا ! لقد كان صوتي و كذلك تعبيرات وجهي تنم عن البهجة !

    شعرتُ بالخجل من نفسي فطأطأتُ رأسي نحو الأرض فيما تصاعدتْ الدماء إلى وجنتيّ !

    لم أسمع ردا من وليد... فرفعتُ بصري اختلس النظر إليه... فوجدته و قد سبحتْ عيناه في البحر بعيدا عنّي...

    ثم سمعته يقول :

    " تريد العودة إلى لمزرعة"

    اندهشتُ ... و أصغيتُ باهتمام مكثف ... وليد تابع :

    " مصرة على ذلك و قد فشلتُ في ثنيها عن الأمر... اضطررتُ لشراء التذاكر و موعد السفر يوم الأحد "

    ماذا ! عجبا !

    قلتُ :

    " أحقا ؟ ستتركها تذهب ؟؟ "

    وليد أجاب و هو لا يزال ينظر إلى البحر:

    " و الخالة كذلك... "

    قلتُ مباشرة :

    " و أنتَ ؟؟ و أنا ؟ "

    التفتَ وليد إليّ و كأن هذه الجملة هي أكثر ما يثير اهتمامه! ركز النظر في عينيّ لحظة ثم قال :

    " سنرافقهما طبعا "

    صمتُ و علامات التعجب تدور فوق رأسي !!!

    قلتُ بعدها :

    " نعود للمزرعة ! كلا ! و الكلية ؟ و الدراسة ؟؟ "

    وليد تنهد ثم قال :

    " سنرافقهما إلى المزرعة ثم نعود... مساء الثلاثاء "

    بدأ قلبي يدق بسرعة ... نعود يقصد بها.. أنا و هو ؟؟ أم ماذا ؟؟

    خرجتْ الحروف مرتجفة على لساني :

    " أأأ ... نـ...ـعود أنا و أنتَ ؟ "

    وليد قال :

    " نعم "

    عدتُ أسأل لأتأكد:

    " و ... أروى و أمها... ستظلان في... المزرعة ؟؟ "

    وليد قال :

    " نعم ! إلى أن تهدأ الأوضاع قليلا "

    أتسمعون ؟؟

    أنا و وليد وحدنا ... و لا شقراء بيننا !

    مدهش ! يا لسعادتي ! تخلـّـصت ُ منها أخيرا

    أكاد أطير من الفرح ! بل إنني طرتُ فعلا ! هل ترون ذلك ؟؟

    تعبيرات وجهي بالتأكيد كانت صارخة... و لو لم أمسك نفسي آنذاك لربما انفجرتُ ضحكا... لكن وليد مع ذلك سألني و بشكل متردد:

    " ما رأيك ؟ "

    آه يا وليد أ وَ تسأل عن رأيي ؟

    ألا تدرك أنه حلم حياتي يتحقق أخيرا ؟؟

    وداعا أيتها الشقراء !

    و لئلا أفضح فرحي بهذا الشكل طأطأتُ رأسي و خبأتُ نظري تحت حذاء وليد !

    و قلتُ مفتعلة التماسك:

    " لا أعرف... كما ترى أنتَ "

    وليد عاد يسأل و بشكل أكثر جدية و بعض القلق امتزج بصوته:

    " هل تقبلين بهذا كحل مؤقت طارئ... حتى نجد الحل الأنسب ؟ "

    قلتُ و أنا لا أزال أدعي التماسك و عدم الانفعال:

    " لا بأس "

    تحركتْ قدم وليد قليلا باتجاه الجسر... رفعتُ عيني عنها إليه فوجدته وقد عاد يغوص بأنظاره في أعماق البحر... و سمعته يقول:

    " سنمر بسامر و أطلب منه العودة معنا... "

    تعجبتُ و سألتُ :

    " سامر ؟! "

    أجاب :

    " نعم. طلبتُ منه مرارا أن يأتي للعيش و العمل معنا هنا و قد تكون هذه فرصة جيدة لإقناعه "

    سامر من جديد ؟

    لا أتخيل أن أعود للعيش معه تحت سقف بيت واحد ثانية ! لا أعرف بأي طريقة سنتعامل... يكفي الحرج الذي عانيناه عندما اضطررتُ للمبيت في شقته أنا و وليد بعد الحادث ...

    أتذكرون ؟؟

    و رغم أني لم أحبذ الفكرة لم أشأ التعليق عليها... و على كل ٍ لا أظن سامر سيرحب بها هو بدوره...

    وليد تابع :

    " أما الخادمة فسنجعلها تعمل ليلا أيضا و تباتُ في المنزل و نضاعف لها الراتب "

    علقتُ :

    " يبدو أنك خططتَ لكل شيء!"

    استدار وليد إليّ و قال :

    " لم أنم الليلة الماضية من شدة التفكير! هذه الحلول المؤقتة حاليا... يمكننا تدبر بعض الأمور الأخرى بشكل أو بآخر... "

    قلت ُ :

    " و ماذا عن الطعام ؟ "

    فأروى و والدتها كانتا تتوليان أمر المطبخ و تعدان الوجبات الرئيسية... و الأطباق الأخرى و التي كان وليد لا يستغني عنها و يمتدحها دائما!

    وليد رد :

    " لدينا المطاعم "

    ابتسمت ُ و قلتُ مداعبة:

    " يمكنك الاعتماد عليّ ! البطاطا المقلية يوميا كحل طارئ مؤقت ! "

    ابتسم وليد فأتممت ُ :

    " لكن لا تقلق! سأشتري كتاب الطهي و أتعلم ابتداء من الغد ! سترى أنني ذكية جدا و أتطور بسرعة "

    ضحك وليد ضحكة خفيفة كنتُ أريد أن أختم نزهتي الرائعة بها...

    و مع خبر مذهل كخبر سفر الشقراء أخيرا ... أصبحتْ معنوياتي عالية جدا و دب النشاط و الحيوية في جسدي و ذهني و ألححتُ على نقل الصور من هاتف وليد إلى جهاز الحاسوب في مكتبه و تنسيقها في تلك الليلة... قبل أن يكتشف صورته من بينها... و رغم أن الليل كان قد انتصف و لم يبقَ أمامي غير ساعات بسيطة للنوم إلى موعد الكلية إلا أنني أنجزتُ الأمر و بدأتُ برسم أولي لوجه وليد بقلم الرصاص على بعض الأوراق...

    الساعة تجاوزت الثانية عشر و النصف، و أخيرا انتهيتُ !

    كنتُ على وشك النهوض عندما رن هاتف وليد و الذي كان معي، موضوعا على المكتب.

    و لكن هل يتصل أصحابه به في ساعة متأخرة ؟؟ أتراه لا يزال مستيقظا؟ اعتقد أن الجميع قد خلدوا للنوم !

    حملتُ الهاتف و أوراقي و شرعتُ بالمغادرة بسرعة، حينها توقف رنين الهاتف...

    واصلتُ طريقي نحو السلّم و في نيّتي المرور بغرفة وليد و إعادة الهاتف إليه إن كان مستيقظا قبل لجوئي إلى فراشي...

    و فيما أنا أصعد السلّم عاد الهاتف للرنين

    حثثتُ الخطى صعودا لأوصله إلى وليد...

    في منتصف الطريق رأيت ُ جسما يقف على الدرجات ينظر نحوي !

    كانت أروى !

    توقفتُ ثوانٍ و ألقيتُ عليها نظرة لا مبالية و صعدتُ خطوة جديدة...

    و هنا سمعتها تخاطبني :

    " أليس هذا هاتف وليد ؟ "

    نظرتُ إليها و أجبتُ :

    " بلى "

    سألتْ :

    " و لم هو عندك ؟ "

    رمقتها بنظرة تجاهلية و قلتُ:

    " سأعيده إليه "

    و صعدتُ خطوة بعد...

    كانتْ أروى تقف مباشرة في طريق خطواتي... تنحيتُ للجانب قليلا لأواصل طريقي إلا أنها تنحتْ لتعترضني !

    نظرتُ إليها و رأيتها تمد يدها إليّ قائلة :

    " هاته... أنا سأعيده "

    توقف الهاتف عن الرنين، يبدو أن المتصل قد يئس من الرد...

    أضافت أروى :

    " وليد نائم على أية حال... لكنه يستخدمه كمنبّه لصلاة الفجر... سأضعه قرب وسادته "

    شعرتُ بالغيظ! يكفي أن ألقي نظرة على هذه الفراشة الملونة حتى أفقد أعصابي!

    قلتُ :

    " سأفعل أنا ذلك، بما أن غرفته في طريقي "

    فجأة تحوّل لون الفراشة إلى الأحمر الدموي! أروى بيضاء جدا و حين تنفعل يتوهج وجهها احمرارا شديدا !

    قالتْ بنبرة غاضبة :

    " عفوا؟؟ تقصدين أن تتسللي إلى غرفة زوجي و هو نائم؟؟ من تظنين نفسك؟ "

    فوجئتُ من هذا السؤال الذي لم أكن لأتوقع صدوره من أروى ! و المفاجأة ألجمتْ لساني...

    أروى قالتْ بانفعال :

    " وليد هو زوجي أنا ... يجب أن تدركي ذلك و تلزمي حدودكِ "

    صعقتُ... عمّ تتحدّث هذه الدخيلة ؟؟ قلتُ بصوت متردد :

    " مـ ... ماذا تعنين ؟؟ "

    هتفتْ أروى باندفاع :

    " تعرفين ما أعني... أم تظنين أننا بهذا الغباء حتى لا ندرك معنى تصرفاتك ؟؟ "

    ذهلتُ أكثر و كررتُ :

    " ما الذي تقصدينه ؟؟ "

    و كأن أروى قنبلة موقوتة انفجرتْ هذه اللحظة !

    رمتْ بهذه الكلمات القوية دون تردد و دون حساب !

    " لا تدعي البراءة يا رغد ! ما أبرعكِ من ممثلة ! أنتِ ماكرة جدا... و تستغلين تعاطف وليد و شعوره بالمسؤولية تجاهكِ حتى تفعلين ما يحلو لك! دون خجل و لا حدود... لكن... كل شيء أصبح مكشوفا يا رغد... أنا أعرف ما الذي تخططين له... تخططين لسرقة زوجي منّي ! أليس كذلك ؟؟ تستميلين عواطفه بطرقك ِ الدنيئة! أنت ِ خبيثة يا رغد... و سأكشف نواياك ِ السيئة لوليد ليعرف حقيقة من تكونين ! "

    الجزء الواحد والأربعون

    كأن أروى قنبلة موقوتة انفجرتْ هذه اللحظة ! رمتْ بهذه الكلمات القوية دون تردد و دون حساب !

    " لا تدعي البراءة يا رغد ! ما أبرعكِ من ممثلة ! أنتِ ماكرة جدا... و تستغلين تعاطف وليد و شعوره بالمسؤولية تجاهكِ حتى تفعلين ما يحلو لكِ ! دون خجل و لا حدود... لكن... كل شيء أصبح مكشوفا يا رغد... أنا أعرف ما الذي تخططين له... تخططين لسرقة زوجي منّي ! أليس كذلك ؟؟ تستميلين عواطفه بطرقك ِ الدنيئة! أنت ِ خبيثة يا رغد... و سأكشف نواياك ِ السيئة لوليد ليعرف حقيقة من تكونين ! "

    ذهلتُ ... وقفتُ كالورقة تعصف بي كلمات أروى... لا تكاد أذناي تصدقان ما تسمعان...
    كنتُ أنظر إلى أروى بأوسع عينين من شدّة الذهول... عبستْ أروى بوجهها و ضغطتْ على أسنانها و هي تقول :

    " كنتِ تمثلين دور المتعبة هذا الصباح... و مثلتِ دور المريضة ليلة حفلتنا أنا و وليد... و دور المرعوبة ليلة سهرنا أنا و وليد... هنا و في المزرعة و في بيت خالتكِ و في أي مكان... تمثلين أدوار المسكينة لتجعلي عقل وليد يطير جنونا خوفا عليك ِ ! تدركين أنه لا يستطيع إلا تنفيذ رغباتك شعورا منه بالمسؤولية العظمى تجاهكِ! ما أشد دهائكِ و خبثك ِ... لكنني سأخبر وليد عن كل هذا... وإن اضطررتُ لفعل ذلك الآن ! "

    كنتُ أمسك بهاتف وليد في يدي اليمنى و بالأوراق في يدي اليسرى... و للذهول الذي أصابني من كلام أروى رفعتُ يدي اليمنى تلقائيا ووضعتها على صدري...
    فجأة تحركتْ يد أروى نحوي... و همّتْ بانتزاع الهاتف و هي تقول:

    " هاتي هذا "

    و كردة فعل تشبثتُ بالهاتف أكثر... فسحبته هي بقوة أكبر... ثم انزلق من بين أيدينا و وقع على عتبات الدرج...
    استدرتْ منثنية بقصد التقاطه بسرعة فتحرتْ أروى لمنعي فجأة و اصطدمتْ بي...
    حركتها هذه أفقدتني التوازن ... فالتوتْ قدمي و فتحتُ يدي اليسرى بسرعة موقعة بالأوراق أرضا... و مددتها نحو ذراع أروى وتشبثتُ بها طالبة الدعم... الأمر الذي أفقد أروى توازنها هي الأخرى... وفجأة انهرنا نحن الاثنتان متدحرجتين على الدرَج ... و لأنني كنتُ في الأسفل... فقد وقع جسدها عليّ و انتهى الأمر بصرخة مدوية انطلقتْ من أعماق صدري من فرط الألم...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~



















    لأنني نمتُ معظم النهار، لم يستجب النعاس لندائي تلك الليلة و بقيتُ أتقلّب في فراشي لبعض الوقت...
    كنتُ استعيد ذكريات النزهة الجميلة التي قضيناها أنا و صغيرتي هذه الليلة و التي أنعشتْ الذكريات الماضية الرائعة في مخيلتي... خصوصا و أن صغيرتي بدتْ مسرورة و مبتهجة بشكل أراحني و وئد خوفي عليها المولود هذا الصباح...
    كل شيء كما في السابق... إنها نفس الفتاة التي كنتُ أصطحبها في النزهات باستمرار... في أرجاء المدينة... و أقضي بصحبتها أمتع الأوقات و أطيبها على نفسي !
    غير أنها كبرتْ و لم يعد باستطاعتي أن أحملها على كتفيّ كما في الماضي !
    كانتْ مهووسة بامتطاء كتفيّ و هي صغيرة و لم تتخلى عن هوسها حتى آخر عهدي بها قبل دخولي السجن...
    يا ترى... هل تتذكر الآن؟؟
    يا ترى كيف تشعر حين تكون معي و هل أعني لها ما عنيتُ في الماضي؟؟
    لا أعرف لِمَ كان طيف رغد يسيطر عليّ هذه الليلة... بالتأكيد... خروجي معها في هذه النزهة هو ما هيّج المكنون من مشاعري القديمة... الأزلية...
    جلستُ و توجهتُ إلى محفظتي... و منها استخرجتُ قصاصات الصورة الممزقة لرغد... و عدتُ أركّب أجزاءها كما كانت...

    أقسم... بأنني أستطيع تجميعها بالضبط كما كانت و أنا مغمض العينين !

    أخذتُ القصاصات إلى سريري و جلستُ و أغمضتُ عينيّ... لأثبت لكم صدق قسمي...
    أتحسسها قصاصة ً قصاصة ً... حافة ً حافة ً ... طرفا ً طرفا ً ..
    ها أنا ذا انتهيتُ !
    فتحتُ عينيّ و نظرتُ إلى الصورة المكتملة و شعرتُ بالسرور! إنها رغد ... و دفتر تلوينها... و أقلام التلوين الجميلة !
    يا لي من مجنون !
    ما الذي أفعله في مثل هذا الوقت المتأخر بعد منتصف الليل !

    وضعتُ القصاصات تحت الوسادة و أرخيتُ جفوني... سأنام على صورتكِ يا رغد !
    فجأة... صحوتُ على صوتُ جلبة... أشبه بارتطام شيء ما بالأرض... مصحوبة بصراخ قوي !
    نهضتُ بسرعة و سمعتُ صوت صرخات متتالية و متداخلة مع بعضها البعض في آن واحد... أسرعتُ للخروج من غرفتي و هرولتُ ناحية مصدر الصراخ...
    إنه السلّم...
    وصلتُ أعلى عتباته و ألقيتُ نظرة سريعة نحو الأسفل و ذهلتُ !
    قفزتُ العتبات قفزا حتى وصلتُ إلى منتصف الدرَج... حيث وجدتُ رغد و أروى جاثيتين على العتبات إحداهما تئن بفزع... و الأخرى تتلوى ألما و تطلق الصرخات...
    و مجموعة من الأوراق مبعثرة على العتبات من حولهما...

    " ماذا حدث ؟؟ "

    سألتُ مفزوعا... و لم تجب أيهما بأكثر من الأنين و الصراخ...

    " رغد...أروى ...ماذا حدث ؟؟ "

    ردّتْ أروى و هي تضغط على كوعها بألم :

    " وقعنا من أعلى السلم "

    لم يكن لدي مجال لأندهش... فقد كانتْ رغد تصرخ بألم و تنقل يدها اليسرى بين يمناها و رجلها اليسرى...

    قلتُ بسرعة :

    " أأنتما بخير ؟؟ "

    أروى وقفتْ ببطء و استندتْ إلى الجدار... و أما رغد فقد بقيتْ على وضعها تئن و تصرخ

    " رغد هل أنت ِ بخير ؟؟ "

    عصرتْ رغد وجهها من الألم فسالتْ الدموع متدفقة على وجنتيها المتوهجتين...

    قلتُ :

    " رغد ؟؟ "

    فأجابتْ باكية متألمة صارخة:

    " يدي... قدمي... آه... تؤلماني... لا أحتمل... ربما كسرتا "

    أصبتُ بالهلع... أقبلتُ نحوها حتى جلستُ قربها تماما... و سألتُ :

    " هذه ؟ "

    مادا يدي إلى يدها اليمنى و لكني ما أن قرّبتُ يدي حتى صرختْ رغد بقوة و أبعدتْ يدها عنّي...

    " رغد "

    هتفتُ بهلع، فردتْ :

    " تؤلمني بشدة... آي... لا تلمسها "

    فوجهتُ يدي إلى يدها اليسرى :

    " و هذه؟ أتؤلمك؟ "

    " كلا "

    فأمسكتُ بها و أنا أقول:

    " إذن... دعيني أساعدكِ على النهوض"

    رغد حركتْ رأسها اعتراضا و قالتْ:

    " لا أستطيع... قدمي ملتوية... تؤلمني كثيرا... لا أستطيع تحريكها "

    و نظرتْ نحو قدمها ثم سحبتْ يدها اليسرى من يدي و أمسكتْ برجلها اليسرى بألم
    و كانتْ قدمها ملوية إلى الداخل، يخفي جوربها أي أثر لأي كدمة أو خدش أو كسر...

    قلتُ :

    " سأحاول لفها قليلا "

    و عندما حركتها بعض الشيء... أطلقتْ رغد صرخة قوية ثقبتْ أذني و أوقفتْ نبضات قلبي...
    يبدو أن الأمر أخطر مما تصورتُ ... ربما تكون قد أصيبتْ بكسر فعلا...
    تلفتُ يمنة و يسرة في تشتت من فكري... كانت أروى متسمّرة في مكانها في فزع... بدأ العرق يتصبب من جسمي و الهواء ينفذ من رئتيّ... ماذا حلّ بصغيرتي ؟؟
    التفت ُ إلى رغد بتوتر و قلتُ:

    " سأرفعكِ "

    و مددتُ ذراعي بحذر و انتشلتُ الصغيرة من على العتبة و هي تصرخ متألمة... و هبطتُ بها إلى الأسفل بسرعة... و أثناء ذلك ارتطمتْ قدمي بشيء اكتشفتُ أنه كان هاتفي المحمول ملقى ً أيضا على درجات السلم...
    حملتُ رغد إلى غرفة المعيشة و وضعتها على الكنبة الكبرى... و هي على نفس الوضع تعجز عن مد رجلها أو ثنيها... أما يدها اليمنى فقد كانتْ تبقيها بعيدا خشية أن تصطدم بي...

    " رغد... "

    ناديتها باضطراب... لكنها كانتْ تكتم أنفاسها بقوة حتى احتقن وجهها وانتفختْ الأوردة في جبينها... و برزتْ آثار اللطمات التي أمطرتها بها صباحا أكثر... حتى شككتُ بأنها آثار جديدة سببها الدرج من شدّة توهجها...
    بعدها انفجر نفَس رغد بصيحة قوية قطّعت حبالها الصوتية...

    قلتُ مفزوعا :

    " يا إلهي... يجب أن آخذك إلى الطبيب "

    وقفتُ ثم جثوتُ على الأرض ثم وقفتُ مجددا... خطوتُ خطوة نحو اليمين و أخرى نحو اليسار... تشتتُ و من هول خوفي على رغد لم أعرف ماذا أفعل... أخيرا ركزتْ فكرة في رأسي و ركضتُ في اتجاه غرفتي، أريد جلب مفاتيح السيارة...

    عند أول عتبات السلّم كانتْ أروى تقف متسمرة تنم تعبيرات وجهها عن الذعر...!
    وقفتُ برهة و أنا طائر العقل و قلتُ باندفاع :

    " ماذا حدث ؟ كيف وقعتما؟ ربما انكسرتْ عظامها ... سآخذها إلى المستشفى "

    لم أدع لها المجال للرد بل قفزتُ عتبات الدرج قفزا ذهابا ثم عودة... و أنا أدوس عشوائيا على الأوراق المبعثرة عليها دون شعور... ثم رأيتُ أروى لا تزال قابعة في مكانها... فهتفتُ:

    " تكلـّمي ؟؟ "

    و أنا أسرع نحو غرفة المعيشة... توقفتُ لحظة و استدرتُ إلى أروى و قلتُ:

    " و أنتِ بخير ؟ "

    أومأتْ أروى إيجابا فتابعتُ طريقي إلى رغد... و لم أشعر بأروى و هي تتبعني...
    وجدتُ رغد و قد كوّمت جزء ً من وشاحها لتعضّه بين أسنانها... حين رأتني خاطبتني و الوشاح لا يزال في فمها:

    " وليد... سأموت من الألم...آي "

    ركعتُ قربها و مددتُ ذراعيّ أريد حملها و أنا أقول:

    " هيا إلى الطبيب... تحمّلي قليلا أرجوك "

    و عندما أوشكتُ على لمس رجلها دفعتْ يدي بعيدا بيدها و صاحتْ:

    " لا... أقول لك تؤلمني... لا تلمسها "
    لا... أقول لك تؤلمني... لا تلمسها "

    قلتُ :

    " يجب أن أحملك ِ إلى المستشفى رغد... أرجوك ِ تحملي قليلا... أرجوكِ صغيرتي "

    جمعت ْ رغد القماش في فمها مجددا و عضّت عليه و أغمضتْ عينيها بقوة...
    حملتها بلطف قدر الإمكان متجنبا لمس طرفيها المصابين... و استدرتُ نحو الباب... هناك كانت أروى تقف في هلع تراقبنا...

    قلتُ :

    " هيا... اسبقيني و افتحي لي الأبواب بسرعة "

    و هكذا إلى أن أجلستُ الصغيرة على مقعد السيارة الخلفي، ثم فتحتُ بوابة المرآب و انطلقتُ بسرعة...
    لحسن الحظ كانت رغد لا تزال ترتدي عباءتها و وشاحها الأسودين، لم تخلعهما منذ خرجنا إلى النزهة أول الليل...
    عندما وصلنا إلى المستشفى، استقبلنا فريق الإسعاف بهمة و حملنا رغد على السرير المتحرك إلى غرفة الفحص... كانت لا تزال تصرخ من الألم...

    سألني أحد الأفراد :

    " حادث سيارة ؟ "

    قلتُ :

    " لا ! وقعتْ من أعلى السلّم... ربما أصيبت ْ بكسر ما... أرجوكم أعطوها مسكنا بسرعة "

    أراد الطبيب أن يكشف عن موضع الإصابة... تحمّلتْ رغد فحص يدها قليلا و لكنها صرختْ بقوة بمجرّد أن وجه الطبيب يده إلى رجلها اليسرى... و يبدو أن الألم كان أشد في الرجل... شجعتها الممرضة و حين همّتْ بإزاحة الغطاء عن رجلها استدرتُ و وقفتُ خلف الستارة...
    عادتْ رغد تصرخ بقوة لم أحتملها فهتفتُ مخاطبا الطبيب:

    " أرجوك أعطها مسكنا أولا... لا تلمس رجلها قبل ذلك... ألا ترى أنها تتلوى ألما؟؟"

    و صرختْ رغد مرة أخرى و هتفتْ:

    " وليد "

    لم احتمل... أزحتُ الستارة و عدتُ إلى الداخل و مددتُ يدي إلى رغد التي سرعان ما تشبثتْ بها بقوة...

    " معكِ يا صغيرتي... تحمّلي قليلا أرجوك "

    و استدرتُ إلى الطبيب :

    " أعطها مسكنا أرجوك... أرجوك في الحال "

    الممرضة كشفتْ عن ذراع رغد اليسرى بهدف غرس الإبرة الوريدية في أحد عروقها... و لمحتْ الندبة القديمة فيها فسألتني :

    " و ما هذا أيضا ؟ "

    قلتُ غير مكترث:

    " حرق قديم...لا علاقة له بالحادث "

    و بمجرد أن انتهتْ الممرضة من حقن رغد بالعقار المسكن للألم عبر الوريد، عادتْ رغد و مدتْ يدها إليّ و تشبثتْ بي...

    " لا تقلقي صغيرتي... سيزول الألم الآن "

    قلتُ مشجعا و أنا أرى الامتقاع الشديد على وجهها المتألم الباكي...
    و مضتْ بضع دقائق غير أن رغد لم تشعر بتحسن

    " ألم يختفِ الألم ؟ "

    سألتها فقالتْ و هي تتلوى و تهز رأسها:

    " تؤلمني يا وليد... تؤلمني كثيرا جدا "

    خاطبتُ الممرضة :

    " متى يبدأ مفعول هذا الدواء ؟ أليس لديكم دواءٌ أقوى ؟؟ "

    الطبيب أمر الممرضة بحقن رغد بدواء آخر فحقنته في قارورة المصل المغذي و جعلته يسري بسرعة إلى وريدها...

    قلتُ مخاطبا الطبيب :

    " هل هذا أجدى ؟ "

    قال :

    " فعال جدا "

    قلتُ :

    " إنه ألم فظيع يا دكتور... هل تظن أن عظامها انكسرتْ ؟ "

    أجاب :

    " يجب أن أفحصها و أجري تصويرا للعظام قبل أن أتأكد "

    بعد قليل... بدأتْ جفون رغد تنسدل على عينيها... و صمتتْ عن الصراخ... و ارتختْ قبضتها المتشبثة بي...

    نظرتُ إلى الطبيب بقلق فقال :

    " هذا من تأثير المخدّر... ستغفو قليلا "

    ثم باشر فحص رجل رغد و أعاد تفحص يدها اليمنى... و بقية أطرافها... و عندما انتهى من ذلك، أمر بتصوير عظام رجلَي رغد و يديها و حتى جمجمتها تصويرا شاملا...

    " طمئني أيها الطبيب رجاء ً ... هل اتضح شيء من الفحص ؟؟ "

    نظر إليّ الطبيب نظرة غريبة ثم سألني و هو يتكلم بصوتٍ منخفض:

    " قل لي... هل حقا وقعتْ على درجات السلم ؟ "

    استغربتُ سؤاله و بدا لي و كأنه يشك في شيء فأجبتُ :

    " نعم... هذا ما حصل"

    قال الطبيب :

    " كيف ؟ "

    قلتُ :

    " لا أعرف فأنا لم أشاهد الحادث... و لكن لماذا تسأل ؟ "

    قال :

    " فقط أردتُ التأكد... فوجهها مكدوم بشكل يوحي إلى أنها تعرضتْ للضرب! و ربما يكون الأمر ليس مجرد حادث "

    أثار كلام الطبيب جنوني و غضبي فرددتُ منفعلا :

    " و هل تظن أننا ضربناها ثم رميناها من أعلى الدرج مثلا ؟ "

    لم يعقّب الطبيب فقلتُ :

    " وجهها متورم نتيجة شيء آخر لا علاقة له بالحادث "

    تبادل الطبيب و الممرضة النظرات ذات المغزى ثم طلب منها اصطحاب رغد إلى قسم الأشعة.

    و لأنني كنتُ هلعا على رغد عاودتُ سؤاله :

    " أرجوك أخبرني... هل تبين شيء بالفحص لا قدّر الله ؟ "

    رد صريحا :

    " لا أخفي عليك... يبدو أن الإصابة في الكاحل بالغة لحد ما... أشك في حدوث تمزق في الأربطة "

    ماذا ؟؟ ماذا يقول هذا الرجل ؟؟ تمزّق ؟ كاحل ؟؟ رغد ... !!

    تابع الطبيب :

    " الظاهر أن قدمها قد التوتْ فجأة و بشدّة أثناء الوقوع... و لديها تورم و رض شديد في منطقة الساق... قد تكون ساقها تعرضت لضربة قوية بحافة العتبة... أما يدها اليمنى فأتوقع أنها كُسِرتْ "

    كسر؟؟ تمزق ؟؟ التواء؟؟ تورم؟؟ رض ؟؟ما كل هذا ؟؟ ماذا تقول ؟؟
    شعرتُ بعتمة مفاجئة في عيني ّ و بالشلل في أعصابي... يبدو أنني كنتُ سأنهار لولا أن الطبيب أسندني و أقعدني على كرسي مجاور... وضعتُ يدي على رأسي شاعرا بصداع مباغت و فظيع... كأن أحد الشرايين قد انفجر في رأسي من هول ما سمعتُ...
    الطبيب ثرثر ببعض جمل مواسية لم أسمع منها شيئا... بقيتُ على هذه الحال حتى أقبلتْ الممرضات يجررن سرير رغد و يحملن معهن صور الأشعة...
    الطبيب أخذ الأفلام و راح يتأملها على المصباح الخاص... و ذهبتُ أنا قرب رغد حتى توارينا خلف الستار...
    الصغيرة كانت نائمة و بقايا الدمع مبللة رموشها... تمزق قلبي عليها و أمسكتُ بيدها اليسرى و ضغطتُ بقوّة...
    كلا يا رغد !
    لا تقولي أن هذا ما حدث؟ أنتِ بخير أليس كذلك؟؟ ربما أنا أحلم... ربما هو كابوس صنعه خوفي المستمر عليك و جنوني بك !
    رباه...
    بعد ثوان ٍ تركتُ رغد و ذهبتُ إلى حيث كان الطبيب مع مجموعة أخرى من الأطباء يتفحصون الأشعة و يتناقشون بشأنها. وقفتُ إلى جانبهم و كأني واحدٌ منهم... أصغي بكل اهتمام لكل كلمة تتفوه بها ألسنتهم، و لا أفقه منها شيئا...
    أخيرا التفتََ الطبيب ذاته إليّ فقلتُ بسرعة:

    " خير؟؟ طمئني أرجوك ؟ "

    قال الطبيب و هو يحاول تهوين الأمر:

    " كما توقعتُ... يوجد كسر في أحد عظام اليد اليمنى... و شرخ في أحد عظام الرجل اليسرى و هناك انزلاق في مفصل الكاحل سببه تمزق الأربطة "
    و لما رأى الطبيب الهلع يكتسح وجهي أكثر من ذي قبل، أمسك بكتفي و قال:

    " بقية الأشعة لم توضح شيئا... الإصابة فقط في اليد اليمنى و الرجل اليسرى، أما الكدمات الأخرى فهي سطحية "

    ازدرتُ ريقي واستجمعتُ شظايا قوتي و قلتُ غير مصدّق:

    " أنتً... متأكّد ؟ "

    قال :

    " نعم. جميعنا متفقون على هذا "

    و هو يشير إلى الأطباء ممن معنا...

    قلتُ و صوتي بالكاد يخرج من حنجرتي واهنا :

    " و... هل ... سيشفى كل ذلك ؟ "

    قال :

    " نعم إن شاء الله. لكن... ستلزمها عملية جراحية... و بعدها ستظل مجبّرة لبعض الوقت "
    صُعِقتُ !! لا ! مستحيل !
    عملية ؟؟ جبيرة ؟؟ أو كلا ! كلا !
    كدتُ أهتف ( كلا ) بانفعال... لكنني رفعتُ يدي إلى فمي أكتم الصرخة... قهرا...
    الطبيب أحس بمعاناتي و حاول تشجيعي و تهوين الأمر... لكن أي كارثة حلّتْ على قلبي يمكن تهوينها بالكلمات ؟؟

    قلتُ بلا صوت:

    " تقول ... عملية ؟ "

    رد مؤكدا :

    " نعم. ضرورية لإنقاذ الكسور من العواقب غير الحميدة "

    أغمضتُ عيني و تأوهتُ من أثر الصدمة... و قلبي فاقد السيطرة على ضرباته... و لما لاحظ الطبيب حالتي سألني بتعاطف :

    " هل أنت شقيقها ؟ "

    فرددتُ و أنا غير واع ٍ لما أقول:

    " نعم.. "

    قال :

    " و أين والدها ؟ "

    قلتُ :

    " أنا "

    تعجب الطبيب و سأل :

    " عفوا ؟ "

    قلتُ :

    " لقد مات... كلُهم ماتوا... أنا أبوها الآن... يا صغيرتي "

    و أحشائي تتمزق مرارة... أنا لا أصدق أن هذا قد حصل... رغد صغيرتي الحبيبة... مهجة قلبي و الروح التي تحركني... تخضع لعملية؟؟
    وقفتُ و سرتُ نحو سرير رغد بترنح... يظن الناظر إليّ أنني أنا من تحطمتْ عظامه و انزلقتْ مفاصله و تمزّقتْ أربطته و ما عاد بقادر على دعم هيكله...
    اقتربتُ منها... أمسكتُ بيدها اليسرى... شددتُ عليها... اعتصرني الألم... و اشتعلتْ النار في معدتي...و أذابتْ أحشائي...
    الطبيب لحق بي و أقبل إليّ يشجعني بكلمات لو تكررتْ ألف مرة ما فلحتْ في لمّ ذرتين من قلبي المبعثر...

    قال أخيرا :

    " علينا إتمام بعض الإجراءات الورقية اللازمة قبل أخذها لغرفة العمليات "

    الكلمة فطرتْ قلبي لنصفين و دهستْ كل ٍ على حدة...
    التفتُ إليه أخيرا و قلتُ متشبثا بالوهم:

    " ألا يمكن علاجها بشكل آخر؟؟ أرجوك... إنها صغيرة و لا تتحمّل أي شيء... كيف تخضع لعملية؟؟ لا تتحمل... "

    و كان الطبيب صبورا و متفهما و عاد يواسيني...

    " لا تقلق لهذا الحد... عالجنا إصابات مشابهة و شفيتْ بإذن الله... "

    لكن مواساته لم تخمد من حمم القلق شرارة واحدة.
    هنا أقبلتْ الممرضة تخاطبه قائلة :

    " أبلغنا أخصائي التخدير و غرفة العمليات جاهزة يا دكتور "

    الطبيب نظر إليّ و قال :

    " توكلنا على الله ؟ "

    نقلتُ بصري بينه و بين الممرضة ثم إلى رغد ...

    قلتُ :

    " صبرا... دعني استوعب ذلك... أنا مصدوم... "

    و أسندتُ رأسي إلى يدي محاولا التركيز.... ظلّ الطبيب و الممرضة واقفين بالجوار قليلا ثم تركاني لبعض الوقت، كي استوعب الموقف و أفكر... ثم عادا من جديد...

    قال الطبيب:

    " ماذا الآن؟ التأخير ليس من صالحها "

    ازدردتُ ريقي و أنا ألهث من القلق... ثمّ نظرتُ إلى رغد و قلتُ :

    " يجب أن تعرف ذلك أولا... "

    كنتُ لا أزال ممسكا بيدها، اقتربتُ منها أكثر و همستُ :

    " رغد "

    كررتُ ذلك بصوت ميّت... ولم تستجب، فضربتُ يدها بلطف و أنا مستمر في النداء...
    فتحتْ رغد عينيها و جالتْ فيما حولها و استقرتْ عليّ... كانت شبه نائمة من تأثير المخدر...

    قلتُ بلهفة :

    " صغيرتي..."

    و شددتُ على يدها... استجابتْ بأن نطقتْ باسمي

    قلتُ :

    " كيف تشعرين ؟ كيف الألم ؟؟ "

    قالتْ و هي بالكاد تستوعب سؤالي :

    " أفضل... أشعر به ... لكن أخف بكثير "

    قلتُ :

    " الحمد لله... سلامتكِ يا صغيرتي ألف سلامة... "

    قالتْ :

    " سلّمك الله... آه... أشعر بنعاس ٍ شديد جدا وليد... دعنا نعود للمنزل "

    لم أتمالك نفسي حينها و تأوهتُ بألم... آه يا صغيرتي... آه... رغد أحسّتْ بشيء... بدأتْ تستفيق و تدرك ما حولها

    قالت:

    " ما الأمر ؟؟ "

    لم أتكلّم ... فنظرتْ نحو الطبيب و الممرضة و اللذين قالا بصوت واحد:

    " حمدا لله على السلامة "

    ثم تقدّم الطبيب نحوها و بلطف حرّك يدها المصابة و قد زاد تورمها و احمرارها فأنتْ رغد.

    قال :

    " ألا زالتْ تؤلمك ؟ "

    أجابتْ :

    " نعم. لكن أخف بكثير من ذي قبل "

    قال :

    " هذا من تأثير المسكن القوي و لكن الألم سيعود أقوى ما لم نعالجها عاجلا. انظري... لقد تفاقم التورم بسرعة "

    رغد نظرتْ إلى يدها ثم إليّ بتساؤل... و لم أعرف بم أجيب و لا كيف أجيب...

    " وليد ؟؟ "

    ترددتُ ثم قلتُ :

    " يبدو...أن الإصابة جدية يا رغد... يقول الطبيب أن لديك كسور و أنكِ بحاجة إلى جراحة "

    و لو رأيتم مقدار الذعر الذي اكتسح وجه رغد... آه لو رأيتم !!
    جفلتْ جفول الموتى... ثم سحبتْ يدها من بين أصابعي و وضعتها على صدرها هلعا... و كتمتْ أنفاسها قليلا ثم صاحتْ :

    " ماذا !!؟؟ "

    حاولتُ تهدئتها و أنا الأحوج لمن يهدئني... كانت ردة فعلها الأولى مزيجا من الذعر... و الفزع... و الخوف... و الارتجاف... و النحيب... و الرفض... والبكاء...
    و انفعالات يعجز قلب وليد عن تحمّلها و شرحها...
    و كانتْ مشوشة التركيز و التفكير بسبب الدواء المخدر و لا أدري إن كانتْ قد استوعبتْ بالفعل الخبر و ما إذا كانتْ تقصد بإرادة ردود فعلها تلك، أم أن الأمر كان وهما صنعه المخدر...؟؟

    بعد أن هدأتْ قليلا و أنا ما أزال قربها أكرر:

    " ستكونين بخير...لا تخافي صغيرتي... ستكونين بخير بإذن الله"

    قالتْ و هي ممسكة بيدي :

    " وليد أرجوك.. لا تتركني وحدي "

    قلتُ مؤكدا بسرعة :

    " أبدا صغيرتي... سأبقى معكِ طوال الوقت و لن أبتعد عن باب غرفة العمليات مترا واحدا... اطمئني"

    نظرتْ رغد إليّ بتوسل... فكررتُ كلامي مؤكدا... حينها قالتْ :

    " هل نحن في الحقيقة؟؟ هل يحصل هذا فعلا؟؟ هل أنا مصابة و في المستشفى؟؟ "

    قلتُ بأسى :

    " نعم لكن هوّني عليك يا رغد بالله عليك... قطّعتِ نياط قلبي...أرجوكِ يكفي... الحمد لله على كل حال ... بلاء من الله يا صغيرتي... لا تجزعي..."

    ابتلعتْ رغد آخر صيحاتها و حبستْ دموعها و بدأتْ تتنفس بعمق و استسلام...
    و بعد قليل نظرتْ إليّ و قالتْ :

    " أشعر بنعاس شديد... ماذا حصل لي؟؟ عندما أصحو لا أريد أن أذكر من هذا الكابوس شيئا... أرجوك وليد
    وأغمضتْ عينيها و غابتْ عن الوعي مباشرة...
    ناديتها بضع مرات فلم تجبْ... نظرتُ إلى الطبيب فأشار بإصبعه إلى المصل المغذي... ثم قال:

    " علينا الاستعجال الآن... "

    و بهذا ذهبتُ مفوضا أمري إلى الله و أتممتُ الإجراءات المطلوبة و من ثم تم نقل رغد إلى غرفة العمليات...
    بقيتُ واقفا على مقربة التهم الهواء في صدري التهاما...علّه يخمد الحريق المتأجج فيه...
    لم يكن معي هاتف و لم أشأ الابتعاد خطوة أخرى عن موقع رغد... وظللتُ في انتظار خروجها أذرع الممر ذهابا و جيئا و أنا أسير على الجمر المتقد... و لساني لا ينقطع عن التوسل إلى الله... إلى أن انتهتْ العملية بعد فترة و رأيتهم يخرجون السرير المتحرك إلى الممر...
    لم يكن الطبيب موجودا فلحقتُ بسرعة بالممرضات اللواتي كنّ يقدن السرير و ألقيتُ نظرة متفحصة على وجه رغد...
    كانت هناك قبعة زرقاء شبه شفافة تغطي شعرها و قارورتان من المصل الوريدي علّقتا على جانبيها تقطران السائل إلى جسمها...
    اقتربتُ منها و أنا أنادي باسمها ففتحتْ عينيها و لا أدري إن كانت رأتني أم لا... ثم أغمضتهما و نامتْ بسلام...
    سحبتُ الغطاء حتى غطيتُ رأسها كاملا... و سرتُ معها جنبا إلى جنب إلى أن أوصلتها الممرضات إلى إحدى الغرف... و هناك ساعدتُهن في رفعها إلى السرير الأبيض... و فيما نحن نحملها شاهدتُ الجبيرة تلف يدها و رجلها فكدتُ أصاب بالإغماء من مرارة المنظر...
    شعرتُ بتعب شديد... و كأنني حملتُ جبلا حديديا على ذراعي لعشر سنين... و تهالكتُ بسرعة على حافة السرير قرب رغد...
    و عندما همّتْ إحداهن بتغيير الغطاء أشرتُ إليها بألا تفعل... و طلبتُ منها أن تلف رأس رغد بوشاحها الأسود...

    " متى ستصحو ؟ "

    سألتُ بصوت ٍ متبعثر... فأجبنني :

    " عما قريب. لا تقلق. من الخير لها أن تبقى نائمة "

    سألتُ :

    " و أين الطيب ؟ "

    أجابتْ إحداهن :

    " سيجري عملية طارئة لمريض آخر الآن "

    بقيتْ إحدى الممرضات تفحص العلامات الحيوية لرغد و تدون ملاحظاتها لبضع دقائق ثم لحقتْ بزميلتيها خارج الغرفة...

    في هذه اللحظة، أنا و صغيرتي نجلس على السرير الأبيض... هي غائبة عن الوعي... و أنا غائب عن الروح... لا أحسّ بأي شيء مما حولي... إلا بصلابة الجبيرة التي أمد إليها بيدي أتحسسها غير مصدّق... لوجودها حول يد طفلتي الحبيبة....
    لا شيء تمنيته تلك الساعة أكثر من أن يوقظني أحدكم بسرعة و يخبرني بأنه كان مجرد كابوس...
    تلفتُ يمنة و يسرة... ربما بحثا عن أحدكم... و لم يكن من حولي أحد...
    لمحتُ هاتفا موضوعا على مقربة... و اشتغلتُ بعض خلايا دماغي المشلولة فأوحتْ إليّ بالاتصال بالمنزل...
    وقفتُ و تحركتُ و أنا أجوف من الروح... لا أعرف ما الذي يحركني؟ لا أشعر بأطرافي و لا أحس بثقلي على الأرض... و لا أدري أي ذاكرة تلك التي ذكرتني برقم هاتف منزلي!
    ظل الهاتف يرن فترة من الزمن... قبل أن أسمع أخيرا صوت أروى تجيب

    " وليد ! أخيرا اتصلت َ؟ أخبرني أين أنتما و كيف حالكما و ماذا عن رغد ؟؟ "

    عندما سمعتُ اسم رغد لم أتمالك نفسي...
    أجبتُ بانهيار و بصري مركز على رغد :

    " أجروا لها عملية... إنها ملفوفة بالجبائر... آه يا صغيرتي... منظرها يذيب الحجر... يا إلهي... "

    و أبعدتُ السماعة ... لم أشأ أن تسمع أروى ما زفره صدري...

    ثم قربتها و قلتُ :

    " سأتصل حينما تستفيق... نحن في مستشفى الساحل... ادعي الله لأجلها معي "

    و أنهيتُ المكالمة القصيرة و عدتُ إلى رغد...
    و لا زلتُ لله داعيا متضرعا حتى رأيتُ رغد تتحرك و تفتح عينيها ! تهلل وجهي و اقتربتُ منها أكثر و ناديتها بشغف :

    " رغد... صغيرتي... "

    و أضفتُ :

    " حمدا لله على سلامتك ِ أيتها الغالية... الحمد لله "

    رغد رفعتْ رأسها قليلا و نظرتْ نحو يدها و سألتْ :

    " هل... أجروا لي العملية ؟ "

    و قبل أن أجيب كانت قد حركتْ ذراعها الأيمن حتى صارتْ يدها أمام عينيها مباشرة... تحسستْ الجبيرة الصلبة باليد الأخرى... ثم نظرتْ إليّ ...
    ثم حاولتْ تحريك رجلها و علامات الفزع على وجهها... ثم سحبتْ اللحاف قليلا لتكشف عن قدمها المصابة و تحدق بها قليلا... و تعود لتنظر إليّ مجددا:

    " لا استطيع تحريك رجلي ! وليد... هل أصبتُ بالشلل ؟ أوه لا.... "

    إلى هنا و لا استطيع أن أتابع الوصف لكم... عما حلّ بالصغيرة آنذاك...
    لقد سبب وجودنا إرباكا شديدا في القسم... و خصوصا للممرضات اللواتي على رؤوسهن وقعتْ مهمة تهدئة هذه الفتاة الفزعة و رفع معنوياتها المحطمة...

    كان صراخها يعلو رغم ضعف بدنها... و كل صرخة و كل آهة و كل أنة... أطلقتها رغد... اخترقت قلبي قبل أن تصفع جدران الغرفة...

    بجنون ما مثله جنون... تشبثتْ بي و هي تصرخ:

    " أريد أمي "

    ربما لم تكن رغد تعي ما تقول بفعل المهدئات... أو ربما... الفزع أودى بعقلها... أو ربما يكون الشلل قد أصاب رجلها فعلا...!!
    عندما أتى الطبيب و أعطاها دواء ً مخدرا... بدأتْ تستسلم و هي تئن بين يديّ...
    الطبيب أكد مرارا و تكرارا أن شيئا لم يصب العصب و أن الأمر لا يتعدى تأثير البنج المؤقت... و أن ردة فعلها هذه شيء مألوف من بعض المرضى... لكن كلامه لم يمنحني ما يكفي من الطمأنينة...

    التفتُ إلى رغد التي كانتْ متمسكة بي بيدها اليسرى تطلب الدعم النفسي:

    " لا تخافي صغيرتي... ستكونين بخير... ألم تسمعي ما قال الطبيب ؟؟ إنها أزمة مؤقتة و ستستعيدين كامل صحتك و تعودين للحركة و للمشي طبيعيا كما في السابق..."

    رفعتْ رغد بصرها إليّ و قالتْ و هي تفقد جزء ً من وعيها:

    " هل ... سأصبح معاقة و عرجاء ؟ "

    هززتُ رأسي و قلتُ فورا:

    " كلا يا رغد... من قال ذلك ؟؟ لا تفكري هكذا أرجوك "

    قالتْ :

    " لكن كاحلي تمزّق... و عظامي انكسرت ! ربما لن أستعيدها ثانية! ماذا سيحل بي إن فقدتُهما للأبد؟ ألا يكفي ما فقدتُ يا وليد؟ ألا يكفي؟؟ "

    قلتُ منفعلا :

    " لا تقولي هذا... فداكِ كاحلي و عظامي و كل جسمي و روحي يا رغد ! ليتني أصِبتُ عوضا عنكِ يا صغيرتي الحبيبة "

    أمسكتُ برأسها.... كنتُ أوشك على أن أضمه إليّ بقوة... و جنون... نظرتُ إلى عينيها... فرأيتهما تدوران للأعلى و ينسدل جفناها العلويان ليغطياهما ببطء... بينما يظل فوها مفتوحا و آخر كلامها معلقا على طرف لسانها...
    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~



    الجزء الاثنان والاربعون





    و أنا على وشك الخروج للعمل صباحا تلقيتُ اتصالاً من رقم هاتفٍ غريب، و عرفتُ بعدها أنه صديقي وليد شاكر!
    أخبرني وليد بأنّ قريبته قد أُصيبتْ إصابة بالغة في رِجلها و يدها و أنّه تمّ إدخالها إلى المستشفى و إجراء عمليّة طارئة لها آخر الليل... و رجاني أن أصطحِب زوجته و والدتها إلى المستشفى...

    صديقي وليد كان منهاراً و هو يتحدّث إليّ عبر الهاتف وكان صوته حزيناً و أقرب إلى النحيب. و لأنني صديقه الأوّل فقد كان وليد يلجأ إليّ كلما ألمّتْ به ضائقة أو أصابته كربة... و كان يضعف قليلا لكنّه سرعان ما يستعيد قواه و يقف صامداً دون انحناء... أمّا هذه الأزمة فقد دهورتْ نفسيته بشكل سريع و شديد للغاية، ممّا أدى إلى انحدار صحّته و قدرته على العمل تباعا.
    يعاني وليد من قرحة مزمنة في المعدة و هي تنشط و تتفاقم مع الضغوط النفسية. و قد كان الأطباء ينصحونه بالاسترخاء و النقاهة كلما تهيّجتْ و بالإقلاع عن التدخين، و أظنّه أقلع عن السجائر و لكنّه أهمل علاج قرحته في هذه الفترة إلى أن تطوّر وضعها للأسوأ كما ستعرفون لاحقاً.

    وليد متعلّق بشدّة بابنة عمّه المصابة هذهِ و أخالهُ يخبل لو ألّم بها شيء!
    و قد كانت ابنة عمّه ترافقه كالظلّ عندما كنّا صغارا في سني المدارس و كان يحبّها جدا و كثيرا ما اصطحبها معه في زياراته لي و في تجوالنا سوياً... و قد افترق عنها سنوات حبسه في السجن... و رحلتْ مع عائلته بعيدا عن المدينة... ثمّ دارتْ الأيام لتعيد جمعه بها من جديد... و تجعله وصياً شرعيا عليها و مسؤولا أولا عن رعايتها...

    عندما وصلنا دخلت ْ السيدتان إلى غرفة المريضة و رأيتُ وليد يخرج إليّ بعد ذلك...

    و كما توقـّعت ُ بدا الرجل متعباً جداً... و كأنّه قضى الليلة الماضية في عملٍ بدني شاق... سألته عن أحواله و أحوال قريبته فردّ ببعض الجمل المبتورة و تمتم بعبارات الشكر

    " لا داعي لهذا يا عزيزي ! إننا أخوَان و صديقان منذ الطفولة ! "

    ابتسم وليد ابتسامة شاحبةً جداً ثم قال:

    " عليّ أن أسرع "

    قلتُ مقاطعا :

    " لا تبدو بحالةٍ جيدةٍ يا وليد ! دعني أقلّك بسيارتي... ذهاباً و عودةً "

    و أعاد الابتسام و لكن هذه المرة بامتنان...
    أوصلتُ وليد إلى منزله حيث قضى حوالي العشرين دقيقة رتّب خلالها أموره و شربنا سوية بعض الشاي على عجل...
    الرجل كان مشغول البال جداً و مخطوف الفكر... و قد حاولتُ مواساته و تشجيعه لكنه كان قد تعدّى مستوى المساواة بكثير، و بما أنني أعرفه فأنا لا استغرب حالته هذه... إنه مهووس بقريبته و قد باح لي برغبته في الزواج منها رغم أي ظروف !
    و قبل أن أركن السيارة في مواقف المستشفى الخاصة رأيته يفتح الباب و يكاد يقفز خارجاً

    " على مهلكَ يا رجل ! هوّن عليك ! "

    قال و هو يمسك بالباب المفتوح قليلا :

    " أخشى أن تستفيق ثم لا تجدني و تصاب بالفزع... إنها متعبة للغاية يا سيف و إن أصابها شيء بها فسأجن "

    ألم أقل لكم ؟؟

    رددتُ عليه بتهوّر :

    " أنت مجنون مسبقاً يا وليد "

    و انتبهتُ لجملتي الحمقاء بعد فوات الأوان. التفتَ وليد إليّ و قد تجلّى الانزعاج على وجهه ممزوجاً بالأسى...فاعتذرتُ منه مباشرةً :

    " آسِف يا وليد ! لم أقصد شيئاً "

    تنهّد وليد و لم يعلّق... ثم شكرني و غادر السيارة... هتفتُ و أنا ألوّح له من النافذة و هو يهرول مبتعداً :

    " اتصل بي و طمئني إن جدّ شيء "

    و توليتُ بنفسي إبلاغ السيّد أسامة المنذر- نائب المدير- أن وليد سيتغيب عن العمل و أوجزتُ له الأسباب.

    السيّد أسامة كان نائباً للمدير السابق عاطف - أبي عمّار - البحري رحمهما الله، و كان على علاقة وطيدة بآل بحري، و على معرفة جيّدة بنا أنا و والدي و فور اكتشافه بأن وليد هو ذاته قاتل عمّار، قدّم استقالته و رفض التعاون مع وليد و العمل تحت إدارته. و لكن... بتوصية منّي و من والدي، و بعد محاولات متكررة نجحنا في تحسين صورة وليد في نظره و أفلحنا في إقناعه بالعودة للعمل خصوصا و أن وجوده كان ضروريّا جدا بحكم خبرته الطويلة و أمانته. و مع الأيام توطّدتْ العلاقة بين وليد و السيّد أسامة الذي عرف حقيقة وليد و أخلاقه و استقامته. و صار يقدّره و يتعامل معه بكل الاحترام و المحبّة. أما بقيّة موظفي المصنع و الشركة، فكانتْ مواقفهم تجاه وليد متباينة و كنتُ في خشية على وليد من ألسنتهم. غير أن وليد تصرّفَ بشجاعةٍ و لم يعرْ كلامهم اهتماماً حقيقياً و أثبتَ للجميع قدرته على الصمود و تحمُّل مسؤولية العمل مهما كانتْ الأوضاع.


    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~














    لوّحتُ لسيف بيدي و أسرعتُ نحو غرفة رغد.
    وجدتُها لا تزال نائمةً... و إلى جوارها تجلسُ أروى و الخالة. سألتهما عما إذا كانت قد استيقظتْ فأجابتا بالنفي... اقتربتُ منها فإذا بأروى تمدّ يدها إليّ بهاتفي المحمول و تقول:

    " تفضّل.. جلبته معي لكَ "

    تناولتُ الهاتف و جلستُ على مقربة أتأمل وجه رغد... و ألقي نظرةً بين الفينة و الأخرى على شاشةِ جهاز النبض الموصول بأحد أصابعها...

    بعد قليل مرّتْ الممرّضة لتفقّد أحوال رغد و نزعتْ الجهاز عنها. خاطبتها :

    " كيف هي ؟ "

    أجابتْ :

    " مستقرة "

    قلتُ :

    " و لماذا لا تزال نائمة ؟ "

    قالتْ :

    " يمكنكم إيقاظها إن شئتم "

    و بعد أن غادرتْ بقينا صامتين لوهلة... ثم التفتُّ نحو أروى و سألتها:

    " كيف وقعتما ؟ "

    ظهر التردد على وجه أروى و اكتسى ببعض الحمرة... ما أثار قلقي... ثم تبادلتْ نظرة سريعة مع خالتي و نطقتْ أخيرا :

    " كنا... واقفتين على الدرجات... و... تشاجرنا... ثمّ..."

    قاطعتها و سألتُ باهتمام :

    " تشاجرتما ؟؟ "

    أومأتْ أروى إيجابا... و سمعتُ خالتي تُتمتم:

    " يهديكما الله "

    قلتُ بشغف :

    " في ذلك الوقت المتأخر من الليل؟؟ و على عتبات السلم؟؟ "

    و تابعتُ :

    " لأجل ماذا؟؟ و كيف وقعتما هكذا؟؟ "

    قالتْ أروى مباشرةً و باختصار:

    " كان حادثاً... عفوياً "

    انتظرتُ أن تفصّل أكثر غير أنها لاذتْ بالصمت و هربتْ بعينيها منّي...
    قلتُ مستدرّاً توضيحها:

    " و بعد؟ "

    فرمقتني بنظرة عاجلة و قالتْ :

    " مجرّد حادثٍ عفوي"

    انفعلتُ و أنا ألاحظ تهربّها من التفصيل فقلتُ بصوت ٍ قوي :

    " مجرد حادثٍ عفوي؟؟ اُنظري ما حلّ بالصغيرة... ألم تجدي وصفاً أفظع من (حادث عفوي)؟؟ "

    نطقتْ أروى في وجس :

    " وليد ! "

    فرددتُ بانفعال :

    " أريد التفاصيل يا أروى؟ ما الذي يجعلكِ تتشاجرين مع رغد في منتصف الليل و على عتبات السلم ؟؟ أخبريني دون مراوغة فأنا رأسي بالكاد يقف على عنقي الآن "

    هنا أحسسنا بحركةٍ صدرتْ عن رغد فتوجهتْ أنظارنا جميعا إليها...
    فتحتْ رغد عينيها فتشدّقتُ بهما بلهفة... و اقتربتُ منها أكثر و ناديتُ بلطف :

    " رغد ... صغيرتي ... "

    الفتاة نظرتْ إليّ أولا ثم راحتْ تجوبُ بأنظارها فيما حولها و حين وقعتْ على أروى و القابعة على مقربة فجأة... تغيّر لونها و احتقنتْ الدماء في وجهها وصاحتْ :

    " لا... أبْعِدْها عني... أبْعِدْها عنّي... "

    أروى قفزتْ واقفةً بذعر... و الخالة مدّتْ يديها إلى رغد تتلو البسملة و تذكر أسماء الله محاولة تهدئتها...

    أمسكتُ بيد رغد غير المصابة و أنا أكرر :

    " بسم الله عليك ِ ... بسم الله عليك ِ ... اهدئي رغد أرجوك ِ ... "

    رغد نظرتْ إليّ و صاحتْ بقوة:

    " أبْعِدْها عني... لا أريد أن أراها... أبعدها... أبعدها ... أبعدها "

    التفتُ إلى أروى و صرختُ:

    " ما الذي فعلتِه بالفتاة يا أروى؟؟ أُخرجي الآن "

    أم أروى قالتْ معترضةً :

    " وليد ! "

    فقلتُ غاضباً :

    " ألا ترين حال الصغيرة ؟؟ "

    و أتممتُ موجهاً الكلام إلى أروى :

    " أُخرُجي يا أروى... أنا ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ قليلا... ابقي في الخارج هيّا "

    و أروى سرعان ما أذعنتْ للأمر و هرولتْ إلى الخارج... حينها التفتُ إلى رغد و أنا أحاول تهدئتها :

    " ها قد ذهبتْ ... أرجوك اهدئي يا صغيرتي... بسم الله عليكِ و يحفظكِ ... "

    لكنها قالتْ و هي لا تتمالك نفسها:

    " لا أريد أن أراها... أبْعِدْها عني... أتتْ تشمتُ بي... إنها السبب... أنا لا أطيقها...قلتُ لك لا أريد أن أراها... لماذا سمحتَ لها بالمجيء؟؟ هل تريد قتلي؟ أنتَ تريد لي الموت... لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ ألا يكفي ما أنا فيه؟؟ لماذا قـُل لماذا... لماذا ؟؟ "

    جمّدني الذهول حتّى عن استيعاب ما أسمعه... لا أدري إن كان هذا ما قالته بالفعل أو إن كانت رغد هي التي تتكلّم الآن... أنا لن أؤكد لكم بسماعي شيء... إن أذنيّ فقدتا حاسة السمع و دماغي فقد القدرة على الفهم و ذاكرتي أُتْلفتْ من كميّة الفزع المهولة التي اجتاحتني منذ البارحة و لا تزال تدكّ عظامي دكا ً...

    ثوان ٍ و إذا بالممرضة تدخل الغرفة و تسأل:

    " ما الذي حدث ؟؟ "

    ترددتُ ببصري بين رغد الثائرة و الممرضة... ثم هتفتُ منفعلاً و موجهاً كلامي لها :

    " أين هو طبيبكم دعوهُ يرى ما الذي حدث للفتاة إنها ليستْ بخير... ليستْ بخير..."

    و بعدها جاء الطبيب - و هو غير الجراح الذي أجرى لرغد العملية - و لم تسمح له رغد بفحصها بل صرختْ :

    " أخرجوا جميعكم... لا أريدكم... ابتعدوا عني... أيها المتوحشون "

    جنّ جنون الفتاة... و تصرّفتْ بشكل أقرب للهستيريا... نعتتنا بالوحوش و الأوغاد... و حاولتْ النهوض عن السرير... و نزعتْ أنبوب المصل الوريدي من ذراعها فتدفقتْ الدماء الحمراء ملوّنة الألحفة البيضاء... و سال المصل مبللاً ما حوله... و عندما حاولتْ الممرضة السيطرة على النزيف زجرتها رغد بعنفٍ و رمتها بالوسادة التي كانتْ تنام عليها...

    " ابتعدوا عنّي... أيها الأوغاد... أخرجوا من هنا... لا أريد أحداً معي... أكرهكم جميعاً... أكرهكم جميعاً..."

    لدى رؤيتي الحالة المهولة لصغيرتي أصابني انهيار لا يضاهيه انهيار... و تفاقمتْ شكوكي بأنها جنّتْ... لا قدّر الله... و بنبرةٍ عنيفةٍ طلبتُ من... لا بل أمرتُ كلاً من الخالة و الطبيب و الممرضة بالمغادرة فوراً... علّي أفلح في تهدئة صغيرتي بمفردي... لقد كنتُ مذهول العقل عليها و أريد أن أطمئن إلى أنها بالفعل لم تُجن !

    أذعنوا لأمري و طيور القلق محلّقة فوق رؤوسهم... و بعد أن خرجوا التفتُ إلى صغيرتي و التي كانت لا تزال تردد بانفعال:

    " اخرجوا جميعكم ابتعدوا عنّي... "

    قلتُ و أنا أسير عكس اتجاه أمرها و أراقب ثورتها و بالكاد تحملني مفاصلي من فزعي على حالها:

    " لقد خرجوا يا رغد... إنه أنا وليد... "

    و ازدردتُ ريقي :

    " هل تريدينني أن أخرج أنا أيضا ؟ "

    هذا أنا وليد... هل ترينني؟ هل تميزينني...؟ هل تعين ما تفعلين يا رغد؟ بالله عليك لا تجننيني معك...

    رغد نظرتْ إليّ و هي لا تزال على انفعالها و قالتْ :

    " أنتَ أحضرتها إليّ... تريدان قتلي غيظاً... أنتما تكرهانني... كلكم تكرهونني... كلكم متوحشون... كلّكم أوغاد... "

    طار طائر عقلي... انفصمتْ مفاصلي... هويتُ على السرير قربها... مددتُ يديّ بضعف شديد إلى كتفيها و نطقتُ :

    " رغد... ما الذي تهذين به؟؟ ماذا أصاب عقلك أنبئيني بربّك؟؟ آه يا إلهي هل ارتطم رأسكِ بالسلّم ؟؟ هذا أنا وليد... وليد يا رغد... وليد... هل تعين ما تقولين؟؟ ردي عليّ قبل أن أفقد عقلي ؟ "

    و إذا بي أشعر بحرارة في جفوني... و بشيء ما يتحرّك على عينيّ...

    رغد حملقتْ بي برهة و قد توقـّفتْ عن الصراخ... ثمّ أخذتْ تئِنّ أنين المرضى أو المحتضرين... و هي تنظر إليّ... و أنا أكاد أفقد وعيي من شدّة الذهول و الهلع...
    اقتربتُ منها أكثر... أسحب ثقل جسدي سحباً... حتّى صرتُ أمامها مباشرة. حركتُ يديّ من على كتفيها و شددتُ على يدها السليمة إن لأدعمها أو لأستمد بعض الدعم منها... لكنها سحبتْ يدها من قبضتي... ثم رفعتها نحو صدري و راحتْ تضربني... بكلتا يديها
    ضرباتها كانتْ ضعيفة قويّة... مواسية و طاعنة... غاضبة و خائفة... في آن واحد... و فوق فظاعة من أنا فيه رمتني في زوبعة الذكريات الماضية... الماضي الجميل... حيث كانتْ قبضة صغيرتي تصفع صدري عندما يشتدّ بها الغضب منّي...

    استفقتُ من الشلل الذي ألمّ بحواسي و إدراكي على صوتها تقول بانهيار:

    " لماذا أحضرتها إلى هنا ؟ تودّون السخرية منّي؟؟ أنتم وحوش... أكرهكم جميعاً "

    صحتُ منكسرا:

    " لا ! كلا... أنتِ لا تعنين ما تقولين يا رغد ! أنتِ تهذين... أنتِ غير واعية... لا ترين من أمامكِ... أنا وليد... انظري إليّ جيدا... أرجوك يا رغد... سيزول عقلي بسببكِ... آه يا رب... إلا هذا يا رب... أرجوك... أرجوك يا رب... إلا صغيرتي... لا احتمل هذا... لا احتمل هذا... "

    أمسكتُ بيديها محاولاً إعاقتها عن الاستمرار في ضربي و لكن بلطفٍ خشية أن أوجعها...

    " توقـّفي يا رغد أرجوكِ ستؤذين يدكِ... أرجوكِ كفى... أنتِ لا تدركين ما تفعلين..."

    لكنها استمرّتْ تحركهما بعشوائية يمينا و يسارا و هما قيد قبضتَيّ ، ثم نظرتْ إلى الجبيرة و امتقع وجهها و صاحتْ بألم:

    " آه يدي..."

    تمزّقتُ لتألمها... أطلقتُ صراح يديها ثم حرّكتُهما بحذرٍ و لطفٍ دون أن تقاومني، و أرخيتهما على السرير إلى جانبيها و سحبتُ اللحاف و غطيتهما... و قلتُ :

    " سلامتكِ يا رغد... أرجوكِ ابقي هادئة... لا تحرّكيها... أرجوكِ... عودي للنوم صغيرتي... أنتِ بحاجة للراحة... نامي قليلا بعد "

    فأخذتْ تنظر إليّ و في عينيها خوفٌ و اتهامٌ... و عتابٌ قاسٍ... و أنظر إليها و في عينيّ رجاءٌ و توسّلٌ و هلعٌ كبير... كانت أعيننا قريبةً من بعضها ما جعل النظرات تصطدم ببعضها بشدّة...

    قلتُ و أنا أرى كلّ المعاني في عينيها... و أشعر بها تحدّق بي بقوّة :

    " أرجوكِ صغيرتي اهدئي... لن يحدث شيءٌ لا تريدينه... لن أدعها تأتي ثانيةً لكن سألتكِ بالله أن تسترخي و تهدّئي من روعكِ... أرجوكِ... "

    رغد بعد هذه الحصّة الطويلة من النظرات القوية... هدأتْ و سكنتْ و أغمضتْ عينيها و أخذتْ تتنفس بعمق... مرّتْ لحظة صامتة ما كان أطولها و أقصرها... بعدها سمعتُ رغد تقول للغرابة:

    " هل سأستطيع رسم اللوحة ؟ "

    نظرتُ إلى وجهها بتشتتٍ... و هو مغمض العينين و كأحجية غامضة و مقفلة الحلول...

    أي لوحة بعد ؟؟

    قلتُ :

    " أي لوحة ؟ "

    رغد حرّكتْ يدها المجبّرة ثم قالتْ:

    " لكنني رسمتها في قلبي... حيث أعيد رسمها كل يوم... و حتى لو لم أستطع المشي... احملني على كتفيك... أريد أن أطير إلى أمي"

    ثم اكفهرّ وجهها و قالتْ :

    " آه... أمّي..."

    و صمتتْ فجأة...

    " آه... أمّي..."

    و صمتتْ فجأة...
    بعد كل ذلك الجنون... و الهذيان... صمتتْ الصغيرة فجأة و لم تعد تتحرّك... حملقتُ في وجهها فرأيتُ قطرة يتيمة من الدموع الحزينة... تسيل راحلة على جانب وجهها ثم تسقط على الوسادة ... فتشربها بشراهة... و تختفي...
    ناديتُها و لم ترد... ربّتُ عليها بلطفٍ فلم تُحس... هززتها بخفة ثم ببعض القوة فلم تستجب... خشيتُ أن يكون شيئا قد أصابها فجأة... فقد كانتْ قبل ثوانٍ تصرخ ثائرة و الآن لا تتحرّك... و لا تستجيب... ناديتُ بصوتٍ عالٍ:

    " أيها الطبيب... أيتها الممرّضة..."

    و كان الاثنان يقفان خلف الباب و سرعان ما دخلا و أقبلا نحونا

    قلتُ هلِعاً :

    " أنظرا ماذا حدث لها... إنها لا تردّ عليّ... "

    الطبيب و الممرّضة اقتربا لفحصها فابتعدتُ لأفسح لهما المجال... أوصل الطبيب جهاز قياس النبض بإصبع رغد و تفحّصها ثم أمر الممرّضة بإعادة غرس أنبوب المصل في أحد عروقها فباشرتْ الممرضة بفعل ذلك دون أي مقاومة أو ردّة فعل من رغد... الأمر الذي ضاعف خوفي أكثر فأكثر...
    جلبتْ الممرضة عبوة مصل أخرى و جعلتْ السائل يتدفق بسرعة إلى جسد رغد ثم أعادتْ فحصها و قياس ضغط دمها... و خاطبتْ رغد سائلةً:

    " هل أنتِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟؟ "

    رغد عند هذا فتحتْ عينيها و نظرتْ إلى الاثنين و كأنها للتو تدرك وجودهما فعبستْ و قالتْ زاجرة:

    " ابتعدا عنّي "

    لكنّها كانت مستسلمة بين أيديهما.

    سألتها بدوري في قلق :

    " رغد هل أنتِ بخير ؟؟ "

    فرّدتْ و هي تشيح بوجهها و تحرّك يدها المصابة :

    " ابتعدوا عنّي... دعوني و شأني... متوحشون... آه... يدي تؤلمني "

    استدرتُ إلى الطبيب و الذي كان يتحسّس نبض رسغها الأيسر و سألتُ:

    " ما حلّ بها؟؟... طمئنّي؟؟ "

    أجاب :

    " ضغطها انخفض... لكن لا تقلق سيتحسّن بعد قليل "

    سألتُ مفزوعاً :

    " ضغطها ماذا ؟؟ انخفض؟؟ لماذا ؟ طمئنّي أرجوك هل هي بخير ؟؟ "

    نظر إليّ نظرة تعاطف و طمأنة و قال :

    " اطمئن. سيتحسّن بسرعة. إنها نزعتْ الأنبوب من يدها فجأة... و كان المصل يحتوي مسكنا للألم يجب أن يُخفّف بالتدريج كي لا يسبّب هبوطاً مفاجئاً في ضغط الدم. الوضع تحت السيطرة فلا تقلق "

    و كيف لا أقلق و أنا أرى من أمر صغيرتي العجب ؟؟
    على غير سجيتها... أرجوك تأكّد من أن دماغها بخير "

    قال الطبيب :

    " نحن متأكدون من عدم إصابة الرأس بشيء و الحمد لله. لكن الواضح أنّ نفسيّتها متعبة من جرّاء الحادث، و هذا أمرٌ ليس مستبعداً و يحدث لدى الكثيرين.. تحتاج إلى الدعم المعنوي و أن تكونوا إلى جانبها "

    قلتُ متفاعلاً مع جملته الأخيرة:

    " إنها لا تريد منّا الاقتراب منها "

    و كأنّ رغد لم تسمع غير تعقيبي هذا فالتفتتْ إلينا و قالتْ :

    " دعوني و شأني "

    ثمّ سحبتْ يدها من يد الطبيب و أمسكتْ باللحاف و خبأتْ رأسها تحته كلياً...
    و طلبتْ منّا أن نخرج جميعا و هذتْ بكلمات جنونية لم أفهم لها معنى...

    نظرتُ إلى الطبيب بقلقٍ شديد :

    " أظنّها جُنّتْ... يا دكتور.. افعل شيئا أرجوك... ربّما جنّتْ ! "

    قال :

    " كلا كلا... لا سمح الله. كما قلتُ نفسيتها متعبة... سأعطيها منوماً خفيفاً "

    و بقيتْ رغد على حالها و سمعتها تقول و وجهها مغمور تحت اللحاف:

    " لا تُعِدها إلى بيتنا ثانية... لا أريد أن أراها ... أبدا "

    و كررتْ و هي تشدّ على صوتها :

    " أبدا... هل تسمعني ؟ أبدا "

    و لمّا لم تسمع ردا قالتْ :

    " هل تسمعني؟؟ وليد إلى أين ذهبت ؟ "

    لقد كانتْ تخاطبني من تحت اللحاف... و أنا لا أعرف إن كانت تعني ما تقول...
    قلتُ و أنا أقترب لأُشعرها بوجودي فيما صوتي منكسر و موهون :

    " أنا هنا... نعم أسمع... حاضر... سأفعل ما تطلبين... لكن أرجوك اهدئي الآن صغيرتي... أرجوكِ فما عاد بي طاقة بعد"

    قالتْ:

    " إنها السبب "

    أثار كلامها اهتمامي... سألتُها :

    " ماذا تعنين؟؟ "

    و لم ترد...

    فقلتُ :

    " أ تعنين أنّ أروى... "

    و لم أتمّ جملتي، إذ أنها صرختْ فجأة :

    " لا تذكر اسمها أمامي "

    قلتُ بسرعة و توتّر:

    " حسناً حسناً... أرجوكِ لا تضطربي "

    فسكنتْ و صمتتْ قليلا... ثم سمعتها و للذهول تقول :

    " أريد أمّي "

    شقّت كلمتها قلبي إلى نصفين...
    الممرضة سألتني :

    " أين والدتها؟ "

    فعضضتُ على أسناني ألماً و أجبتُ بصوتٍ خافتٍ :

    " متوفّاة "

    حرّكتْ رغد رأسها من تحت اللحاف و راحتْ تنادي باكية :

    " آه... أمي... أبي... عودا إليّ... لقد كسروا عظامي... هل تسمحان بهذا؟ أنا مدللتكما الغالية... كيف تتركاني هكذا... لا استطيع النهوض... آه... يدي تؤلمني... ساعداني... أرجوكما... لا تتركاني وحدي... من لي بعدكما... عودا إليّ... أرجوكما... عودا... "

    الغرفة تشبعتْ ببخار الدموع المغلية التي لم تكد تنسكب على وجنتيّ حتى تبخّرتْ ... والتنفس أصبح صعبا داخل الغرفة المغمورة بالدموع...

    طلبتُ بنفسي من الطبيب إعطاءها المنوّم الجديد في الحال... حتّى تنام و تكفّ عن النحيب الذي أفجع كلّ ذرّات جسمي... و قطّع نياط قلبي... و أثار حزن و شفقة حتّى الجدران و الأسقف... و بعد أمره أعطتها الممرضة جرعة من المنوم الذي سرعان ما أرسل رغد في دقائق إلى عالم النوم...

    و كم تمنيتُ لو أن جرعة أخرى قد حُقنتْ في أوردتي أنا أيضا...

    قالت الممرضة :

    " ها قد نامتْ "

    ثمّ أعادتْ قياس ضغط دمها مجددا و طمأنتني إلى أنه تحسّن... كما أن الطبيب أعاد فحص نبضها و أخبرني بأنه على ما يرام...

    بقي الاثنان ملازمين الغرفة إلى أن استقرّ وضع رغد تماما ثم خرج الطبيب و ظلّتْ الممرّضة تسجّل ملاحظاتها في ملف رغد...
    وجه رغد كان لا يزال مغمورا تحت اللحاف و خشيت أن يصعب تنفّسها فسحبته حتى بان وجهها كاملاً... و مخسوفاً

    كان... كتلةً من البؤس و اليتم... يصيب الناظر إليه بالعمى و يشيب شعره... و آثار واهية من الكدمات تلوّن شحوب وجنتيه الهزيلتين...

    قالتْ الممرضة و هي ترى التوتر يجتاحني و أنا أتأمّل وجه الفتاة:

    " تبدو محبطةً جدا... من المستحسن أن تأتي شقيقاتها أو المقرّبات لديها لتشجيعها. الفتيات في مثل هذا السن مفرطات الإحساس و يتأثرن بسرعة حتى من أتفه الأمور فما بالكَ بإصابة بالغة..! "

    أي شقيقات و أي قريبات ! أنتِ لا تدركين شيئاً...

    ثم تابعتْ تكتب في الملف و أنا قابع إلى جوار رغد أتأمل كآبتها و أتألّم...

    خاطبتني الممرضة :

    " عفوا يا سيّد و لكنّي لاحظتُ شيئا... أريد التأكّد... إذ يبدو أنّ هناك خطأ في معلومات الكمبيوتر... هل اسم والدكما هو شاكر أم ياسر ؟؟ "

    التفتُ إليها و قلتُ :

    " رغد ياسر جليل آل شاكر... و أنا وليد شاكر جليل آل شاكر "

    نظرتْ إليّ الممرضة بتعجّب و علقتْ :

    " لستما شقيقين؟!"

    قلتُ :

    " إنها ابنة عمّي، و ابنتي بالوصاية "

    زاد العجب على تعبيراتها و أوشكتْ على قول شيء لكنها سكتت و اكتفت بهز رأسها.

    أثناء نوم رغد... أعدتُ استعراض شريط ما حصل منذ أفاقتْ قبل قليل إلى أن عادتْ للنوم محاولا تذكّر ما قالته و استيعاب تصرّفاتها... و تذكّرتُ جملتها ( إنها السبب ) و التي أشارتْ بها إلى أروى...
    تباً لكِ يا أروى...
    كبرتْ الفكرة في رأسي و تلاعبتْ بها الشياطين و لم أعد بقادر على حملها... و أردتُ التحدّث مع أروى حالاً...

    طمأنتُ قلبي قليلا على سلامة الصغيرة و تأكدتُ من نومها، ثم طلبتُ من الممرّضة أن تبقى ملازمةً معها لحين عودتي، و خرجتُ من الغرفة بحثاً عن أروى و الخالة فوجدتهما تجلسان على مقربةٍ...
    وقفتْ الاثنتان بقلقٍ لدى رؤيتي... أنظاري انصبّتْ على أروى و بدأتْ عيناي تتقدان احمرارا...

    الخالة سألتْ :

    " كيف هي الآن ؟ "

    لم أجبها... إنما اتجهتُ مباشرة إلى أروى و قلتُ بحدة :

    " ما الذي فعلتِه برغد ؟ "

    التعجّب و الذعر ارتسما على وجه أروى... و لم تتحدّث...
    يدي تحرّكتْ نحو ذراعها فأطبقتُ عليه بقسوة و كررتُ بحدّة أكبر :

    " أجيبي ... ما الذي فعلتِه برغد ؟؟ "

    الخالة تدخّلتْ قائلة :

    " ماذا عساها تكون قد فعلتْ ؟ لقد وقعتا سويةً "

    ضغطتُ بقوّة أكبر على ذراع أروى و صحتُ بوجهها :

    " تكلّمي "

    أروى حاولتْ التملّص من قبضتي عبثا... ثم استسلمتْ و قالتْ :

    " كان حادثا... هل تظنّ أنني دفعتُ بها ؟ هل أنا مجنونة لأفعل ذلك؟؟ "

    بخشونةٍ دفعتُ بأروى حتى صدمتها بالجدار الذي كانت تقف أمامه و قلتُ ثائراً :

    " بل أنا المجنون ... لأفعل أي شيء... انتقاماً لها... "

    الخالة اقتربتْ منا و قالتْ :

    " وليد ! ماذا دهاك ؟؟ الناس يمرون من حولنا "

    أخفضتُ صوتي و أنا أضغط على كتفَي أروى الملصقتين بالجدار أكاد أسحقهما به :

    " الفتاة بحالةٍ سيئةٍ... أسوأ من سيّئةٍ... إصابتها بالغةٌ و نفسيّتها منهارةٌ... تتصرّف بغرابة... و تقول أنّكِ السبب... و تنفر منكِ بشدّة... لا تقولي أنّك لم تفعلي شيئاً... أخبريني ما الذي فعلتِه بها يا أروى تكلّمي ؟؟ "

    " وليد ! "

    صاحتْ أروى و حاولتْ التحرّر لكنني حشرتها بيني و بين الجدار و صحتُ :

    " قلتُ لك ِ مراراً... لا تقتربي منها... إلاّ رغد يا أروى...إلاّ رغد... أي شيءٍ في هذا الكون إلاّ رغد... أنا لا أقبل أن يصيب خدش ٌ أظافرها... و لا يكفيني فيها غير إزهاق الأرواح... و أقسم يا أروى... أقسم بالله العظيم... إن أصاب الفتاة شيءٌ... في عقلها أو جسمها... و كنتِ أنتِ السبب بشكلٍ أو بآخر... فسترين منّي شيئاً لم تريه في حياتك قط... أقسم أنني سأعاقبكِ بأبشع طريقةٍ... و إن اضطررتُ لكسر عظامك كلّها و سحقها بيدي ّ هاتين "

    و جذبتُ أروى قليلاً ثم ضربتها بالجدار بعنفٍ مرة أخرى...







    -----
    و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد... و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر...
    وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت... بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود... و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش...
    عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة... حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.

    لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك... و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل...
    و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى...
    أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج...

    لكن.. و الله يشهد على قولي... كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا... و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج...

    (زوجي) كلمة لم أعرف معناها... كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد
    فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه... و قد بدأتْ بالظهور الآن...
    هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب... و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !

    اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى... كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك...
    كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه... و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة... كالمعتاد
    و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً !
    كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة... و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة
    بفضولٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية
    فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين...
    و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً...

    الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي... لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟
    لكن لحظة !
    دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة... و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون.... !

    دعوني وحدي رجاء ً !

    أنا في حالة ذهول ... و لا أريد قول المزيد !


    ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
    ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...

    كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...

    تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...


    و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:


    " صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "

    هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...

    هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.

    على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...

    بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :

    " صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "

    كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
    حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :

    " أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."

    كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:

    " كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "

    نطقتْ رغد أخيرا :

    " وليد "

    شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :

    " نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "

    قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :

    " الحمد لله "

    كررتُ بامتنان :

    " الحمدُ لله... الحمدُ لله "

    و عقّبتْ الخالة :

    " الحمد لله "

    حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :

    " كم ستظلّ هذه ؟ "

    كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :

    " ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"

    و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :

    " و الجامعة ؟ "

    قلتُ :

    " سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "

    قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :

    " و السفر ؟؟ "

    فأجابتْ الخالة :

    " نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "

    فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…

    مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:

    " اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "

    قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :

    " هل سأستطيع المشي؟ "

    قلتُ بسرعة:

    " طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "

    فقالتْ متشكّكة :

    " ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "

    أجبتُ مؤكداً :

    " أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "

    و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :

    " أنت أدرى "

    ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…

    الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :

    " أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "

    و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :

    " الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "

    و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....

    قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً

    و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...

    في وقت الزيارة حضر صديقي سيف و أحضر زوجته لزيارة رغد و وجدتها فرصةً جيّدة لتجد رغد من يواسيها قليلاً ... و لكي استمدّ بدوري بعض الدعم من صديقي الحميم و لأشكره و اعتذر إليه و إن كنتُ أعلم أنّ سيف لم يكن لينتظرهما... بقي سيف و زوجته معنا لدقائق معدودةٍ و قبيل مغادرتهما سألتُ سيف أن يصطحب خالتي من جديد إلى المنزل على أن يعود بها ليلا مع بعض حاجيات رغد...


    "و ماذا عنك يا رجل ؟ ألا تريد قسطاً من الراحة ؟؟ "

    سألني سيف و نحن نقف في الممر بجوار غرفة رغد و أنا مستندٌ على الجدار أنشد دعمه... و هو أمامي يرى آثار الإرهاق مستنجدةً على وجهي و جسدي...

    أجبتُ :

    " عندما تعود بالخالة ليلاً سأذهب للنوم... طلبتُ منها أن تبقى مرافِقةً لرغد طوال الليل... و أبقى أنا طوال النهار "

    سألني سيف :

    " و ماذا عن زوجتك ؟ "

    تنهّدتُ بمرارة ثم قلتُ :

    " آه... اسكتْ يا سيف و لا تأتِ بذكرها داخل المستشفى... لا تريد رؤيتها و لا حتّى سماع اسمها... آه لو تعرف ما الذي حصل لها صباحاً... جُنّ جنونها حين رأتها.... تنفر منها بشكلٍ مفزعٍ يا سيف... يبدو أنها من تسبّب في الحادث... بشكلٍ أو بآخر... و لو لم أتمالك نفسي اليوم لكنتُ ... "


    و صمتُ... إذ لم أشأ أن أعبّر عن مشاعر الغضب المجنونة أمام سيف... لكنني أعرف بأنه يدرك كل شيء...

    قلتُ :

    " ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ أخيراً... و لازلتُ متخوفاً من أنها قد تنهار في أيةِ لحظةٍ و لستُ مطمئناً لتركها وحدها مع الخالة... لكن... إنها مستشفى و لها قوانينها و أنظمتها و بقائي هنا طوال الوقت أمر غير لائق "


    بعد صمت ٍ قصير سألني :

    " كيف وقعتْ ؟ "

    أجبتُ :

    " لا أعرف يا سيف. تشاجرتْ مع أروى... هما و منذ أيام متخاصمتان... تشاجرتا معا و كانتا تقفان على درجات السلّم... و وقعتا سويةً... لكنّ الإصابة اختارتْ رغد "

    و تنفستُ عميقاً ثم قلتُ :

    " لم يحدث أن تعاركتا بالأيدي و لكن... يبدو أن هذا ما حصل على السلّم... فوقعتا... و أصيبتْ رغد "

    تنهدتُ و واصلتُ :

    " أنا خائفٌ عليها يا سيف... خائفٌ أن يسبّب الجرح مشكلةً مزمنة في رِجـْـل الفتاة... أو يدها"

    قال سيف مباشرة:

    " لا قدّر الله... تفاءل بالخير يا رجل "

    تنهدتُ مجددا و قلتُ :

    " الأمر بالنسبة لي... قضاء أحمد الله على لطفه فيه... و الطبيب طمأننا جداً... لكن... يظلّ خوفي الأساسي على الفتاة و نفسيتها... إنها صغيرةً و ضعيفةً جدا... لن تحتمل شيئاً كهذا... بل إنّ مجرّد تفكيرها في احتمال وقوعه يرسلها إلى الجحيم... الصغيرة قد لاقتْ من البلاء الكثير حتى اليوم... منذ الطفولة يا سيف و هي تعاني...
    اليتم... و عمّار القذر... و فقد والديّ... و الحرب... و التشرّد و الغربة و الوحدة... كل هذا... على قلب فتاة صغيرةٍ بريئةٍ هشّةٍ... قل لي يا سيف من يحتمل ذلك؟؟ و بعد هذا كسرٌ و جبرٌ و عكّاز... و إعاقة... إن عقل فتاتي يكاد يزول يا سيف... بل إنه قد بدأ يزول فعلاً "

    وقبضتُ يدي بشدة و في ألم مرير...
    سيف أمسك بقبضتي مشجعاً و حين شعرتُ بدعمه أطلقت ُ العنان لصدري أكثر ليبوح بمخاوفه...

    " أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "




    أنا السبب الحقيقي في هذه الحادثة ! كنتُ أعرف أن التوتّر بينهما وصل حد الخطر... بل تجاوزه بكثير... كان يجب أن أبعدهما عن بعض منذ زمن... ليتني فعلتُ ذلك قبل فوات الأوان... تركتُ الأمر يصل إلى حد الكسر ! أوه يا إلهي ! أنا السبب... كيف أقابل ربّي؟؟ بأي وجه سألقى أبي و عمّي؟ و أمّي؟؟ ماذا سأقول لهم ؟؟ لقد أودعتموها أمانةً عظمى في عنقي و أنا... ببساطةٍ تركتها تتكسّـر ! "

    و ضربتُ رأسي بالجدار الذي كان خلفي غضباً من نفسي... و تمنيتُ لو أنه تحطّم... أو أن عظامي هي التي انكسرتْ و لا مسّ الصغيرة خدش ٌ واحد...
    سيف شدّ على يدي أكثر و نطق ببعض الكلمات المواسية... التي ما كان أحوجني إليها آنذاك...

    بعد ذلك سألني :

    " هل... عرف أقاربها بالأمر ؟ "

    فتحتُ قبضتي بسرعة و كأنني تذكّرتُهم الآن فقط... فقلتُ و أنا أهزّ رأسي :

    " كلا ! لن أخبرهم ! إنهم سيتهمونني بالتقصير في رعايتها... كانوا سيحرقونني بنظراتهم عندما أخذتها آخر مرّة من بيتهم... "

    و تذكرتُ الطريقة التي كانتْ أم حسام تخاطبني بها في آخر لقاء... و كيف قالتْ لي: (الله الله في اليتيمة) و كأنها كانتْ تشكُ في أنني سآتي بها يوماً ما مكسورة العظام...!

    و الأيام سترينا مدى صدق مخاوفي...

    قال سيف:

    " لا تحمّل نفسك الذنب يا وليد... فلنحمد الله على لطفه و ندعوه أن يعجّل الشفاء للمصابة و يجعل من وراء هذه الحادثة خيراً "

    ابتسمتُ بامتنان ثم عانقتُ صديقي مستمداً منه بعض الطاقة و الشجاعة...

    بعدها قال :

    " بلّغها تحياتي و أمنياتي بالشفاء العاجل... و إذا احتجتم لأي شيء أو أي مساعدة منّي أو من أم فادي فلا تترددوا رجاء ً "




    الساعة الثامنة مساء... انتهى وقتُ الزيارة... و أتت ْ إحدى موظفات المستشفى لتنبيهنا لذلك... و أنا واقفٌ إلى جوار رغد... و الخالة قد وصلتْ قبل قليل، و سيف قد غادر.

    نظرتُ إلى رغد نظرة متردّدة ثم قلتُ :

    " ستبقى الخالة برفقتكِ... اعتمدي عليها في أي شيء تريدينه و إذا احتجتما لي اتصلا في الحال "

    ظهر الاهتمام على قسمات وجه رغد و قالتْ :

    " إلى أين ستذهب ؟ "

    أجبتُ بلطف :

    " إلى البيت... إذ أنه لا يمكنني البقاء أكثر "

    و هنا رأينا رغد تستوي جالسة... و تقول معترضة و وجهها يصفر ّ قلقاً :

    " هل ستتركني وحدي ؟ "

    تبادلتُ و الخالة النظرات ثمّ قلتُ :

    " لا ... ستبقى خالتي معك "

    و إذا برغد تهتف :

    " أخرجني من هنا "

    وضعها ينذر بأنها على وشك الثوران... لم استطع قول شيء فقالتْ الخالة :

    " يهديك الله يا بنيّتي كيف يُخرجكِ هكذا ؟ "

    لكنّ رغد لم تكن تمزح... بل أبعدتْ اللحاف و أرادتْ النهوض فأسرعتُ باعتراضها و أنا أقول:

    " أوه كلا... أرجوكِ لا تتحرّكي "

    فصاحتْ مرتاعة:

    " كيف تذهب و تتركني؟ ألا ترى ما أنا فيه يا وليد؟ ألا ترى هذا ؟؟ "

    قلتُ بهلع:

    " حسناً حسناً ... سوف لن أذهب لكن أرجوك لا تنفعلي مجدداً... ابقـَي مكانك "

    و أنا أعيد إسنادها إلى الوسادة... و أتنهد ثم أمسح زخات العرق التي نبتتْ على جبيني و أضغط على صدغي لأخفـّف الصداع الذي تفاقم لحظتها... ثمّ أجلس على طرف السرير باستسلام...

    لابد أن التوتر و الضيق كانا فاضحين جداً على وجهي... للدرجة التي صعقتني رغد عندها بقول :

    " ماذا ؟ هل ضقتَ ذرعاً بي ؟ إذن ارم ِ بي من هذه النافذة و أرح نفسك "

    لا ! ليس من جديد... توقــّـفي عن جنونك يا رغد أرجوكِ كفى... كفى...

    زحفتُ نحوها و قلتُ بألم و ما بي من بقايا طاقة تحتمل المزيد:

    " ما الذي تقولينه يا رغد؟؟ أرجوك هذا يكفي "

    قالتْ صارخةً :

    " ألا ترى حالتي هذه؟؟ كيف تفكّر في الذهاب و تركي؟ ألا تشعر بما أنا فيه ؟ "

    إنّكِ أنتِ من لا يشعر بما أنا فيه يا رغد...

    قلتُ :

    " لا لم أفكّر في ترككِ ، و لكن نظام المستشفى لا يسمح ببقاء رجل برفقةِ مريضة في قسم السيدات. حتّى لو كان أباها. لذلك طلبتُ من الخالة مرافقتك"

    لكن رغد لم يعجبها هذا و أصرّتْ على أن أبقى معها تلك الليلة، و لم تكن حالتها تسمح بأن أتجاهل إصرارها...

    و رغم الحرج الشديد الذي واجهته و أنا أطلب من المسؤولين السماح لي بالبقاء هذه الليلة مع المريضة و المرافقة... تعاطفا ً مع حالتها النفسية، رضختُ لرغبة رغد و تكبّلتُ العناء و قضيتُ الليلة الثانية ساهراً إلى جوار صغيرتي... تاركاً أروى تبات وحيدة في المنزل الكبير...


    لم تكن ليلتي ليلة ً و لم يكن حالي حالاً... لا أنا و لا صغيرتي عرفنا للراحة طعماً... كنتُ أجلس على مقعد تحجبه عن سريرها الستارة... و لكنّي كنتُ أسمع كل حركاتها و تقلباتها و تأوّهاتها طوال الليل... كانتْ نوبات الألم تكرّ و تفرّ على عظام الصغيرة المكسورة و أنسجتها الممزقة... و الممرضة تأتي بين فترة وأخرى لإعطائها المسكّن...


    في صباح اليوم التالي سمحتْ لي رغد بالخروج على أن أعود عصرا ... و ما كادتْ تفعل.

    كان الإرهاق قد أخذ منّي ما أخذ و لم أكن قد نمتُ البارحة أبدا... غير غفوة قصيرة تملكتني بعد شروق الشمس. و يبدو أن الخالة قد نجحتْ في إقناعها بتركي أذهب أثناء غفوتي القصيرة أول الصباح.

    وقفتُ قرب رغد أسألها عن أي شيء أخير تريده قبل مغادرتي...

    " سآوي إلى فراشي مباشرةً ... و سأترك هاتفي عند وسادتي... اتصلا إن احتجتما أي شيء في أي وقت و بدون تردد"

    قلتُ و أنا أنقل بصري بين رغد و الخالة... رغد أومأتْ موافِقة، و الخالة قالتْ مطمئِنة:

    " لا تقلق يا بني. سنتصل عند الضرورة. اذهب و نم مطمئنا مسترخيا "

    التفتُ إلى رغد و أطلتُ النظر... لم يكن قلبي بقادر على المغادرة لكن و لم أثق في موافقتها هذه... لكنّي كنت في غاية الإرهاق و بحاجة ماسة للنوم...

    مددتُ يدي إليها و ربتُ على يدها و قلت ُ بصوت هادئ و حنون :

    " حسنا صغيرتي... أتركك ِ في رعاية الله... ابقي هادئة رجاءً ... سوف لن أطيل الغياب "

    الصغيرة شدّتْ على يدي و حملقتْ بي و ربما كان لسان حالها يقول (لا تذهب) لكنها أجبرتْ فمها على التقوس في شبه ابتسامة مترددة...

    و ما كان منّي إلا أن شددتُ على يدها و قلتُ أخيرا بأحن صوت:

    " أراكِ على خير و عافية... يا صغيرتي "


    و هكذا تركتها أخيرا و عدتُ إلى البيت مثقلا بالتعب و الهموم...
    في المنزل سرتُ ببطءٍ شديد حتى بلغتُ أسفل الدرج... و تذكرتُ صراخ رغد ليلة الحادثة فقرصني الألم في قلبي... صعدتُه خطوةً خطوة... و أنا مستمر في إنعاش صدى صرخاتها...
    و انعكاس صورة وجهها المتألم...
    و قادتني قدماي بشعور أو بغير شعور... ليس إلى غرفتي... بل إلى غرفتها...

    دخلتُ الغرفة متجاوزاً كل اعتبار... و أخذتُ أحلّق بأنظاري في أرجائها... و أعانق بيدي جدرانها...

    على الجدار الكائن خلف سرير رغد... كانتْ الورقة القديمة... للصورة التي رسمتها رغد لي... بشاربي الطويل... لا تزال تقف و منذ سنين... بكل بشموخ...

    لم تحتمل عيناي رؤيتها... وسرعان ما خرّتْ دموعي صريعة الأسى...
    جلستُ على حافة السرير... و مسّدتُ على الوسادة كما لو كانت هي صغيرتي... بكل عطف و حنان... فإذا بي أشعر بحبيبات رمل تعلق بكفي... و ألقي عليها نظرة فإذا بها ذرات السكر...
    جذبتها إليّ و ضممتها إلى صدري... و هو أمر لم استطع أن أقدّمه لفتاتي المرعوبة... عوضا عن وسادتها... و كلّما تذكّرتُ كيف كانت مرحة و سعيدة جدا و نحنُ في النزهة أوّل الليل... ثم كيف صارتْ كومة من البؤس و الألم و الصراخ... ملقاة على السرير الأبيض التعيس آخره... عصرتها أكثر بين ذراعي...

    انتابني شعور بنيران تحرق معدتي... و كأنها تنعصر قهراً مع الوسادة و تأوهتُ بألم...


    " آه يا رغد... "

    رفعتُ يدي من على الوسادة إلى السماء و زفرتُ الآهة مصحوبة باستغاثة يا رب...

    " يا رب... يا رب... أنت تعرف أنني لا أعزّ شيئا في هذه الدنيا مثل رغد... يا رب... أنا أتحمّل أيّ بلا ٍ ... إلا فيها... أتوسّل إليك يا رب... ألطـُف بحالي و حالها... أتوسّل إليك... اشفِها و أخرجها سالمةً... و أعدها كما كانتً... يا رب... خـُذ من صحّـتي و أعطِها... و خـُذ من عمري و هبها... خـُذ منّي أي شيء... كل شيء... و احفظها لي سالمة... هي فقط... أنا لا أتحمّل أن يصيبها أيّ شيء... يا رب... أيّ شيء.... إلاّ رغد يا رب... أرجوك... لا تفجعني فيها... أنا أختنق يا رب... إلهي... أرجوك... اجعل لي من لطفكِ فرجاً عاجلاً... عاجلاً يا رب... عاجلاً يا رب... يا رب... "


    و لو بقيتُ ها هنا لزهقتْ روحي من فرط المرارة ...
    غادرتُ غرفة رغد و أنا شاعرٌ بها تملأ رئتي... أزفرها و أستنشقها مع كل أنفاسي و أناتي...

    ذهبتُ إلى غرفتي و قضيتُ زمنا أناجي الله و أدعوه و أصلّي له... حتى سكنتْ نفسي و اطمأنّ قلبي و ارتاح بالي... و فوّضتُ أمري إلى الله اللطيف الرحيم...

    أخيرا ... رميتُ برأسي المثقل على الوسادة... و نشرتُ أطرافي على فراشي بعشوائية... أخيرا سأستسلم للنوم...

    أغمضتُ عينيّ بسلام... فإذا بي أتخيّل رغد من جديد... فتحتهما فرأيتها أمامي... لففتُ رأسي ذات اليمين ثم ذات الشمال... وكانت هي هناك... في كل مكان...
    google_protectAndRun("render_ads.js::google_render _ad", google_handleError, google_render_ad);


    رفعتُ وسادتي و وضعتها على وجهي لأحول دون صورة رغد التي لم ترحم بحالتي تلك الساعة...

    أرجوك ِ كفى! لماذا عدت ِ؟ دعيني أنام و لو لساعة! أرجوكِ يا رغد... رأفة ً بي...
    لكنني رأيتها تحت الوسادة و لو قلبتُ وجهي على السرير لرأيتها فوقه أيضا تحاصرني كالهواء من كل الجهات

    فجأة... تذكرتُ شيئا... لم يكن ينقصني تذكّره في تلك الساعة التعيسة...

    رفعتُ الوسادة عن رأسي و جلستُ و بحثتُ بعيني تحت موضعها... قلبتُ بقية الوسائد... أزحتُ البطانية و فتـّشتُ هنا و هناك و لم أعثر على رغد !

    " ربّاه ! أين اختفيت ِ فجأة ؟؟ "

    ذهبتُ فورا إلى محفظتي و شرّحتها تشريحا دون جدوى !

    فتشتُ أسفل السرير... و المنضدتين الجانبيتين و الأدراج... و كل مكان لم أكن لأترك فيه (رغد) ... ورغم أنها كانت موجودة في كلّ مكان، لم أجدها في أي مكان!

    " أروى ! لابد أنها هي ! "

    استنتجتُ فجأة...
    فخرجتُ من غرفتي و توجهتُ إلى غرفة أروى... و التي لم أكن قد رأيتها مذ تشاحنتُ معها صباحاً و نحن في المستشفى...

    لم أتردّد غير برهةٍ واحدةٍ بعدها طرقتُ الباب و ناديتُ :

    " أروى... هل أنتِ نائمة ؟؟ "

    الوقت كان مبكراً و خشيتُ أن تكون نائمةً، لكنني أعلم أنّ من عادتها النهوض باكراً كل صباح... أعدتُ الطرق فرأيتُ الباب يُـفتح بعد ثوان و تطلّ منه أروى بوجه قلِق.

    اللحظة الأولى مرّتْ صامتة ساكنة حتى عن الأنفاس... و باردة كليلة شتاء...

    " هل... كنتِ نائمة ؟ "

    سألتها بعد ذلك البرود فأجابتْ :

    " نعم..."

    و سألتْ بقلق :

    " ماذا هناك؟؟ "

    رددتُ :

    " آسف لأنني أيقظتكِ "

    قالتْ :

    " كنتُ سأصحو قريبا على أية حال... لكن ماذا هناك ؟ متى عدتما؟ "

    قاصدة إياي و الخالة، قلتُ :

    " خالتي ظلّتْ مع رغد"

    و كأنّ ذكر (رغد) أثار في وجه أروى بعض التعبيرات المنزعجة... و سرعان ما نقلتْ بصرها بعيدا عنّي...

    قلتُ :

    " كنتُ سأسألك ِ سؤالا "

    التفتتْ إليّ و قالتْ مباشرة :

    " و أنا أيضا أود أن نتحدّث يا وليد... "

    و هي تفتح الباب أكثر... فرددتُ :

    " كلا ليس هذا وقته. أنا متعب جدا و لا يحتمل رأسي أي شيء... و لا شيء "

    و كأن إجابتي أصابتها بإحباطٍ مما بدا على وجهها...

    تابعتُ :

    " فقط أخبريني... ألستِ من قام بترتيب غرفة نومي؟ "

    و كانتْ عادتها أن تفعل ذلك. لم تجب أروى مباشرة... بل أخذتْ لحظة تفكّر... ثم قالتْ :

    " بلى "

    قلتُ :

    " و... هل رأيتِ شيئا قرب وسائد سريري؟ أعني... هل أخذتِ شيئا من هناك ؟ "

    ربما لمعتْ عينا أروى بشكل لم أفهمه... رمقتني بنظرة حادّة لا تتناسب و برودة اللحظة... ثم قالتْ :

    " شيء مثل ماذا ؟؟ "

    و فهمتُ من ذلك أنها رأتْ الصورة الممزقة... فعضضتُ على أسناني ثم قلتُ :

    " أين وضعتِها ؟ "

    أروى رفعتْ حاجبيها و قالت ْ :

    " القصاصات الممزقة ؟"

    تشبثتْ عيناي بعينيها أكثر، إجابة على السؤال.. فتابعتْ هي :

    " لقد... ألقيتُ بها في سلّة المهملات "

    ماذا تقولين ؟؟ لم أسمع جيدا ؟؟ سلّة ماذا ؟؟
    قلتُ بدهشة ممزوجة بعدم التصديق :

    " ماذا؟؟ رميت ِ بها ؟؟ "

    لم تعقـّبْ أروى... فكرّرتُ و قد اشتدّ صوتي و بدأتْ ألهبة النار تتراقص في عيني :

    " تقولين رميت ِ بها ؟؟ "

    و من البرود الذي صافحني به وجهها اشتعلتْ النيران في رأسي كليا...

    " أروى !! رميتِ بها ؟؟ بهذه البساطة؟؟ و من أعطاك الحق بهذا التصرف؟ أوه... أروى ويحك !! في المرة السابقة رميتِ بالصندوق و الآن بالصورة.... كيف تسمحين لنفسك ِ بهذا؟؟ "

    و لم يتجاوز ردّ أروى حدّ النظرات الصامتة !

    " أخبريني في أي سلّة رميتِ بها ؟ "

    دارتْ عين أروى قليلا و كأنّها تحاول التذكّر ثم قالتْ:

    " أظن ... أن الخادمة قد أخرجتْ جميع أكياس المهملات إلى سلــّـة الشارع"

    حينها لم أتمالك نفسي!

    صرختُ بوجه أروى بعنف... و أحرقته بنار الغضب ...
    أطبقتُ على ذراعيها و هززتـُها بقوّة و ركلتُ الباب ركلة عنيفة أوشكتْ على كسر عظام قدمي الحافية...

    " ما الذي فعلتِه يا أروى ؟؟ لا تدركين ما فعلتِه ... كيف ستعيدينها الآن ؟؟ تباً لك ِ! ألا يكفي كل ما أحدثتِه لحد الآن؟ لن يتـّسع عمري لتصفية حساباتي معك... و الآن اذهبي و استخرجيها لي و لو من قعر الجحيم ! "

    رأيتُ نهرين من الدموع يتفجران فجأة من عيني أروى و يسيلان على وجنتيها... و رأيتُ الاشتعال في وجهها إثر صفـْعِ صراخي القوي...

    كنتُ غاضبا جدا...

    ألم يكفها ما فعلتْ بالصغيرة ؟ و أيضا تحرمني من البقايا الممزّقة من ذكراها التي لم تفارقني لحظةً واحدة...منذ سنين ؟؟

    صرختُ بخشونةٍ بالغةٍ :

    " لا أريد دموعاً... أريد الصورة الآن و بأيّ طريقة... هيّا تحرّكي... في الحال... قبل أن تمزقكِ شياطين غضبي إربا... أتسمعين؟؟ "

    و أفلتها من بين يدي بدفعةٍ قاسيةٍ...

    أروى استندتْ إلى الجدار... ثم مسحتْ دموعها... ثم سارتْ ببطء نحو الداخل... ثم عادتْ إليّ تحمل شيئا في يدها و مدّته نحوي...

    و سرعان ما اكتشفتُ أنها قصاصات صورة رغد الممزقة...

    تجمّدتُ فجأة و لم أقو َ على الحراك... و تحوّلتْ نيراني إلى كتل ٍ من الجليد... رفعتُ بصري إلى عينيها فرأيتهما حمراوين و المزيد من الدموع تتجمع فيهما... و منهما تنبعثُ نظرات تعيسة...

    " خـُـذ "

    تكلــّمتْ بصوت ٍ هزيلٍ ضعيفٍ... و هي تحرّك يدها ...

    تحرّكتْ يدي بلهفةٍ و تناولتْ القصاصات من يدها... و أخذتْ عيني تتفحّصها بشوقٍ و تتأكد من اكتمالها... ثمّ انتقلتْ أنظاري من القصاصات إلى أروى...

    شعرتُ بالانهيار... و حرتُ في أمري...

    و أخيرا... قلتُ بصوت ٍ تحطـّم فجأة و تحوّل من الصراخ الناري إلى الهمس البارد:

    " لكن... إه... لماذا ادّعيت ِ أنك رميت ِ بها ؟ "

    أروى ردّتْ وسط بحر الدموع :

    " كنتُ... أريد اختبار ردّة فعلكَ... لأتأكّد "

    و عصرتْ الدمع المتجمّع في عينيها بمرارة... ثم تابعتْ :

    " و أنا الآن... متأكّدة... من كلّ شيء "

    و أضافت ْ أخيرا :

    " ستمزقني... حتّى من أجل... صورتها ! "

    و بسرعة استدارتْ و هرولتْ نحو سريرها و أخفتْ وجهها بين الوسائد و بكتْ بانفعال...

    واقفٌ كعمود الإنارة المحروق... لا يملك قدماً تخطو للأمام و لا للخلف... و مهما ثار يبقى منطفئا عاجزاً عن إنارة المنبت الذي يرتكز عليه... و رؤية أين يقف... تسمّرتُ أنا بين الذهول و الفزع... و بين الإدراك و الغفلة... و التصديق و الرفض... أنظر إلى أروى و أسمع دوي كلماتها الأخيرة يزلزل جمجمتي... دون أن يكون لي من القوّة أو الجرأة ما يكفي لفعل أي شيء !


    أخيرا تمكّن لساني من النطق ...

    " أروى ... "

    لم ترد عليّ، ربما كان صوتي جدا ممزقاً... لممتُ شيئا منه و ناديتها ثانية :

    " أروى ... "

    و هذه المرّة ردّتْ فجاء صوتها مكتوماً عبر الوسائد :

    " اتركني وحدي "


    و على هذا... عدتُ أدراجي إلى غرفتي أحمل أشلاء صورة محبوبتي الصغيرة بين أصابعي... و أضمّها إلى صدري...
    و مرة أخرى هويتُ برأسي المشحون بشتّى الأفكار على الوسادة... و لكنني لم أرَ إلا سواداً أودى بوعيي إلى قعر الغياب....

  3. #163
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    لجزء 43-44


    كود:

    http://www.4shared.com/file/57604845/9f93a6e6/43-44.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الجزء 45


    الفصل الاول ..


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57609749/6f13752d/45-1.html?dirPwdVerified=b15d3ff9
    الفصل الثاني ...


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57609748/181445bb/45-2.html?dirPwdVerified=b15d3ff9

    الجزء 46

    الفصل الاول ..


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57617034/8613d751/46-1.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الفصل الثاني


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57618369/dff0f1a6/46-2.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الفصل الثالث


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57621036/ad69371/46-3.html?dirPwdVerified=b15d3ff9
    الجزء 47


    الفصل الاول ..


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57863589/1ad59afb/47-1.html?dirPwdVerified=b15d3ff9
    الفصل الثاني ..


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57866781/20543695/p_47_2.html?dirPwdVerified=b15d3ff9

    الجزء 48


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57870019/e2096507/part_48.html?dirPwdVerified=b15d3ff9
    الجزء 49


    الفصل الاول ..


    كود:
    http://www.4shared.com/file/57871742/b55f392a/49-1.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الفصل الثاني ..

    كود:
    http://www.4shared.com/file/57875650/ccea9427/49-2.html?dirPwdVerified=b15d3ff9
    الجزء الخمسين


    الفصل الاول ..

    كود:
    http://www.4shared.com/file/57878409/39afd475/50-1.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الفصل الثاني ..

    كود:
    http://www.4shared.com/file/57882681/11c47594/50-2.html?dirPwdVerified=b15d3ff9


    الفصل الثالث ..

    كود:
    http://www.4shared.com/file/57884941/93462279/50-3.html?dirPwdVerified=b15d3ff9

    -----
    طريق التحميل

    هتضغطى على الرابط

    هتضغطى على تنزيل الان لونها رمادى

    هتستنى العد التنازلى

    وتضغطى لى تنزيل الملف الان

    ابقوا قولو لى رايكم بقه

  4. #164
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Dec 2008
    الدولة
    مدخل مبني ب
    المشاركات
    894

    افتراضي

    انا لسه قاريء في القصه جديد بس شكلها حلوه
    مع ان في حاجات مستغربلها زي ازاي عمار ده خطف رغد وزي ازاي اهل وليد مرحوش يزوروه في السجن ولا حاولوا يشوفوه وهو يروح يكلمهم من غير ما يفتح الموضوع ده
    بس بصفه عامه القصه جميله وتعبيراتها جميله جدا وخصوصا ان انا رومانسي شويه
    ابقي اكمل قراءه بعدين عشان بقالي ساعتين بقرأها

  5. #165
    Pb Elite
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    In my own mind
    المشاركات
    1,508

    افتراضي

    حرااااااااااااااام عليكى انا ماصدقت الحته دى جت اخيرا
    وفعلا بدات ادمع
    فجاه الاقيكى وقفتى والحلقات
    وكمان الروابط اللى انتى منزلاها دى للحلقات الجديدة ولا القديمه ؟
    لو للقديمه يبقى ملهاش لازمه ليا انا عايزة الجديدة
    اهى اهى اهى اهى

  6. #166
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    لا جديده يا شيكو دى التكمله
    لغايه الاخيرة

    لو عايزينى انا اكمل يا جماعه اوك

    منتظرة اراءكم

  7. #167
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    بصوا انا دورت على تكمله القصه كتابه كده مش لاقيه وكمان البور بوينت مش هينفع انقل منه والله حملوها بس هتتحمل بسرعه خالص واحلى من الكتابه كمان

    حملوها بس متكسلوش التحميل مش هياخد وقت

    انا حاطه لكم كل اللى فاضل لغايه الاخيرة وعلى فكرة الحلقه الاخيرة جميله اوى

  8. #168
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    الحلقه الثالثة والاربعون

    مـــــن حبيبتك؟؟


    الساعه الثالثه إلا عشر دقائق عصراً أفقت من النوم مفزوعا على صوت رنين هاتفي.

    تناولت الهاتف بسرعه وأنا استرجع وعيي فجأه واتذكر رغد وما ألم بها
    أجبت بقلق:
    نعم هذا أنا".
    وسمعت صوت رغد يحدثني من الطرف الآخر:
    مرحبا وليد. هل كنت نائما؟"
    قلت:
    نعم رغد هل انت بخير؟
    قالت:
    "أجل. اتصلت مرتين ولم ترد! كنت أريد أن أطلب منك جلب بعض حاجياتي معك.
    متى ستأتي؟""
    ألقيت نظرة على ساعة الحائط ثم قلت:
    "بعد ساعة من الآن. لقد استغرقت في النوم ولم أحس بشي. أنا أسف. ماذا أجلب معي؟"
    وذكرت لي عدة أشياء تلزمها... وإن كان (الحذاء) من بينها!
    لم ألتق بأروى خلال تلك الساعة ولم أسمع ردا حين طرقت باب غرفتها
    لأعلمها بانصرافي..
    وذهبت إلى المستشفى وأنا أحمل باقة من الزهور الجميلة وعلبة شوكولا كبيرة بالإضافة إلى حاجيات رغد..
    عندما وقعت أنظاري عليها للوهلة الأولى شعرت براحة..
    إذ أنها بدت بحالة أفضل
    وعاد لون الحياة إلى وجهها بعد الشحوب. كما أنها سرت بباقة الزهزر وشكرتني عليها.
    أقللت خالتي إلى المنزل وعدت سريعا إلى رغد حيث قضيت معها ساعات الزياره..

    تخلل تلك الساعات فترة العشاء وقد قمت بنفسي بتشجيع ومساعدة رغد على تناول
    الطعام.
    تجابها معي طمأنني إلى أنها تجاوزت مرحلة الانهيار النفسي وتقبلت لحد ما وضعها الحالي. هاذا إضافة إلى
    أن كلام الطبيب منحني المزيد من الطمأنينة على وضعها هذا اليوم.
    بعد أن أنهت عشائها بدا عليها بعض الشرود والتوتر ...
    وأنا أعرف صغيرتي حين يشغل بالها شيء..
    سألتها:
    " أهناك شيء يا رغد؟"
    نظرت إلي وفي عينيها التردد ولمحت أصابع يدها السليمه تتحرك باضطراب.
    وكأنها تود قول شيء تخشاه.
    قلت مشجعا:
    "خير صغيرتي؟؟ ماذا يزعجك؟
    قالت بعد تردد:
    "ماذا قالت لك؟"
    نظرت إليها مستنتجا ما تعنيه. كانت الإشارة إلى أروى طبعا. الاهتمام كان جليا على وجهها.
    رددت عليها:
    "لاشيء"
    فسألت:
    لاشي؟
    فوضحت:
    "أعني أنني لم أتحدث معها بعد. حقيقة لم أجد الوقت لذلك. كنت نائما طوال الساعات.
    تلاشى جزء من توتر رغد وسكنت أصابعها ولكنها لم تزل مشغولة البال.
    قلت:
    "أهناك شيء تودين قوله لي يا رغد؟
    اضطربت وأجابت:
    " لا. لكن..."
    "لكن ماذا؟"
    "لاتتصغ لما تدعيه هي علي... إنها تكرهني".
    وقد قالتها بانفعال فقلت:
    "لا أحد يكرهك يا رغد.
    فردت بانفعال أكثر:
    "بل تكرهني.., وتعتبرني عالة عليك وعلى ثروتها.. وحتى على منزلنا".
    قلت نافيا:
    "غير صحيح يارغد... أروى ليست من هذا النوع".
    قالت بعصبيه:
    "قلت لك لا أريد سماع أسمها... لماذا تدافع عنها؟ ألم ترَ مافعلت بي؟؟ أنت لم تسمع ماقالته لي".
    أحسست بأن أي شراره قد تشعل حريقا فظيعا... فأردت تدارك الأمر وقلت:
    "لاتلقي بالا لشيء الآن. سنناقش المشكلة بعد خروجك سالمة إن شاءالله".
    هدأت رغد وقرأت الرضا والامتنان على قسمات وجهها,ألحقتهما بابتسامة بسيطة بكلمة:
    "شكرا على تفهمك".
    ابتسامتها السطحية هذه أدت مفعولها وأشعرتني بتيار من الراحة... أما جملتها التالية فأطلقت قلبي محلقا في السماء...
    "أنت طيب جدا... أثق بك كثيرا يا وليد".
    غمرتني نشوى دخيلةٌ على الظروف والحال اللذين نمر بهما ... وأطلقت زفرة ارتياح وسرور من أعماق صدري...
    وانقضت ساعات الزيارة وذهبت إلى المنزل مرتاح البال زمتهلل الوجه لحد ملحوظ...
    ثماصطحبت الخالة ليندا إلى المستشفى لتبقى مع رغد طوال الليل...


    عندما وصلنا إلى المستشفى, وبعد أن ركنت السيارة في أحد المواقف الخاصة,
    خاطبتني الخالة قائلة:
    " وليد يابني... عد إلى أروى وتحدث معها".
    كانت نبرتها مزيجا من الجدية والحزن... أيقضتني من نشوة السرور التي كنت أغط فيها...
    شعرت بالحرج وقلة الحيلة ولم أجرؤ على النظر إلى عينيها... الخلة تابعت:
    "إنها ليست على مايرام يابني...أنت منشغل هنا مع رغد وإصابتها... لكنأروى أيضا في حالة سيئة وبحاجة إليك باركك الله".
    بخجل رفعت بصري إليها وأطرقت برأسي مؤيداً...
    حين وصلت إلى البيت وقفت أمام غرفة أروى في حيرة... لم تكن لدي الأفكار الحاضره لطرحها في الحديث...وأحاديثنا في الأيام الأخيرة كانت مشحونة جدا...
    ومؤخرا تصرفت معها بخشونة بالغة...
    مددت يدي أخيرا وطرقت الباب...
    " هذا أنا... أيمكنني الدخول؟؟"
    فلم ترد. فقلت:
    "أروى... هل أنت نائمة؟؟"
    فلم ترد.
    كررت مناداتها إلى أن سمعتها تجيب أخيرا وبنبرة غاضبةٍ:
    "نعم؟ ماذا تريد".
    قلت:
    "ام لاتردين علي؟؟ أقلقتني عليك".
    فسمعتها ترد بأسلوب لم يعجبني:
    "أحقا؟؟ لاداع لأن تقلق بشأني. يكفيك ما أنت فيه ومن تقلق بشأنهم. لاتتعب نفسك".
    وقفت برهة حائرا ومنزعجا في مكاني.. فأنا لم أعتد الصدود من أروى بل رحابة الصدر وطول البال وحرارة الترحيب...
    ثم ناديتها مرتين وطلبت منها الإذن لي بالدخول لنتحدث... ولما تجلهلت نداءاتي تجرأت وفتحت الباب!
    دخلت الغرفة فرأيت أروى تهب واقفة مفاجأة من دخولي... ورأيت الاحمرار يطلي وجهها بسرعه... وأروى من النوع الذي يتغير لون وجهه بسرعه مع تغيرات انفعالاته...
    قلت وأنا أراها تضطرب وترتد خطوة للوراء:
    "أنا... أنا آسف ولكنني..."
    وتنحنحت لأزيل الحروف التي تعثرت في حنجرتي... ثم تابعت بصوت خافت
    وحنون:
    "قلق بشأنك".
    حل صمت عميق فيما بيننا فلا أنا قدرت على مواصلة الكلام ولا هي تكلمت لتشجعني... بل تراجعت خطوة أخرى للوراء وأدارت وجهها وأبعدت عينيها عني...
    هل سنقف هكذا طويلا!؟؟ يجب أن أفعل شيئا!
    تجرأت وخطوت بضع خطوات مترددة مقتربا من أروى... وهي لاتزال مديرة وجهها عني متحاشية النظر إلي...
    "أروى".
    ناديتها بصوت حنون...
    وإن لم تنظر إليّ أو لم ترد علي... فهي على الأقل تسمعني...
    قلت:
    "أروى... أنا آسف لما بدر مني... أعرف أنني... أنني كنت فظا.. لكن... اعذريني فأنا أمر بظروف تفقد المرء اتزانه".
    وأضفت:
    "والأجدر بك كزوجة مساندتي وليس مؤاخذتي..."
    هنا التفتت أروى إلي ورفعت بصرها نحوي... فقرأت في عينيها كلمات غاضبة...
    ثم علقت:
    "والأجدر بك كزوج... ملاطفتي وليس الصراخ في وجهي وسحق عظامي في الجدران".
    لم أعرف بم أعقب! صعقني تعقيب أروى وأشعرني بذنب مؤلم...
    أنا وأروى ومنذ ليلة شجارها مع رغد... على خلاف يتفاقم يوما بعد يوم... وأحدثت شجاراتها مع رغد بيننا فجوة كبيرة آخذة في الاتساع...

    أولتني أروى ظهرها مجددا لتبعد عينيها وتعبيرات وجهها عن مرآي. ومرت اللحظة خلف اللحظة ونحن واقفان على هذا الوضع...
    أردت أن أشعرها بندمي وبأنني راغب في أن نتفاهم ونتصالح...
    مددت يدي ووضعتها على كتفها برفق... ثم أدرتها لتواجهني... وعندما التقت نظراتنا شاهدت بريق الدموع في عينيها...
    "أروى..."
    قلت هامسا:
    "دعينا نتفاهم... أرجوك".
    رفعت أروى يدها ومسحت الدمعة العالقة في رموشها قبل أن تطل... وأظهرت تعبيرات التماسك وقالت أخيرا:
    "حسنا. عم تريدنا أن نتفاهم؟"
    قلت وأنا لا أزال واضعا يدي على كتفها:
    "عن كل شيء... والأهم عنك أنت".
    نظرت إلي وهي وتضيق فتحتي عينيها وتقول:
    "عني أنا؟"
    أجبت:
    "نعم. فأنا أود الاطمئنان عليك قبل كل شي الآن..."
    قالت:
    "وكيف تراني الآن؟؟"
    قلت مشجعا:
    "أراك بخير والحمدلله... ألست كذلك؟"
    أمالت أروى إحدى زاويتي فمها للأعلى وعقبت:
    "تلزمك نظارة".
    وهي إجابة لم أتوقعها من أروى... ولم أستسغها... ثم أبعدت يدي عن كتفها إشارة إلى أنها غاضبة مني...
    قلت محاولا استرضاءها:
    "أروى... أنا آسف... آسف لأنني قصرت معك وأسأت التصرف... أرجوك أن تعذريني... إنني لا أعرف ماحصل ولكنني مأخوذا بإصابة رغد البالغة ولم أستطع التفكير في شيء أخر معها... أردت أن أسألك لتتضح الأمور... ولكن... تعرفين... كنت مضطرا لملازمة رغد في المستشفى ولم تسنح الفرصة".
    قالت أروى وهي تعبر عن استيائها:
    "مضطر؟؟"
    قلت:
    "أعني... أنه لابد من ذلك... لم يمكنني تركها وحيدة آنذاك لأنها تفزع من الوحده والغربة... إنه فزع مرضي كما أعلمتك مسبقا..."
    قالت أروى بشيء من السخرية:
    "وما الذي جعلك تتركهاالآن؟ هل تخلصت من مرضها أم ماذا؟"
    لم أعقب على سؤالها, ثم قلت:
    "اندع رغد لما بعد ولنتحدث عنك أنت الآن".
    ولم أفهم سر التعبيرات التي طلعت على وجه أروى لحظتها...
    بعدها قالت:
    "بالنسبة لي أنا... فأنا أريد العودة إلى المزرعة".
    فوجئت من كلامها وارتسمت على وجهي تعبيرات عدم التصديق... فنحن في ظروف ليست بحاجة للشرح ولايمكن لفكرة السفر أن تبقى في رأس أي منا...
    قلت مستغربا:
    "المزرعة؟؟"
    فردت مؤكدة:
    "نعم المزرعة. أريد العودة إلى المزرعة... إلى خالي... وفي أقرب فرصة".
    أتعني ماتقول؟؟ ألا ترى وضعنا الحالي؟؟ أهي جادة في كلامها هذا؟؟
    قلت:
    "كيف يا أروى؟ عجبا! كيف تفكرين في هذا الآن؟؟ لانستطيع السفر وتدركين لماذا".
    قالت موضحة:
    "أما لم أقل نريد العودة... قلت أنني أنا أريد العودة... وإذا احتجتم لوالدتي فلا أظنها تمانع البقاء معكم... لكني أريد السفر وبسرعة... ولاتحاول ثنيي لأنني لن أغير موقفي".
    وكان على وجهها الحزم والجد... فأدركت مدى الإصرار الذي تحمله...
    رفعت يدي الاثنتين إلى كتفيها من جديد وقلت بصوت راجٍ:
    "لماذا ياأروى؟ ألا تقدرين مانحن فيه؟"
    أجابت بصوت غاضب, أفلت من مكابحه فجأة وفجر نافورة من الدماء في وجنتيها:
    "لماذا؟ أوتسألني لماذا؟؟ لأنني تعبت يا وليد... أكاد أنفجر... ألاتشعر بما أعانيه؟؟
    ألا تحس بي يا وليد؟؟ ألا تحس؟؟
    وقبل أن تتم جملتها كانت الدموع قد فارقت من عينيها... فرفعت كفيها وخبأت وجهها وبكت بصوت عال...
    كانت يداي لاتزالان قابعتين على كتفيها بحنان... ربما لتطبطبان على موضع القسوة التي عاملتها بها صباحا...
    بكت أروى بألم.. فرققت لحالها وقلت:
    "أرجوكِ... لاتبكي..."

    لكنها استمرت في إطلاقالزفرات الباكية الحارة...

    قلت بلطف:


    "اهدئي رجاءً..."

    أروى أزاحت كفيهاعن وجهها ونظرت إلي من بين الدموع...
    "ألا تحس بي يا وليد؟؟"
    أجبتبعطف:
    "من قال ذلك؟!"
    أروى عصرت عينيها من الدموع وهي تحرك رأسهها نفياوتقول:
    "لا... لا تحس بي! إنك لا تشعر بما أشعر به... ولا بما أعانيه".
    مدهشامن كلامها وقفت أحدق في عينيها وأصغي باهتمام...
    وإذا بها تمد إحدى يديها إلىإحدى ذراعيّ الممدودتين إلى كتفيها فتشد عليها وتقول:
    "وليد... وليد... أناأحبك".
    شعرت بشيء يقف في حلقي فجأة ويسد مجرى هوائي! فتوقفت عن الحركة وعنالتنفس...
    أما هي فتابعت:
    "أتدرك ذلك؟؟"
    ولما رأت سكوني هزت ذراعيوكررت:
    "أتدرك ذلك يا وليد؟ أتحس بي؟؟"
    أطلقت زفرة أخيرة مصحوبة بإجابةمتوترو:
    "آه... أجل... طبعا".
    قالت:
    "وأنت؟ هل تحبني؟"
    ازداد توتريواستغرابي... ازدردت ريقي ثم قلت:
    "ماذا دهاك يا أروى".
    قاطعتني سائلة وهيتضغط على ذراعي:
    "هل تحبني؟"
    قلت:
    "أروى!!؟"
    فضغطت أكثر على ذراعيوقالت:
    "أجب يا وليد..."
    احتقنت الدماء في وجهي واشتعل احمرارا... وخرجتأنفاسي حارة لفحة وجه أروى وأوشكت أن تحرقه...
    "بالطبع..."
    وكأن الإجابة قدفجرت بركانا مملوء بالحمم في عينيها... نظرت إلي نظرة تشكك... وحركت رأسها نفيا... ثم دفنت كل تلك الحرائق في صدري...
    "لماذا تفعل هذا بي يا وليد؟؟ أنا لاأتحمل... لا أتحمل... لا أتحمل".
    انهارت أروى باكية على صدري بعمق.. فما كان منيإلا أن أحطتها بذراعي بعطف... وطبطبت عليها...
    كنت أرغب في أن نتحدث معا ونستوضحالأمور... ونصلح الخصام القائم بيننا غير أن بكاءها وانهيارها بهذا الشكل جعلنيأرجىء بعيدا الأفكار المبعثرة التتي كنت أحاول تجميعها قبل دخوليالغرفة...
    تركتها تبكي على صدري وأخذت أمسح على شعرها الناعم... حتى هدأتقليلا...
    فقلت مشجعا:
    "يكفي يا أروى... أرجوكِ".
    وأمسكت برأسها وأبعدتهعني قليلا... حتى التقت نظراتنا... وكم كانت عميقة ومكتظة بالمعاني...
    همست بعطفوقلق:
    "ماذا حل بكِ... أروى؟"
    فردت للعجب ردا لايمت لسؤالي بصلة:
    "إنكحتى... لم تفكر في الاحتفاظ بصورة لي! أنا خطيبتك... وزوجتك شرعا".
    نظرت إليهاوالدهشة تملأ وجهي... وبدأ سباق نبضات قلبي وانتهى بتوقف مفاجىء.
    حين سمعت أروىتتابع قائلة:
    "لكنك تحتفظ بصورتها هي!"
    جفلت تيبست ذراعاي وتصلبت رجلاي... حملقت في أروى في عجز عن تحرير أنظاري من أسرها...
    وإذا بها تقول:
    "لايحتفظالرجل بصورة فتاة تحت وسادته... إلا إذا كان يحبها... لا يحتاج المرء لذكاء خارقحتى يستنتج هذا".
    هنا انكتمت أنفاسي كليا ووقف شعر جسدي مذهولا... حدقت عيناي فيعيني أروى واستقبل وجهي كلماتها القوية... كصفعة مباغتة اصطدمت به حتى تمحيملامحم...
    وبالتأكيد... فإن ملامح وجهي بالفععل قد اختفت... لأنني رأيت عينيأروى تدوران فيه... تفتشان عن شيء لم تعثر عليه...
    متسمرا في مكاني... وساكنا عنأي حركةٍ أو نفسٍ أو نبض, وقفت أما أروى أتلقى النظرات الثاقبة... ذات المعانيالمستهدفة...
    لما رأت أروى سكوني المهول... حركت يديها نحو كتفي وضغطت عليهما... وسألت:
    "هل تحبها؟"
    السؤال المفاجىء المهول... أجبر فمي على الانفغار... لكننفسا لم يخرج منه... ونفسا لم يدخل إليه...
    شعرت بيدي أروى تشدان أكثر علىكتفي... وكانت تركز في عيني كمسمار دق على بصري فثبته ومنعه منالهروب...
    كررت:
    "أنت تحبها... أليس كذلك؟؟"


    لم أتحرك!
    قالت ووجهها يشعاحمرارا:
    "أجب يا وليد؟؟"
    حاولت أن أبلع ريقي لكن الشلل أصاب حلقي... كما أنالجفاف الشديد صير لساني إلى قطعة خشب مهترئة عاجزة عنالحراك...
    "أجبني".
    ألحت أروى... وبصعوبة عصرت هذه الكلمات من لسانيعصرا:
    "بـــ... بالطبع... أليست ابنة عمي؟"
    أروى هزت رأسها استنكاراوقالت:
    "لا يا وليد! أنت تدرك ما أعني... أنت تحبها أكثر من ذلك... لا تحاول... إنك... أنت... آه".
    ولم تكمل أروى جملتها... بل سحبت يديها وأخفت وجهها بهماوابتعدت عني...
    وربماكان هذا أفضل مافعلته... لتطلق سراح عيني...
    ترنحت عينايفي اللاشيء... واللاهدف... وتأرجحت ذراعاي على جانبي كبندول الساعة... وتراقصتكلمات أروى الأخيرة بين طبلتي أذني حتى مزقتهما...
    العرق كان يتصبب من جسمي... والدماء تغلي في عروقي... وأشعر ببخار يخترق جلدي ويطير إلى السقف...
    لم أتوقعأن تأتي هذه اللحظة ذات يوم... ولم أفكر بها... وبقيت متجاهلا لاحتمالها وهاربامنه... حتى جاءت بغتة... فلم تجد لدي أي استعداد لاستقبالها...
    كانت لحظة منأصعب لحظات المواجهة... بيني وبين أروى... كان... موقفا لا أحسد عليه... ورغم أنهفاجأني لحد الذهول... لحد الذوبان والتيه واللاشي... لم تصدر عني أية ردة فعلتجاهه... كنت مشلولا تماما... وما كان أسرع ما استسلمت لحصوله... وانسقت لما فرضهعلي... فلا يوجد ما يمكنني أن أنفيه أو أدعيه أو أشكك فيه...
    عرفت يا أروى؟؟لابد أنك كنت ستعرفين ذات يوم...
    أنا... لاأستطيع بأي حال أن أفلح في إنكارحقيقة بهذا الحجم... بحجم السماء في سعتها... وبوضوح الشمس في سطوعها...وبعمق البحرفي جوفه...
    إنهها الحقيقة التي تحتل تسعاً وتسعين جزءا من المائة... من حياتيكلها... ولساني يبقى عاجزا تماما عن نفيها أو تحويرها... وأفكاري منقادة لأوامرالقلب الذي يستحيل عصيانه... وجنوني يدفعني لأن...أحتفظ بصورتها القديمة الممزقة كلتلك السنين... كل تلك السنين... مخبأة عندي... نعم... فهي فقط... كل ما أستطيعالاحتفاظ به... قريبا من قلبي... هي فقط... ما أستطيع أن أتحسسه بيدي... وأتأملهبعيني... وأضمه إلى صدري...
    وخلال التسع سنوات الماضية... لم تفارقني هذه الصورةالغالية... كنزي الثمين... ولا ليلة واحدة...
    بعد مرور بضع دقائق أو شهور أو حتىسنين... أصابني الإعياء فسرت حتى جلست على طرف السرير... التقطت أنفاسي كعجوزطاعن... أتعبه الوقوف على رجليه لبعض الوقت...
    وبقيت على صمتي لدهر...
    كنتأسمع صوت بكاء أروى ولا أرفع نظري إليها... حتى إذا ما توقفت, تسللت عيناي إليهابحذر...
    كانت مولية ظهرها إلي ولكنها استدارت بعد قليل ولما التقت نظراتنا أسرعتبالانسحاب عن عينيها...
    سمعتها بعد ذلك تقول:
    "أريد أن ترتب أمر سفري بأسرعما يمكن..."
    وخرجت الجملة متحشرجة هزيلة... وجهة إليها بصري من جديد فوجدتالدموع وقد جفت عن عينيها والجفون قد تورمتوالخدين قد توهجا من أثرالملوحة...
    قالتها وانتظرت ردت فعلي...
    ولأنني ساعتها لم أكن بقادر على الردفقد اكتفيت بالتنهد وإمالة رأسي نحو الأرض... وحينما رفعته مجددا رأيتها تخرج منالغرفة وتتجه إلى الحمام... حاولت أن أناديها لكن الضعف الذي ألم بي حال دونحراكي...
    انتظرتها حتى تعود... وأنا ألملم بعض أشلاء شجاعتي... وأعيد ترتيبكلماتي...
    لكن الانتظار طال ولم تعد...
    قمت وتوجهت نحو الحمام وطرقتالباب:
    "أروى ألن تخرجي الآن؟"
    أجابت:
    "كلا... لاتنتظرني".
    وأدركت أنهالا تريد مواصلة الحديث... فما كان مني إلا أن انسحبت.
    وفي غرفتي أعدت حوارناالقصير... وتقليب الجمل التي قالتها أروى في رأسي مرارا... فيما كانت الصورةالممزقة تعبث بأصابعي...
    ( لا يحتفظ الرجل بصورة فتاة تحت وسادته... إلا إذا كانيحبها).
    آه ياصغيرتي الممزقة...
    ألم تكوني نائمة بأمان في محفظتي؟؟ لماذاأخرجتك تلك الليلة!؟ لماذا تخليت عن حذري هكذا؟؟
    لقد... كنت دائما لي وحدي ولايراك إلا عيناي... لماذا ظهرت لها وكشفت السر الدفين... وفي هذا الوقتبالذات؟؟
    وتذكرت... أنه في منزلنا المحروق... في غرفة سامر... في إحدىالمرات...
    تركت صورة رغد الممزقة قرب وسادتي ونمت... ثم جاءت والدتي رحمها اللهتوقظني لتأدية الصلاة... ورأتها...
    ظننت حينها... أن الموقف إنتهى في ساعته... ولو تعلمون... إلى أي مدى امتد... وماذا فعل...
    طافت على مسمعي... ذكرياتالكلمات الغامضة التي قالتها لي والدتي في لقائي الأخير لها قبل سفرها مع أبي إلىبيت الله... إلى حيث لارجعة عندما كانت توصيني برغد...
    (" انتبه لرغد جيدايابني".
    " بالطبع أمي!")
    أمي بدا المزيد من القلق جليا على وجههاوقالت:
    ("كنا سنؤجل حجنا للعام التالي لكن... كتبه الله لنا هذا العام... هكذاقضت الظروف يابني")
    وهذا زادني حيرة!
    قالت("لو أن الظروف سارت على غير ذلك... لكانت الأوضاع مختلفة الآن... لكنه قضاء الله يا ولدي... سأدعوه في بيته العظيم بأنيعوضك خيرا مما فاتك... فلنحمده على ما قسم وأعطى")
    وقلت("الـــ... حمدلله علىكل شيء... أمي أنت تلمحين لشيء معين؟؟")
    فقالت:
    ("لم تتغير هي عما تركتهاعليه قبل سنين... كما لم تتغير أنت...")
    ثم أضافت:
    ("إلا أن الظروف هي التيتغيرت... وأصبح لكل منكما طريقه...").
    وقد توهج وجهي منفعلا مع كلمات أميوالحقيقة الصارخة أمامي أنذاك...
    ولم أستطع النبس ببنت شفة أمام نظراتها التيكشفت بواطن نفسي...
    قالت:
    ("اعنت بها كما يعتن أي شقيق بشقيقته... كما تعتنيبدانة, وادع معي الله أن يسعدهم هم الثلاثة, وأنت معهم").
    آه يا أماه... إنكلاتعلمين ماحصل بعد رحيلك... لو تعلمين...!

    في صباح اليوم التالي وفبل ذهابيإلى المستشفى التقيت بأروى صدفة في المطبخ...
    كانت هادئة جدا... وتحضر بعضالطعام... وكانت بعض الأطباق موضوعة على المائدة... ورائحة الخبز المحمص والقهوةتملآن المكان...
    وقفت أراقب أروى خلسة عند الباب... وأنا حائر... أأدخل... أمأنصرف...؟؟
    هل سيزعجها مروري أم سترحب بي؟؟
    بأي وجه أقابلها وأي كلامسأقول...؟ وأي موقف ستتخذ مني؟؟
    وفيما أنا في حيرتي لمحتني أروى فجأة فارتاعتوأوقعت ما كان في يدها...
    باشرت بالدخول وسرت نحوها والتقطت معها حبات الزيتونالمبعثرة على الأرض وأنا أقول:
    "أنا آسف... هل أفزعتك؟"
    وهيترد:
    "فاجأتني".
    وبعد فراغنا من جمع الحبات التهمت إحداها...
    "طيبةالمذاق".
    قلت معلقا... متحاشيا إطالة النظر في عينيها قدر الإمكان... ومحاولاخلق جو جديد يمحو آثار جو البارحة الممطر... أو يلطفه...
    قالت وهي تشير إلىطاولةالطعام, والتي وضعت عليها صحن الزيتون وبعض أطباق الفطورالأخرى:
    "تفضل".
    بدا الطعام شهيا... وذا رائحة طيبة... تسيل اللعاب... وارتحتلتجاوبها مع الجو الجديد... وقد أتناول شيئا من الفطور معها لإخماد الحريق... ولومؤقتا...
    نظرت بشكل عفوي إلى ساعة يدي... لمعرفة الوقت تحديدا فما كان من أروىإلا أن علقت بطريقة فاجأتني:
    "أم أن المدللة الحبيبة تنتظرك؟"
    اصطدمت نظراتناوتعاركت معا... ثم عادت نظراتي تجر أذيال الهزيمة إلى...
    إذن... النار مضرمةومستمرة ولاسبيل لإطفائها بوجبة فطور...
    ومع رد أروى الحاد لم أجرؤ على قول أكثرمن:
    "إلى اللقاء".
    وسرت خارجا يلحقني صوتها وهي تقول:
    "لاتنس موضوع السفر".

    ***
    ***
    أخبرتني مرح أنها ستأتي مع والدها لزيارتي عصر هذااليوم.
    مرح هي صديقتي وزميلتي في الجامعة, وهي ابنة السيد أسامة المنذر... مساعدوليد الأول في العمل... وشقيق المحامي يونس المنذر الرجل الذي أتى إلى مزرعةالشقراء يخبرها عن إرث عمها قبل شهور... والذي يعمل كذلك مع وليد...
    ومرح رسامةبارعة... وهي شقيقة وتلميذة لأحد الفنانين الأساتذة المعروفين والذائعي الصيت علىمستوى البلد...
    كنت بطبيعة الحال لا أزال محبوسة على السرير الأبيض منذ يومين, معتمدة على الممرضات والسيدة ليندا في كل شيء.
    كانت أعصابي منهارة تماما فياليومين السابقين... ولكنني اليوم أفضل بكثير والحمدلله.
    إنها فترة الزيارة... وليد يقضيها كلها إلى جانبي... بينما تعود السيدة ليندا فيها إلى البيت...
    وليدذهب إلى عمله هذا الصباح وأتى إلي مباشرة بعد العمل... وها هو يجلس بقربي ويطالعإحدى الجرائد وعلى وجهه اهتمام ملحوظ...
    يبدو أنه يقرأ أخبارا مزعجة,وأظنها عنالحرب... فهو مهووس بمتابعة تطوراتها وما يحدث في البلد أولا بأول...
    علىالمنضدة المجاورة كان وليد قد وضع باقة رائعة من الورود الخلابة التي تبهجالنفوس...
    وعلبة كبيرة من الشوكولا الفاخرة التي وزع شيئا من محتواها علىالأطباء والممرضات الذين يرعونني...
    وألاحظ أن الرعاية في هذه المستشفى دقيقةجدا! الأطباء والممرضات يأتون لتفقدي بتكرار... حتى في أوقات الزيارة!
    ها هووليد يتثاءب من جديد! بين الفنية وأختها أراه يتثاءب أو يفرك عينيه... لاشك أنه لمينم جيدا... وربما هو متعب ويريد أن يقيل... لكنه لم يعد للبيت بل أتى ليبقى معي... هذا يشعرني بالذنب!
    إنه حنون جدا... أغدق علي عطفه وعاملني بمنتهى اللطفوالاهتمام ورحابة الصدر في أزمتي هذه... حتى أنه... يساعدني في تناولالطعام!
    بين لحظة وأخرى... أجر نظراتي وأحبسها بعيدا عنه, فتغافلني وتسلل خلسةإليه... مخترقة أسوار اللياقة والخجل!
    إنهيتدي زي العمل... بذلة زرقاء اللون... أنيقة جدا... أراها للمرة الأولى... وقد صفف شعره بمستحضر يظهر الشعر وكأنه مبللوتدلت خصلة طويلة لحد ما على جبينه العريض... فوق أنفه المعقوف مباشرة!
    أرجو أنيكون منهمكا في القراءة وألا يلاحظ نظراتي الحمقاء!
    طرق الباب...
    "
    لا بد أنهامرح".
    قلت وأنا أنظر إلى الباب ثم إلى وليد, فوضع وليد الصحيفة جانبا وقام إلىالباب وفتحه وخرج...
    وسمعت صوت رجل يحييه... ثم رأيت صديقتي مرح تطل من الباب, وتحمل باقة مذهلة من الزهور البديعة...
    أخذتني بالأحضان وأمطرتني بالقبل وكلماتالمواساة والتشجيع... ولا أخفي عليكم أنها رفعت من معنوياتي بقر كبير...
    وبدأتبعد ذلك تتحدث وبشكل مستمر...
    نسيت أن أخبركم أن مرح ثرثارة ومرحة جداكاسمها...
    حلوة المعشر وطيبة القلب... تحبالحياة وتنفق على متعتها بسخاء! إنهاموهوبة في الرسم مثلي وأخوتها الرسامون يقيمون معارض فنية دورية... وقد أخبرتني بأنمعرضهم التالي عما قريب وأنها ستشارك فيه ودعتني أيضا للمشاركة...
    الفكرةأبهرتني...! مرح فتاة رائعة... وأفكارها رائعة أيضا...
    وجود مرح معي في الجامعةفي الواقع أبهج حياتي كثيرا... وساعدني على تطوير علاقاتي بالزميلات... وزيارتهاهذه لي فجرت ينبوعا من الأمل والتفاؤل في صدري وأزاحت جزءا كثيرا من حزني وكآبتي... الحمدلله
    فيما نحن نتجاذب أطراف الحديث حول المعرض الفني المرتقب طرق الباب ثمفتح ببطء وسمعت صوت وليد يتنحنح مستأذنا الدخول...
    قلت:
    "
    تفضل وليد".
    ولماأذنت له بالدخول دخل وقال:
    "
    المعذره... سآخذ هذه".
    وتوجه نحو الصحيفة التيكان يطالعها قبل قليل فأخذها ثم قال موجها الكلام إلي وعيناه مركزتان علىالصحيفة:
    "
    أبو عارف يبلغك السلام ويحمد الله على سلامتك يارغد".
    قلت:
    "
    سلمه الله. اشكره نيابة عني".
    وهم وليد بالمغادرهفقلت:
    "
    وعلى الورد كذلك وليد"
    قال:
    "
    بالطبع".
    ثم غادر...
    كنت لاأزال أنظر إلى الباب حين سمعت مرح تقول:
    "
    أوه! أهذا السيد وليدشاكر؟؟!!"
    تعجبت والتفت إليها فوجدت الدهشه تعلو وجهها فسألتمستغربة:
    "
    نعم,ولكن كيف تعرفينه؟"
    ابتسمت مرح وقالت وهي لاتزال ترفع حاجبيهامن الدهشة:
    "
    الجميع يتحدث عنه! والدي وعمي وأخوتي! كلهم يتحدثون عنه! هذا هوإذن!!"
    سألتها متعجبة:
    "
    يتحدثون عنه؟"
    ردت:
    "
    نعم! كمدير لمصنع البناء! السيد وليد شاكر قال, والسيد وليد شاكر فعل, والسيد وليد شاكر ذهب, والسيد وليدشاكر عاد!! هذا هو السيد وليد شاكر!!"
    وكان التعجب طاغ على تعبيراتوجهها!
    قلت:
    "
    ولم أنت مستغربه هكذا؟؟"
    مرح أطلقت ضحكة خفيفةوقالت:
    "
    لم أتوقعه أبدا شابا صغيرا! أوه إنه في مقتبل العمر ! أهلي دائما يصفونهبالسيد النبيل! يقولون أنه ذكي وجدي ومهذب, ومهاب... ولايضحك أبدا! تخيلته رجلاصارما منغلقا في منتصف العمر أو حتى بعمر والدي!"
    ثم أشارت إلي وأضافت:
    "
    وأنتأخبرتني أنه أبوك بالوصاية! حسبته أكبر بكثير !"
    قلت وأنا ابتسم عفويا:
    "
    إنهيكبرني بنحو 10 سنين فقط!"
    قالت والضحك يمتزج بكلامها:
    "
    وكيف تنادينه فيالبيت؟ أبي؟؟ أو ابن عمي؟ أو السيد وليد شاكر؟؟"
    ضحكت بخفة لتعليق مرح... وعلقت:
    "
    وليد فقط! كما اعتدت أن أناديهمنذ الطفولة... لقد ربيت معه في بيتواحد... بعد فقد والدي... وكثيرا ما كنا نلعب سويا... وقد كنت أعتبره مثل أمي وأناصغيره! والآن صار مثل أبي!"
    ويا للأيام...!
    سرحت برهة لألقي نظرة استرجاعيةعلى الماضي البعيد... حيث ككنت طفلة صغيرة غضة... عَنى لها وليد الدنيابأسرها!
    وحقيقة لا يزال!
    انتبهت على صوت مرح تتابع حديثها وقد لمعت نظرةماكرة في عينيها:
    "
    أب شاب... ثري وقوي وذكي... ومهذب... و..."
    وهنا طرقالبااب ثانية... وسمعت وليد ينادي باسمي فأذنت له بالدخول...
    "
    أرجو المعذرة... الحلوى للزوار".
    قال وهو يسير نحو المنضدة المجاور لسريري حيث علبةالشوكولا...
    قلت:
    "
    ولصديقتي أيضا من فضلك".
    إذ إنه يشق علي تحريكها منموضعي, خصوصا مع إصابة يمناي.
    فحمل وليد العلبة واقترب منا ومدها إلىمرح:
    "
    تفضلي أنستي".
    مرح أخذت تقلب عينيهابين أنواع الشوكولا في حيرة أيهاتختار! وأخيرا اختارت
    إحدى القطع وهي تقول:
    "
    شكرا... سننتظر حلوى خروجك منالمستشفى بالسلامة يا رغد".
    ابتسمت, أما وليد فعقب:
    "
    قريبا عاجلا بحولالله... الحلوى والعشاء أيضا".
    واستأذن وانصرف حاملا العلبة إلى والدمرح...
    هذه المرة كانت أعيننا نحن الاثنتان تنظر إلى الباب, ثم إلى بعضها البعضفي الوقت ذاته.
    ثم إذا بي اسمع مرح تقول:
    "
    إنه عطر (عمق المحيط) الرجالي!"
    نظرت إليها باستغراب وقلت:
    "
    عفوا!؟"
    ابتسمت وقالت:
    "
    أهديتزجاجة مماثلة لشقيقي عارف قبل أيام! شذى قوي وراق... وباهظ الثمن!"
    يا لـهذهالــــ مرح!
    عقدت حاجبي وضيقت عيني ونظرت إليها باستنكار... ثم قلت:
    "
    ماذاكنا نقول؟"
    قبل أن يقطع حديثنا وليد.
    أجابت مرح:
    "
    شاب... ثري... وقوي... وذكي... وراق..."
    وتوقفت برهة ثم برقت عيناها وأضافت:
    "
    وجذاب!"
    أوه ياإلهي!
    وقبل أن أنطق بأي تعليق طرق الباب مجددا والتفت رأسانا بسرعة نحوه... لكنالطارق هذه المرة كان السية أم فادي... زوجة السيد سيف صديق وليدالمقرب...

    ~~~~~~~~~~~~~~~
    تتمه

    عد أن رحل الزوار عدت إلى غرفة رغد فوجدتها بوجه مبتسم...
    تهللت أسارير وجهي... لا بد أن زيارة صديقتها والسيدة أم فادي لها قد رفعت معنوياتها... ورغم أنهما لم تبقيا غير دقائق, إلا أنها كانت كافية لتشجيع رغد وتحسين مزاجها...
    ولاحظت بعد ذلك أنها أيضا تناولت وجبة العشاء بشهية جيدة...
    الحمدلله
    كان الطبيب قد أخبرني بأنه باستطاعت رغد مغادرت المستشفى بعد بضعة أيام, كي تشعر بارتياح أكثر في بيتها وبين أهلها ويزول عنها الإحباط... ولعلمي بأنه لا أهل لها ولا عائلة تنتظرها... غير أروى التي لاتطيقها رغد...
    طلبت منه إبقاءها في المستشفى لفترة أطول ريثما تسترد عافيتها وأتدبر أمرها مع أروى بشكل أو بأخر...
    وبعد العشاء شكرتني رغد على المساعدة وابتسمت ابتسامت خجلة...
    إنها ليست ابتسامة عادية... وتوقيتها غريب جدا...
    فما معناها يا ترى؟؟!
    تأملتها منتظرا التفسير... ثم سمعتها تسألني:
    "وليد... هل تعرف ماذا يقول عنك آل منذر؟"
    السؤال كان غريبا! لكن الأغرب هي هذه الابتسامة الحمراء المتفتحة على وجهها...
    كأنها وردة بين الثلوج...
    ولكن ما بال آل منذر هم الآخرين؟؟
    قلت:
    "ماذا؟"
    رغد بعثرت نظرها عني وأجابت:
    ""أنك... المدير الجدي... الذي لا يضحك أبدا!"
    ارتفع حاجباي تعجبا وقلت:
    "أنا؟"
    "نعم".
    قلت مستغربا:
    "من يقول ذلك؟"
    رغد وهي لاتزال مبتسمة أجابت:
    "جميعهم... ربما يهابونك! إنهم يعتقدون بإنك صارم جدا ولا تعرف المزاح ولا الضحك..."
    وحدقت بي في ابتسام...
    عفويا ضحكت ضحكة خفيفة وقلت:
    "وهل تصدقين؟؟"
    رغد ألقت علي نظرة متأملة وخجلة ثم قالت:
    "لايبدو!"
    الذي يبدو هو أن صديقة رغد قد نقلت إليها انطباع والدها وشقيقها وعمها عني.
    لدي ثلاثة موظفين من آل منذر يعملون معي...يونس وأسامة وابنه زياد...
    صحيح أنني جاد ودقيق في العمل, ولكنني لست ثقيل الظل... هل أنا كذلك؟؟
    رغد نقلت نظرها إلى الورود التي إلى جوارها وتابعت:
    "عندما يعرفونك عن قرب...سيكتشفون كم أنت طيب... وحنون".
    لحظتها... شعرت بروحي تحلق في السماء...
    تأملت رغد فوجدتها تحدق في الورود وهي شبه مبتسمة...
    آه يا رغد...
    هل احتجت لكل ذلك الزمن... لتصفينني ولو بكلمة واحدة تشعرنني بأنني...
    شيء في حياتك يستحق الوصف؟؟
    وليلتها تجاذبنا أطراف حديث ممتع... أخبرتني رغد فيه عن معرض فني للرسامين
    سيقام قريب وأن صديقتها وشقيقها الفنان عارف سيشاركان فيه...
    وأنها تتمنى لو تعرض إحدى لوحاتها فيه أيضا...
    قالت ذلك ثم نظرت إلى يدها المجبرة وعلاها بعض الحزن الذي سرعان ما تبدد حين قلت مشجعا:
    "سنرى ما يمكن فعله".
    ابتسمت رغد ابتسامة رضا وامتنان...
    وفارقتها تلك الليلة والبسمة ملتصقة بوجهها...
    ذهبت إلى البيت ليلا... وكان أمامي فتاة أخرى أنتظر أن تلتصق ابتسامة ما بوجهها هي الأخرى!
    بعد أن أوصلت الخالة إلى المستشفى دخلت إلى مكتبي, فإذا بأروى توافيني بعد دقيقة...
    كان جليا على وجهها أنها ترغب في الحديث معي... طلبت منها أن تجلس...
    وجلست على المقعد المجاور لها... انتظرت حديثها... ومرت بضع ثوان وبعض التردد مسيطر عليها ثم نطقت أخيرا:
    "هل اشتريت التذاكر؟"
    تنهدت باستياء... فقد كانت فكرة السفر هي آخر ما أنتظر الحديث عنه...
    ونحن في مثل هذه الظروف... ثم قلت:
    "ليس بعد".
    فقالت أروى متشككة:
    "لكنك لم تنس أمرها أليس كذلك؟"
    نظرت إلي نظرة مركزة فأجبتها:
    "لا لم أنس... ولكن... دعي رغد تخرج من المستشفى أولا على الأقل".
    ومررت أصابعي في شعري وزفرت بضيق...
    إشارة مني إلى أنه ليس بالوقت المناسب لحديث كهذا...
    راقبتني أروى قليلا وربما لم تفهم إشارتي وسألتني:
    "تبدو قلقا جدا... هل ابنة عمك بخير؟"
    انقبضت عضلات فكي لدى سماع سؤالها ثم أرخيتها وأجبت:
    "نعم".
    فإذا بأروى تقول مدافعة:
    "وليد... اسمعني... أنا لم أدفع بها من أعلى السلم".
    حدقت بها مستغربا... ثم أطلقت بصري للفراغ وقلت:
    "أعرف".
    فصمتت أروى ثم قالت:
    "كنت أظن أنك فهمت شيئا خطأ... ماحصل هو أننا تشاجرنا وانثنينا لالتقاط شيء من على العتبات فانزلقت قدم رغد وأمسكت بي فوقعنا سوية".
    أثارت جملتها اهتمامي... فأنا حتى الآن لا أعرف تفاصيل ما حصل وتحاشيت سؤال رغد ومن سؤال أروى...
    التفت إليها وقلت باهتمام:
    "ولأجل ماذا تشاجرتما؟؟"
    التزمت أروى جانب الصمت ثم سألتني:
    "ألم تخبرك؟"
    أجبت:
    "لم أسألها... ولن أفعل على الأقل في الوقت الراهن...
    لا أريد أن تنفعل بشكل أو بآخر... أريد أن تتحسن نفسيتها قبل أي شيء... لكن أخبريني أنتِ؟"
    ترددت أروى ثم عقدت العزم وقالت:
    "إنه هاتفك".
    استغربت:
    "عفواً؟؟!"
    فتابعت أروى:
    "أنت نسيته في مكتبك... وكان يرن... وأرادت هي حمله إليك فطلبت منها إعطائي إياه فرفضت وأصرت على حمله إليك بنفسها...
    كنا على الدرج... وحينما حاولت أخذه منها وقع على العتبات..."
    وتوقفت. صمت لحظة أستوعب فيها ما قيل... ثم سألت:
    "ثم ماذا؟؟"
    فتابعت:
    "أردنا إلتقاطه فوقعنا..."
    قلت:
    "أهذا كل شيء!؟"
    غير مصدق... أن يكون سبب حادث فظيع ومؤلم هو شيء بهذه التفاهة...
    ولما رأيت أروى تومىء برأسها (نعم) تملكني الغضب...
    قلت تلقائيا:
    "هكذا إذن... أردت نزع الهاتف من يدها فكسرتها".
    اندهشت أروى من تعقيبي وقالت:
    "قلت لك إنه وقع للأسفل وأردنا التقاطه".
    وقفت مستاءً وقلت:
    " أنا لم أنسه في المكتب أصلاً... بل أنا من أعطاها إياه تلك الليلة ولم يكن هناك داعٍ لأن تتدخلي لاستعادته".
    عبس وجه أروى وقالت مستنكرة:
    "وليد! لقد كنتَ نائما في غرفتك... أردت إعادته إليك ليوقظك وقت الصلاة كالمعتاد... وهي أرادت أن تفعل هذا بنفسها".
    قلت بشيء من العصبية:
    "ولماذا اعترضتها؟؟ أمن أجل شيء بهذه التفاهة تتسببان بحادث بهذا الحجم؟؟
    لقد تكسرت عظامها وها هي طريحة الفراش كالمعاقة... كنت أعتقد أن شجاركما قام على أمر شأنا...
    تقولين من أجل هاتف؟؟! ألا تخفين عني شيئا أكبر يا أروى؟؟"
    هنا وقفت أروى بانفعال وهتفت بغضب:
    ليس من أجل الهاتف... وأنا ليس لدي ما أخفيه عنك, مثلما تفعل أنت...
    ولا أسمح بأن تتجاوز هي حدودها... كيف كنت تتوقع مني أن أتصرف؟؟ أأتركها تذهب إليك وأنا واقفة أتفرج؟؟
    هل نسيت إنني أنا زوجتك وأقرب الناس إليك وليست هي".
    اندهشت... فتحت فمي لأنطق مستنكرا:
    "أروى"
    غير أنها لم تدعني أتم جملتي بل قاطعتني مباشرة وبانفعال:
    "ماذا يا وليد؟ ماذا؟؟ ما الذي ستجرؤ على قوله الآن؟؟ إنني أنا زوجتك لا هي...
    وأنا من يحق لها الاقتراب منك ومن خصوصياتك... لا هي...
    أنا من يجب أن تضعها في اعتبارك الأول... ومن يجب أن تصرف عليها عواطفك وحبك... لا هي
    وليد... إنني لا أحظى بعلاقة أكثر دفئا وعاطفة منها... وطوال تلك الشهور وأنا أفسر مواقفك بأنها من باب المسؤولية والأمانة...
    وأتقبلها وبسعة صدر بل وبإعجاب... والآن... أكتشف أن الحقيقة قد تخطت ذلك...
    إنك تحبها هي... ألست كذلك يا وليد؟؟"
    حملقت في أروى في دهشة من كلامها... وعجز عن الرد...
    وإذا بها تهتف في وجهي مستمرة بانفعال:
    "لماذا لا ترد؟ أي حقائق تخفي عني بعد يا وليد؟؟ ماذا سأكتشف عنك أيضا؟؟
    لماذا أتيت إلى مزرعتي أصلا؟؟ لماذا ظرت في حياتي؟؟ لماذا تزوجتني؟؟"
    صعقني كلام أروى فانفضت يداي ثم إذا بهما تطبقان على ذراعيها وإذا بي أهتف بعصبية:
    "أروى... هل فقدت صوابك؟؟"
    أروى دفعت بيدي بعيدا عنها وهي تقول:
    "اتركني... لماذا تزوجتني إن كنت تحبها هي؟؟ ماذا تخفي عني بعد؟؟
    ما الذي تخططان له من خلفي؟؟...
    ماذا... ماذا كنتما تفعلان عند النافذة؟؟قل".
    قلت مستاءً:
    "أي نافذة وأي هذيان؟؟"
    قالت مندفعة وهي تشير بيدها إلى نافذة الغرفة:
    "هنا... ضحكاتك كانت تحترق الأبواب... وأراكما واقفين جنبا إلى جنب عند النافذة والأضواء مطفأة...
    هل كنتما تتبادلان كلمات الحب وتضحكان علي؟؟"
    وفهمت أنها تعني يوم الجمعة الماضي... عندما وقفت رغد تستمع للأذان عند النافذة في غرفة مكتبي وقدمت إلى جوارها...
    لم أتحمل جنونها الفظيع هذا... فقبضت على يدها بشدة وهتفت في وجهها:
    "حسبك... تماديت يا أروى؟؟ هل جننت؟؟"
    فصرخت:
    "وكيف تريد مني ألا أجن وأنا أكتشف أن زوجي خائن...؟؟
    يظهر النبالة والشهامة مع ابنة عمه بينما في الخفاء يتبادلان الحب والصور ويستغفلاني؟؟"
    هنا فقدت السيطرة على أعصابي وضغطت على يدها بقوة أوشكت معها على عصرها في قبضتي...
    وصرخت وأنا أعض على أسناني:
    " إياك... إياك أن تكرري الكلمة ثانية... أتسمعين؟؟
    وإياك... ثم إياك... أن تقحمي رغد في هذا... لا علاقة لها بشي... فهمت؟؟
    ولا أسمح بأن تتحدثي عنها هكذا... ولا تجعلي أفكاركِ تقودكِ إلى الجحيم..."
    وتابعت:
    "أكون خائنا لو كنت عرفتها بعد زواجي منك... لكن... لكن حبهها نشأ في صدري منذ طفولتي... ولا أسمح... بأن تصفيه بالخيانة...
    إنه أكبر من أن... تفهميه... أو يفهمه أي أحد... وسواءً عرفت أو لم تعرفي...
    وأعجبك أو لم يعجبك... فإن شيئا لن يتغير... وما في قلبي سأحمله إلى قبري...
    وأنا أتحمل أي شيء في هذه الدنيا... أي شيء... إلا أن يصيب صغيرتي الأذى أو الإساءة...
    بأي شكل... ومن أي شخص... مهما كان... أعرفت هذا الآن؟؟"
    وأطلقت سراح يدها وابتعدت عنها وسددت ركلة عشوائية إلى المقعد...
    أروى بقيت تنظر إلي برهة... ثم تصم أذنيها وكأنها تريد أن تحول دون تكرر
    صدى كلامي بينهما...
    ثم إذا بها تهتف:
    "كيف... أمكنك... فعل هذا بي!؟"
    ثم تهرول بسرعة خارجة من الغرفة...
    بقيت واقفا على النار وجبت في الغرقة بضع خطوات عشوائية حتى استقررت أخيرا
    على مقعدي خلف المكتب...
    ركزت مرفقي على طاولة المكتب وأسندت رأسي على كفي بمرارة...
    ما الذي فعلته؟؟
    ما الذي قلته؟؟
    ما الذي أصابك يا وليد؟؟ وما الذي ينتظرك؟؟
    درت في دوامة الأفكار حتى داهمني الدوار والغثيان وشعرت بألم حاد في معدتي...
    رفعت رأسي عن كفي وهممت بالتفتيش عن أقراص المعدة التي أتناولها عند الحاجة والتي أضع بعضها في أدراج مكتبي...
    لفت انتباهي وجود مجموعة من الأوراق على المكتب, يعلوها قلم رصاص...
    تركت يدي الدرج واتجهت إلى الأوراق عفويا... أزحت القلم ورأيت الورقة الأولى بيضاء خالية إلا من تجعيد خفيف...
    تصفحت ما يليها... ودهشت لما رأيت...!!
    أتعرفون ماذا رأيت؟؟
    شيئا سيدهشكم مثلي ويلقي بكم في بئر الحيرة...
    على تلك الأوراق كانت هناك صور مرسومة بقلم الرصاص...
    لوجه شخص مألوف جدا... كان ينظر إلى إحدى النواحي وقد على وجهه تعبير القلق...
    ملامحه كانت مرسومة بدقة عجيبة وكأنها خرجت من أصل الواقع مباشرة... وأكثر ما يثير الدهشة...
    هو وجود انكسار بسيط على أنفه الطويل... مشابه تماما للانكسار الذي يعلو أنفي أنا!

    قلبت الورقة بعد الأخرى... والدماء تتصاعد إلى وجهي... والدهشة تملأ عيني...
    كان وجهي أنا... مرسوما على أكثر من ورقة... رسما هيكليا بسيطا وغير مكتمل... بقلم الرصاص...
    هذه رسمات رغد...
    تذكرت... إنني في ليلة الحادث, كنت قد تركتها في مكتبي مع هاتفي... لتنقل الصور التي التقطناها في النزهة إلى الحاسوب...
    الصور... الهاتف... الحاسوب...!
    أخذت أفتش في هاتفي وحاسوبي عن تلك الصور... لم أعثر عليها في الهاتف...
    لكنني وجدتها في الحاسوب...
    أتدرون ماذا وجدت بين الصور؟؟
    صورة لي!
    صورة وأنا أنظر إلى البحر... وعلى وجهي أمارات القلق...
    مطابقا تماما لتلك التي وجدتها مرسومة على الورق...
    رغد...
    رغد...
    آه... يا حبيبتي...





    ********************

    اليوم سأجرب السير على عكازي...
    الطبيب والنعالجة الطبيعية والممرضة والسيدة ليندا جميعهم يقفون إلى جانبي وأنا أحاول النهوض مستندة على العكاز...
    أخصائية العلاج الطبيعي أجرت لرجلي تمارين تحريك بسيطة قبل قليل, وشرحت لي وللسيدة لينداكيفيتها... كانت سهلة ولكنها هيجت بعض الألم في قدمي ولذلك أنا متخوفة من استخدام العكاز...
    الطبيب كان يكرر عبارات التشجيع... ويطمئنني بأن رجلي بخير...
    لكنني قلقة وخاشية أن أصيب رجلي بالعرج... وأنتهي عرجاء... تثير شفقة الآخرين...
    ولأن إصابتي شملت يدي اليمنى أيضا فإن استخدام العكاز لم يكن بالأمر السهل...
    ولاقيت صعوبة في تثبيته والارتكاز عليه...
    المحاولات الأولى لم تككن ناجحة ولم تثر في نفسي إلا القلق والكآبة...
    وفيما أنا أخطو خطواتي البطيئة الثقيلة تعثرت بعباءتي وكدت أنزلق لولا أن تداركتني أيدي من حولي.
    "لا أريد أن أستخدم هذا".
    قلت بذلك بغيظ مشيرة إلى العكاز... شاعرة بنفور منه ورفض كلي لاستخدامه...
    اخصائية العلاج الطبيعي حاولت تشجيعي وحثي على إعادة المحاولة...
    كانوا جميعا مسترسلين في تحريضهم لي على السير وتصوير الأمر بالمهمة السهلة فيما هي شاقة بدنيا ونفسيا...
    "لا أستطيع".
    صرحت... فعقبوا جميعا:
    "بلى تستطيعين... هيا حاولي مجددا... ستنجحين هذه المرة".
    أخيرا وافقت كارهة على المحاولة وسرت خطوتين أجر فيهما رجلي من خلفي وأكاد أتعثر بملابسي...
    "هيا... أحسنت... واصلي..."
    يشجعوني وأنا أكاد أنهار من التوتر...
    هنا سمعت طرقا على الباب والذي كان نصف مغلق وجاء صوت وليد يحييّ.
    ثم رأيته يدخل الغرفة وينظر إلينا... كان يحمل حاسوبه المحمول وكيساً ما.
    عندما نظر إلي هتفت مستنجدة:
    "وليد..."
    وألقيت بالعكاز جانبا ومددت يدي إليه... طالبة الدعم...
    وليد وضع ما كان في يده جانبا وأسرع نحوي وما إن بلغني حتى ألقيت بثقل جسدي عليه
    هو بدلا من العكاز وأنا أقول:
    "لا أستطيع... لا أريد أن أمشي بالعكاز.. لا أريد".
    ربت وليد على يدي المجبرة وقال:
    "اهدئي رغد... ماذا حصل؟؟"
    قلت مستغيثة:
    "قل لهم ألا يضغطوا علي... لا أريد هذا العكاز...
    قدمي تؤلمني... لن أستخدمه ثانية... أرجوك أخرجني من هنا".
    تنقل وليد ببصره على الطاقم الطبي وقال مخاطبا الطبيب:
    "ما الأمر يا دكتور؟"
    الطبيب أجاب:
    "لا شيء. إتها خائفة من استخدام العكاز ونحن نحاول تشجيعها".
    أبدى وليد تعبيرات الضيق على وجهه وقال:
    "لكننا لم نتفق على هذا".
    استغرب الطبيب وسأل:
    "على ماذا؟"
    رد وليد:
    "على بدء التمارين... لا أحب أن تقرروا شيئا دون إبلاغي...
    ولا أقبل أن تضغطوا على الفتاة في شيء".
    نظر الطبيب وأخصائية العلاج الطبيعي إلى بعضهما البعض, نظرات ذات مغزى,
    ثم التقطت الأخيرة العكاز الملقي على الأرض وقالت:
    "حسنا... سنحاول مع العكاز لاحقا... لكن يجب الاستمرار على تمارين الرجل".
    التفت وليد إلي وقال:
    "سنعود إلى السرير".
    وسرت متعمدة عليه إلى أن جلست باسترخاء على سريري...
    "كيف تشعرين؟"
    سألني وليد فأجبت منفعلة:
    "أنا لن أمشي بهذا العكاز... إما أن أسير على قدمي كالسابق أو سأبقى في سريري للأبد".
    وليد رد:
    "هوني عليكِ..."
    كتمت خوفي وصمت...
    غادر الطاقم الطبي وتبعهما وليد ثم عاد بعد بضع دقائق... ابتسم وقال:
    "أحضرت لك بعض المجلات لتطلعي عليها".
    وقرب إلي الكيس الذي أحضره معه...
    نظرة إله بامتنان وقلت:
    "ولكن يا وليد أنا أريد الخروج من هنا... دعنا نعود للبيت".
    وليد ارتسم بعض القلق على وجهه ثم قال:
    " من الأفضل أن تبقي لأيام أخرى بعد... ريثما تتحسن إصابتك وتتدربين على السير على العكاز أكثر".
    قلت:
    "لن أحاول ثانية".
    بدأ القلق يتفاقم على وجه وليد فقلت:
    "أرجوك... أنا لا أريد البقاء هنا".
    السيدة ليندا تدخلت قائلة:
    "شرحت لنا أخصائية العلاج الطبيعي كيفية التمارين وسأتولى العناية بها في المنزل...
    فإذا كان الطبيب يوافق فمن الخير لنا المغادرة يا بني".
    وليد لم يظهر تأييدا ولا أعرف لم يريد لي البقاء في المستشفى أكثر...
    رغم الإرباك الذي سببه الأمر في عمله وفي وضعنا بشكل عام...
    إضافة إلى تكاليف المستشفى الباهضة...
    قال:
    "لثلاثة أيام أخرى على الأقل".
    وكان الإصرار مغلفا بالرجاء ينبع من عينيه... فقلت باستلام:
    "ثلاثة فقط".
    ابتسم وليد ثم التفت إلى السيدة ليندا وخاطبها:
    "هيا بنا الآن إلى المنزل ياخالتي... وكان الله في عونك هذه الليلة أيضا".
    وكالعادة بعد اصطحابها للمنزل عاد وليد وبقى برفقتي طوال ساعات الزيارة...
    وكان يشغل نفسه بانجاز أعماله في حاسوبه الخاص, بينما كنت أنا أتصفح المجلات التي جلبها لي وبين لحظة وأخرى ألقي نظرة على الساعة...
    النهار غدا طويلا... وشعرت بالملل... وراودتني فكرة الاتصال بنهلة والتي لم أهاتفها منذ أيام ولم أعلمها عما حصل معي...
    "وليد".
    ناديته وقد كان مركزا في الشاشة فالتفت إلي:
    "نعم؟"
    قلت:
    "من فضلك هلا ناولتني الهاتف؟"
    وأشرت إلى المنضدة المجاورة حيث كان الهاتف موضوعا على الوصول إليه.
    أقبل وليد وناولني الهاتف وسألني عفويا:
    "بمن ستتصلين؟"
    أجبت:
    "ببيت خالتي".
    وليد أمسك بالهاتف وأبعده عني... نظرت إليه باستغراب فرد على استغرابي بسؤال:
    "هل سبق وأن أخبرتيهم؟"
    أجبت:
    "لا".
    وليد أعاد الهاتف إلى المنضدة وقال:
    "جيد. لا داعي لأن تقلقيهم الآن".
    تعجبت وسألت:
    "ألا تريد مني الاتصال بهم؟"
    قال:
    "أرجوك لاتفعلي رغد".
    ازداد عجبي وسألت:
    "لماذا؟؟"
    وليد شد على قبضتيه وعلاه التوتر ثم قال:
    "تعرفين... إن ذلك سيسبب لهم القلق وأنت لا تزالين في المستشفى... الحمدلله أنك بخير ولا داعي لإشغال بالهم عليك".
    إنني أوافي نهلة بتفاصيل سخيفة عن حياتي اليومية فهل يعقل ألا أخبرها عن حادثة كهذه؟
    قلت:
    "سأطمئنهم إلى أنني بخير وسأغادر قريبا".
    وليد حرك رأسه اعتراضا.
    قلت:
    "لكن..."
    وتكلم وليد بنبرة شديدة الرجاء:
    "أرجوك يا رغد... لا تخبريهم بشيء... أرجوك".
    ورغم أنني لم أفهم موقف وليد غير أنني أذعنت لطلبه ولم أتصل بعائلة خالتي ولم أطلعهم على شيء مما حصل إلى أن التقينا فيما بعد...
    ومضت الأيام الأخيرة... وأخيرا غادرت المستشفى...
    كاد وليد قد أعد إحدى غرف الطابق السفلي لأقيم فيها مؤقتا...
    ولأن منزلنا كبير وموحش ومليء بالعتبات والدرجات, فقد اختار لي أقرب غرفة إلى المطبخ وإلى غرفة المعيشة السفلية والتي استقلها هو بدوره للمبيت قريبا مني.
    كنتقد تدربت على السير بالعكاز مضطرة... المهمة شاقة وتحركي بطيء وثقيل... لكنني عدمت حلا آخر...
    أخذت أتنقل بالعكاز في غرفة نومي وفي الجوار بحذر ومشقة وغالبا ما أعتمد على الآخرين لجلب الأشياء إلي.
    وليد والسيدة ليندا والخادمة تناوبوا على رعايتي وملازمتي معظم الأوقات.
    أما الدخيلة الشقراء فلم أر وجهها الملون مُذ زارتني في المستشفى بعد الحادث...
    وليد أصر على إقامة حفلة عشاء صغيرة دعونا إليها المقربين احتفالا بخروجي من المستشفى.
    الفكرة لم تعجبني لأنني بالتأكيد سأضطر لمجالسة الشقراء مع الضيوف. لكنني رضخت للأمر من أجل وليد.
    ما كان أطيبه وأكرمه... طوال فترة بقائي في المستشفى...
    أول ضيفة وصلت كانت صديقتي مرح مع والدتها وشقيقتيها وقد استقبلتهن السيدة ليندا وقادتهن إلى غرفة الضيوف حيث أجلس.
    أمطرتني الثلاث بالتحيات والتهنئات على خروجي من المستشفى وأهدينني سلة حلويات رائعة.
    "ولكن أين هي السيدة أروى؟ نتوق للتعرف إليها".
    قالت ذلك مرح بكل عفوية وهي تجهل أن مجرد ذكر اسم هذه الدخيلة يثير غيضي...
    السيدة ليندا ردت مبتسمة:
    "إنها في الجوار... سوف أستدعيها".
    وذهبت لاستدعائها.
    مرح قالت مازحة:
    "أتحرق شوقا لرؤية مالكة المصنع وصاحبة الملايين! يقول أبي أنها كانت تعيش في مزرعة حياة عادية!"
    أم عارف- والدة مرح- زجرت مرح على تعليقها ولكن مرح ابتسمت وقالت:
    "هيا أمي! هذه رغد صديقتي المقربة وهي تعرف أنني أحب المزاح! ألا تبدو حكاية السيدة أروى أشبه بالأساطير؟؟"
    لحظات وإذا بالشقراء تهل علينا...
    قامت الثلاث وحيينها بحرارة وعبرن عن سرورهن الشديد بالتعرف إليها ولهفتهن المسبقة للقائها...
    وكان جليا عليهن الانبهار بها... نعم فهي جميلة بدرجة آسرة للنظر وقد تزينت هذه الأمسية بشكل متقن جدا...
    إنني أمهر منها في فن المساحيق والألوان... لكني الآن قابعة في مكاني بجبيرتي وعكازي...
    وبدون أي زينة... ولا أثير سوى شفقة الأخرين...
    بمجرد حلولها, سرقت الشقراء كل الأضواء بعيدا عني... أنا من كان يفترض أن تكون هذه الحفلة قد أقيمت من أجلها!
    وعندما أتت أم سيف وأم فادي كذلك انضمتا إليهن.
    وحتى على المائدة, كن يأكلن بسرور وعفوية ويمتدحن الأطباق اللذيذة واليد الماهرة التي أعدتها...
    فيما كنت أنا المعاقة بالكاد ألمس الطعام بيدي اليسرى...
    وعوضا عن أن تبهجني هذه الحفلة كما يفترض زادتني غيضا ونفورا من الدخيلة.
    التزمت جانب الهدوء معظم الوقت لشعوري بأنني لا أملك شيئا أمام ما تملكه الشقراء مما يثير اهتمام وإعجاب الآخرين...
    وعندما قامت الدخيلة برفع الأطباق الرئيسية إذا بمرح والتي كانت جالسة إلى جواري
    تقترب مني وتهمس في أذني:
    "زوجة أبيكِ مذهلة! جذابة مثله! كم هما ثنائي رائع".
    ولو لم أتمالك نفسي لأفرغت ما في معدتي من شدة الغيظ...
    بعد أن خرج الضيوف, أويت مباشرة إلى غرفتي والنار تحرق صدري وتفحمه...
    ولم أجد من حولي ما أفرغ فيه غضبي ولا من أبثه همي أو أعبر له عما يختلج داخلي...
    فأخذت أبكي بحرقة... وأردت أن أكسر الجبيرة وأحطم العكاز اللذين لم يزيداني إلا بؤسا...
    ومن شدة غيظي رميت بالعكاز بعيدا بقوة فارتطم بطاولة على مقربة وأحدث بعض الجلبة...
    طرق الباب وسمعت وليد يخاطبني:
    "هذا أنا يا رغد... هل انت بخير؟؟"
    قلت:
    "نعم. لا تقلق".
    قال:
    "هل تحتاجين إلى شيء؟"
    أجبت:
    "كلا... شكرا".
    فقال:
    "إذن تصبحين على خير".
    وأحسست به يبتعد...
    شعرت برغبة مفاجئة في التحدث معه... أردت النهوض ولكن عكازي كان بعيدا...
    ناديته لكنه لم يسمعني... زحفت على الأرض إلى أن وصلت إلى عكازي...
    ثم ارتديت حجابي على عجل وسرت نحو الباب...
    ذهبت إلى غرفة المعيشة المجاورة حيث يبات هو حاليا... وكان الباب مفتوحا ويكشف ما في الداخل...





    -----
    تمام كده يا جماعه
    علشان متزعلوش بس

  9. #169
    Pharma Student
    تاريخ التسجيل
    Oct 2009
    الدولة
    A world of illusions
    المشاركات
    1,880

    افتراضي

    إلى الجدار المقابل لفتحة الباب كانت أروى تسند ظهرها وقد مددت إحدى يديها إلى خصرها بينما يقف وليد أمامها مباشرة وذراعاه ممدودتان إلى الأمام ومسندتان إلى ذات الجدار مشكلتين طوقا حولها...
    حين وقع بصري على منظرهما شعرت بالشلل المفاجىء وترنحت بعكازي...
    بسرعة استدرت للوراء وخطوت خطوتين بالعكاز مبتعدة عن الصدمة... ولأنني شعرت بالشلل فقد رميت ثقلي كاملا على العكاز الذي انزلق فوق الأرضية الملساء وأوقعني فجأة...
    تأوهت ألما... ولم أستطع النهوض ليس من شدة الإصابة بل من العشي الذي أصاب عيني من منظر الاثنين...
    لمحت وليد يقبل نحوي قلقا ويجثو بقربي وهو يقول:
    "أأنت بخير؟"
    بخير...؟ لا! أنا لست بخير... لست بخير... لست بخير...
    هب وليد لمساعدتي على النهوض فقلت زاجرة:
    "دعني من فضلك".
    ومددت يدي إلى العكاز وأقمته عموديا على الأرض وحاولت النهوض...
    غير أنني لم أستطع...
    كانت أطرافي ترتجف وأعصابي منهارة وعجزة عن شد قبضتي على العكاز فانزلق مجددا...
    قال وليد:
    "دعيني أساعدك".
    لكنني رددت باقتضاب:
    "قلت دعني وشأني... سأنهض بمفردي".
    وأعدت الاستناد إلى العكازوانهرت أرضا...
    وليد حينما رأى ذلك مد ذراعيه ورفعني عن الأرض...
    قلت بغضب:
    "ماذا تفعل؟ كلا... أنزلني..."
    قال وليد بانفعال:
    "ستكسرين بقبة أطرافك إن تركتك هكذا".
    وسار بي رغما عني إلى أن أوصلني إلى غرفتي ووضعني على السرير.
    قلت ثائرة:
    "لا أريد مساعدة من أحد... دعوني وشأني".
    وليد نظر إلي باستغراب واستهجان معا وقال:
    "ماذا جرى لك يا رغد؟ ما غيرك هكذا فجأة؟"
    قلت بغضب:
    "ليس من شأنك... إياك أن تكررها ثانية... من تظن نفسكك؟؟"
    وليد حملق بي مندهشا:
    "رغد!! أتهذين؟؟"
    صرخت:
    "نعم أهذي... أنا مجنونة... ماذا يهمك في ذلك؟؟"
    أطرق وليد برأسه ثم قال مستاء:
    "الظاهر أنني تسرعت حين أحضرتك من المستشفى... أنت لاتزالين متعبة".
    استفزتني جملته... فصرخت:
    "متعبة ومجنونة وعرجاء... ثم ماذا؟ هل اكتشفت حقيقة ما أكون الآن؟"
    تنفس وليد نفسا عميقا ثم أولاني ظهره وغادر.
    ناديت بغضب:
    "إلى أين تذهب؟ عد إلى هنان".
    لكنه اختفى... ثم فجأة ظهر يحمل العكاز وأتى به إلى جانبي...
    لما رأيت العكاز قربي مباشرة ثار جنوني... أخذت العكاز ورميت به بقوة بعيدا فارتطم بنفس الطاولة وأحدث ذات الجلبة... وليد وقف بجواري يراقب بصمت...
    قلت بحدة:
    "لا أريد هذا ولن أستخدمه ثانية... هل فهمت؟"
    لم يتحرك ولم يقل شيئا... فاشتططت غضبا من بروده وصرخت:
    "لا تعده إلي ثانية... مفهوم؟؟"
    وليد وقف يسمعني وينظر إلي ولا يرد!
    أردت منه أن يقول شيئا.. أن يغضب... أن يتشاجر معي أو يواسيني... أن يبدي أي ردة فعل تفيد بأنه يسمعني ولكنه لم يحرك ساكنا.
    قلت بتهيج:
    "لماذا لا ترد؟"
    وليد حدق بي لحظة ثم قال:
    "هل انتهيت الآن؟"
    حملقنا ببعضنا لفترة ثم استدار وليد بقصد المغادرة.
    هتفت بسرعة:
    "انتظر".
    استدار إلي بنفاذ صبر وقال بضيق بالغ:
    "ماذا بعد؟"
    ولما أحسست بضيقه هدأت فجأة وشعرت بالذنب...
    صمت برهة متراجعة, وقبضت على ما أفلت من أعصابي... ثم قلت وقد تحول صوتي بغتة إلى السكينة:
    "إلى أين تذهب".
    رد وليد بانفعال:
    "إلى قعر الجحيم.. هل يهمك هذا؟"
    وأراد أن يخرج فناديته مجددا :
    "وليد".
    التفت إلي بطول بال وزفر زفرة قوية من صدره وقال باقتضاب:
    "نعم؟"
    إنه غاضب بالفعل...
    يا أنت!.. يا من تقف هناك تشتعل غضبا.. يا من تدعي أنك ذاهب إلى قعر الجحيم...
    إنك أنت جحيمي! اقترب وابتعد مني في آن واحد... فأنا أفقد توازني في كلا الوضعين...
    ولاشيء يحرقني ويزيدني سعيرا وجنونا أكثر من رؤيتك إلى جانب الشقراء الدخيلة...
    "نعم يا رغد هل هناك شيء آخر؟؟"
    قال وليد ذلك لما استبطأ ردي ورأى ترددي...
    "رغد؟؟!!"
    قال مستغربا ومستاءً... فقلت منكسرة:
    "أنا... آسفة".
    ومن التعبيرات التي تجلت على وجهه أدركت أنه لم يكن يتوقع أسفي أو ينتظره...
    قلت:
    "لا تغضب مني".
    حملق بي وليد في صمت ثم ضغط بإصبعه على المنطقة بين حاجبيه ثم قال:
    "لست غاضبا... لكنني تعب من تقلبات مزاجك هذه يا رغد..."
    ثم تابع بصوت راج:
    "أعطيني فترة نقاهة أرخي فيها أعصابي المشدودة قبل أن تنقطع".
    فسرت الإرخاء الذي يقصده على أنه أروى... فهيجني المعنى وقلت منفلتة من جديد:
    "وأعصابك هذه لا تسترخي إلا مع الشقراء؟"
    نظر إلي بتعجب وتابعت:
    "أما أما.. فأعصابي لن تستريح ومزاجي لن يصفو إلا إذا أرسلتها للمزرعة وأبعدتها عني نهائيا".
    مرر وليد أصابع في شعره كما يفعل عندما يتوتر... ثم زفر:
    "يا صبر أيوب".
    وأحسست بالجملة تطعن قلبي.. فقلت ثائرة:
    "يلزمك صبر بحجم المحيط إن كنت ستبقيها أمام عيني تصول وتجول...
    وأنا معاقة بهذا الشكل.. لتتحمل النتائج.. قلت لك أنني أكرهها ولا أريد رؤية وجهها ثانية...
    إنها حتى لم تفكر في الاعتذار عما سببته لي... بل لا بد أنها فرحة بإصابتي وتشمت بي..
    وأنا أفضل الموت حرقا على أن أراها تجول أمام ناظري بكل حرية".
    ربما بالغت بالتعبير عن غيظي الشديد أمام وليد... هو وضع يديه على صدغيه ثم هتف بقوة:
    "حاضر... حاضر يا رغد... حاضر... سأرسلها إلى المزرعة وأخلصك من كل هذا... أفعل أي شيء لأجلك... ماذا تأمرين بعد؟ فقط أريحيني..."
    وضرب الباب بقبضته بقوة وانصرف...

    ~~~~~~~~~~~~~~~~


    تتمه

    وعدت إلى غرفة المعيشة والمجاورة لغرفة رغد فوجدت أروى لا تزال هناك...
    واقفة عند الباب وتستمع إلى شجارنا...
    لم تتحدث بل ألقت علي نظرة خيبة سريعة ثم غادرت المكان...
    قبل قليل كنت أحاول مصالحتها وتوضيح بعض الأمور العالقة منذ أيام...
    إننا متخاصمان والجو مربوك للغاية وكلما حاولت التقرب منها صدتني بجملة: (أعدني إلى المزرعة).
    أحاول بذل جهودي لإقناعها بالعدول عن الفكرة حاليا ولكن...
    وإن كان هناك شعرة أمل واحدة فإن رغد بكلامها الأخير هذا... قطعتها...
    رغد كانت بصحة مقبولة مُذ غادرت المستشفى وتقبلت بعد جهد فكرة السير على العكاز...
    والأمور سارت على نحو مرضٍ إلى أن انتهت حفلت العشاء الصغيرة التي أقمتها إحتفالا بسلامتها...
    وأعتقد... بل أنا على يقين من أن سبب تدهورها المفاجىء هو مقابلة أروى...
    إن علي ألا أقف مكتوف اليدين وأترك الفتاة تتخبط وتنهار من جديد... في السابق كانت تنشغل في الجامعة وفي الدراسة...
    أما وهي حبيسة الجبيرة والمنزل... فإن اصطدامها بأروى سيسبب كارثة نفسية لها...
    ولأن الوضع لم يكن ليطاق البتة فقد انتهى قراري إلى أن اشتري تذاكر السفر عاجلا...
    "لا بأس.. فنحن أعددنا أمتعتنا منذ أيام يا بني وسنضيف ما يلزم".
    أجابتني الخالة حين أخبرتها بعد أن عدت من شركة الطيران في اليوم التالي...
    قلت:
    "جيد. وهلا ساعدت رغد في تجهيز أمتعتها؟"
    "بكل تأكيد".
    سألت:
    "بالمناسبة هل هي مستيقضة؟"
    فأننا لم أرها أو أعرف عنها شيئا منذ البارحة... ولا أعرف بأي مزاج استيقضت هذا الصباح!
    ردت الخالة:
    "نعم. انهت حمامها وطعامها قبل قليل فقد رأيت الخادمة تخرج بالأطباق من غرفتها".
    قلت:
    "إذن رجاء أعلميها بأنني أود التحدث معها".
    وسبقتني الخالة إلى غرفة رغد لتعلمها بقدومي, ثم رأيتها تخرج وتقول:
    "تفضل".
    البارحة كانت فتاتي غير طبيعية وأظنني أنا أيضا لم أسيطر على أعصابي كما ينبغي...
    لكن أنا حتى لو غضبت من رغد وتقلبات مزاجها يتغلب خوفي عليها وحبي لها على أي شعور آخر ويعيدني إليها ملهوفا...
    أشتاق وأعود إليها حتى لو لم أكن أجد لديها ما يغذي شوقي...
    إنها المحور التي تدور حوله أحاسيسي ومشاعري واهتماماتي... وأمور حياتي كلها...
    وقفت عن الباب وطرقته... وسمعتها تأذن لي بالدخول...
    لا أعرف لماذا هذه المره تسارعت نبضات قلبي وساورني التوتر... أكثر من المعتاد...
    رغد كانت جالسة على المقعد أمام المرآة... ونظرت إلي من خلال المرآة فازداد توتري ثم حييتها بصوت خافت, وهي ردت بهدوء.
    سألتها:
    "كيف أنت هذا الصباح؟"
    متمنيا أن تكون إجابتها مطمئنة شكلا ومضمونا.
    فردت:
    "الحمدلله".
    وهي لا تزال تخاطبني عبر المرآة...
    عقبت:
    "الحمدلله".
    ولمحت العكاز إلى جوارها فسألت:
    "هل قمت بالتمارين؟"
    فردت:
    "نعم".
    "وكيف تشعرين؟"
    "بتحسن خفيف".
    ابتهجت وقلت:
    "عظيم... ستتحسنين بسرعة إن شاء الله وتستغنين عن هذا قريبا".
    وأشرت إلى العكاز...
    رغد نظرت إلى العكاز ثم إلي عبر المرآة نظرة تشكك وقلقوسألت:
    "أحقا؟ أخشى أنني لا أستطيع الاستغناء عنه أبدا".
    قلت بسرعة:
    "ما هذا الكلام؟ غير صحيح".
    وبدا على وجهها قلق أكبر وقالت:
    "أو ربما يظل في قدمي شيء من العرج الأبدي".
    قلت معترضا:
    "كلا".
    لكنها كانت شديدة القلق... بل إن أكبر مخاوفها كما استنتجت هو أن تنتهي إصابتها بالعرج لا سمح الله...
    قلت مشجعا:
    "لقد أكد الطبيب أنه أمر مؤقت إلى أن يشفى التمزق ويزول الورم وينجبر الكسر... لا تخافي صغيرتي".
    تعلقت عينا رغد بسراب كلماتي الأخيرة... ثم إذا بها تستدير نحوي لتواجه نظراتي مباشرة...
    وتقول:
    "وليد... فيما لو... لو لا قدر الله أصبحت عرجاء أو معاقة...فــ.. هل... ستظل تهتم بي؟"
    فوجئت من سؤالها الغريب... والذي أجهل المغزى الحقيقي من ورائه... وكانت تنتظر مني الإجابة من لهفة نظراتها إلي...
    أي سؤال هذا يا رغد...!؟
    قلت:
    "لا تفكري هكذا يا رغد بالله عليك... أنا متفائل جدا وبإذن الله سيعود كل شي على ما كان".
    لكنها عادت تسأل:
    "لكن لو لا قدر الله لم أشف تماما... هل ستظل تعتني بي؟"
    ومن الرجاء الذي قرأته في عينيها فهمت مقدار تشوقها لسماع إجابة مطمئنة...
    آه يا رغد! أوتسألين؟؟ أيساورك أي شك تجاهي أهميتك وأولويتك أنت في حياتي..؟
    قلت:
    "وحتى لو بلغت المائتين من العمر وأصبحت عاجزة عن كل شيء... سأظل أعتني بك دوما يا صغيرتي".
    رأيت الابتسامة تشق طريقها إلى وجهها... كأنها شمس أشرقت في سماء نقية... ثم قالت:
    "شكرا لك".
    ابتسمت بسرور وراحة وقلت:
    "على الرحب والسعة".
    رغد كررت:
    "أنا عاجزة عن شكرك على كل ماتفعله من أحلي.."
    قاطعتها مداعبا:
    "وهل ينتظر الآباء شكرا على رعايتة بناتهم؟"
    رغد نظرت إلى الأرض ثم إلي وقالت:
    "ولكنك ستكون في المائتين وعشر سنين من عمرك... أشك في أنك ستكون قادرا على حملي!"


    ضحكت ثم قلت:
    "
    لاتستهينيبقدراتي".
    ثم أضفت:
    "
    حسنا! سأريك!"
    وعلى غير توقع منها مددت يدي أسفلالكرسي الذي تجلس هي فوقه ورفعتهما سويا!
    رغد هتفت متعجبة:
    "
    أوه... ماذاتفعل؟!"
    قلت:
    "
    سأحملك إلى الطابق العلوي لتعدي حقيبة سفرك... ستساعدكالخالة".
    ولم أدع لها الفرصة للاعتراض وحملتها إلى غرفتها في الطابق العلويواستدعيت خالتي والخادمة لمساعدتها... وذهبت لأعد حقيبتيأيضا...

    *************

    موعد سفرنا مساء اليوم... ولأنه سيكون سفرقصيرا فأنا لم أجهز في حقيبتي الكثير من الحاجيات.
    وكنت اتمنى لو أنني لا أضطرللسفر وأنا بهذه الحالة, ولكن وليد لم يجد بدا من أن يسافر بنا نحن الثلاث ثم يعودبي...
    الساعة الآن الثالثة فجرا... تصورا أنني مستيقضة حتى الآن... يحول الأرقالفظيع دون استسلامي لسلطان النوم...!
    وليد أخبرني بأنه سيأخذني إلى بيت خالتيلأقضي عندهم بضعة أيام... وأنا لم أخبر عائلة خالتي عن قدومي إليهم ولا عن إصابتي, بطلب من وليد نفسه.
    سوف نترك الشقراء والسيدة ليندا في المزرعة... ونعود أناووليد إلى البيت!
    ألا يكفي هذا سببا لجعلي أتأرق طوال الليل؟؟
    هذا إضافة إلىتفكيري الدائم بإصابتي وخوفي من أنأنتهي عرجاء... أو تفقد يدي مهارتها فيالرسم...
    الرسم!
    على ذكر الرسم تذكرت شيئا مهما فهببت جالسةفجأة...
    "
    لوحاتي!"
    هتفت أخاطب نفسي... كيف يعقل أن تكون رسماتي الأخيرة قدغابت عن ذهني هكذا..؟!
    نهضت عن سريري وأضأت المصابيح وجلت ببصري فيما حولي مفتشةعن الأوراق التي رسمت وجه وليد ليلة النزهة...
    "
    يا ألهي... أين يمكن أنتكون؟؟"
    فقد كانت في يدي عندما وقعت من أعلى الدرج ولا أعرف ما حل بها بعدذلك...
    ربما الشقراء أزالتها وتخلصت منها... أو ربما السيدة ليندا جمعتهاووضعتها في مكان ما... أو ربما وليد بالصدفة شاهدها... رباه!!
    ولم أستطع مقاومةرغبتي الملحة في العثور عليها تلك الساعة.
    فتشت تفتيشا سطحيا في الأماكن التيافترضت أن يمكن أن يكون قد نقلها إليها....
    ولم أعثر على شيء للآن... وحان دورغرفة مكتب وليد!
    البيت يخيم عليه السكون والظلام... وحقيقة يبدو مرعبا... وأناأتحرك ببطء وبحذر وببعض الخوف... إلى أن دخلت غرفة المكتب...
    كانت الغرفة غارقةفي الظلام الدامس, أشعلت المصابيح وألقيت نظرة على ما حولي واستقر بي العزم على أنأبدأ بتفتيش مكتب وليد...
    "
    ربما يكون أحدهم قد جلبها إلى هنا! لكني أخشى أنيكونوا قد ألقوا بها في سلة المهملات".
    قلت مخاطبة نفسي... وتأملت المكتبوالأرفف العديدة والأوراق الكثيرة من حولي... وشعرت بالتقاعس... كيف يمكنني البحثبين كل هذه الأشياء؟؟
    اقتربت من المكتب ولم ألحظ ما يسترعي الاهتمام على سطحه, فجلست على الكرسي خلفه وفتحت أول الأدراج وفتشت ما بداخله ثم تنقلت بين البقيةواحدا تلو الآخر...
    وفيما أنا أفعل ذلك فجأة سمعت صوتا مقبلا من ناحية البابفجفلت وتسمرت في مكاني...
    انكتمت أنفاسي من الفزع وتلاحقت نبضات قلبي... وكادشعر رأسي يقف من الذعر...!
    "
    رغد"!"
    لقد كان صوت وليد!
    سحبت يدي من الدرجالذي كنت أفتشه ووضعتها تلقائيا على صدري وأطلقت نفسا طويلا...
    وليد تأملني وهوواقف عند فتحة الباب ويده ممسكة بمقبضه ووجهه يكسوه الاستغراب والقلق...
    "
    ماذاتفعلين هنا وفي هذا الوقت!!؟؟"
    نبعت قطيرات من العرق على جبيني من شدة فزعيوازدردت ريقي وتأتأت ولم أحر جوابا...
    ولما رأى اضطرابي قال:
    "
    هلأفزعتك؟؟"
    أومأت برأسي (نعم) فأقبل نحوي حتى صار جواري وهو محملق بي باستغرابوحيرة...
    ثم قال:
    "
    أتبحثين عن شيء؟؟"
    جمعت بعض الكلمات المبعثرة على لسانيوقلت:
    "
    أممم لا... أعني... لا شيء... لقد كنت..."
    ولم أستطعالتتمة...
    وليد مد يدم وأمسك بيدي اليمنى المجبرة بلطف وقال:
    "
    هوني عليك... هذا أنا ليس إلا!"
    وبعد أن هدأت أنفاسي من فزعها وانتظمت خفقات قلبي ولاحظ وليداسترخائي قال:
    "
    حسنا... عم كنت تبحثين؟؟"
    شعرت بالخجل ولم أجرؤ على إجابته... ماذا أقول له؟!..
    سحب وليد يده عن جبيرتي وانثنى أمامي ومد يده إلى أحد الأدراجواستخرج منه شيئا وضعه على المكتب مباشرة أمامي قائلا:
    "
    عن هذه؟؟"
    وإذا بهاالأوراق التي كنت أفتش عنها ومعها قلمي الرصاصي...
    تسلقت الدماء الحمراء أوداجيورشت على وجهي صبغا شديد الاحمرار...
    وسكنت عن أي كلام وأي حركة..
    وليد بقيواقفا يراقب تقلبات لوني ولا أعرف ماذا كان يقول في نفسه...
    وأخيرا قال:
    "
    لملم تنتظري حتى الصباح أو تطلبيها مني؟"
    حينهها نطقت بارتباك:
    "
    أأأ... طرأت... في بالي الآن".
    وليد عاد ومد يده وأخذ الأوراق من جديد وقال:
    "
    هلمي بنا إلىالنوم... ينتظرنا سفر ومشقة".
    وسار مبتعدا... والأوراق فييده!
    هتفت:
    "
    لوحاتي!"
    فالتفت إلي وليد... ثم أمال إحدى زاويتي فمه للأعلىوهو ينظر إلي نظرة قوية ويقول:
    "
    سآخذها إلى غرفتك! لا تخافي".
    وسبقني إلىغرفتي... تنفست الصعداء... ثم سرت خلفه بعكازي ببطء... وعند الباب تقابلنا وجهالوجه... هو يهم بالخروج وأنا أهم بالدخول...
    بالضبط في طريق خطوات بعضنا البعضلكن أيا منا لم يتنحى عن طريق الآخر...
    رفعت نظري إليه فإذا به ينظر إلي...بعمقوغموض... وجسده يحجب النور عني وظله يغطي جسدي... كالشجرة الخرافية الممتدة إلىالسماء...
    حاولت أن أهرب من نظراته... وأن أبتعد عن طريقه... ولم أفلح...
    كنت كالأسيرة المقيدة المربوطة بإحكام إلى جذع الشجرة... ونظراته كانت قويةوثافبة...كتلك النظرات التي كانت معلقة في سقف غرفتي... في بيتنا المحروق... تراقبني وتخترقني كل حين...
    رأيت على طرف لسانه كلاما يوشك أن يقوله... أكادأجزم بأن بعض الحروف قد تساقطت منه...
    لكن وليد زم شفتيه وعض على أسنانه وتنهدثم قال أخيرا:
    "
    تصبحين على خير".
    وغادر الغرفة...
    ************************************************** ***********************************************
    -----
    الحلقة الرابعة والأربعون

    الخيار المستحيل

    استقبلنان العم إلياس استقبالا حميما جدا... مليئا بالعناق والقبل... فقد كان غيابنا طويلا وبقي العجوز وحيدا بعيدا عن أخته وابنتها اللتين لم يسبق له فراقهما...
    كانت خطتي المبدئية هي أن نأتي جميعا إلى المزرعة فقد تساعد الأجواء هناك على تحسين الأوضاع النفسية لنا...
    وإن رفضت رغد البقاء هناك, وهذا ما أتوقعه, كنت سأخذها إلى بيت خالتها وأقضي في المزرعة بضعة أيام...
    مخاوفي الأولى كانت في ردود فعل عائلة أم حسام تجاه إصابة رغد, والتي لم تذكر لهم شيئا حتى الآن...
    بضع أيام في المزرعة هي كافية لتجديد نشاطي وطرد هموم صدري...
    أزور أثناءها شقيقي سامر وأقنعه بالمجيء للعمل معي في المصنع, ونعود نحن الثلاثة إلى منزلنا الكبير...
    كان هذا ما أتمنى حصوله وأجهل ما الذي ستؤدي إليه الأقدار مستقبلا...
    أروى غاية في البهجة وتكاد تقّبل حتى الأشجار من شدة الشوق والحنين, والخالة لا تقل عنها فرحا...
    أما الفتاة الواقفة خلفي فهي تسير بعكازها خطوة للأمام وخطوة للخلف, رافضة دخول المزرعة...
    انطلقت أروى تعدو بين الأشجار كالفراشة... ونشرت الخالة بساطا قماشيا على العشب بجانب مدخل المنزل... وجلست عليه ومددت رجليها باسترخاء...
    وذهب العم إلياس يقطف بعض ثمار العنب ثم غسلها وجلبها إلى البساط وأشار إلينا:
    "تعالوا... تذوقوا".
    الوقت كان ليلا... والنسيم كان عليل جدا والهواء غني بالأوكسجين النقي الذي يبث الحيوية والانتعاش في البدن... وكم نحن بحاجة إليها...
    "تعال يا وليد... إنه لذيذ جدا... تفضلي يا آنسة رغد".
    دعانا العم إلياس بسرور إلى وجبة العنب الطازجة...
    التفت إلى رغد التي تقف خلفي مترددة وقلت:
    "تعالي رغد".
    الإنارة كانت خفيفة منبعثة رئسيا من المصباح المعلق عند مدخل باب المنزل...
    لكنها سمحت لي برؤية الاعتراض على وجه رغد.
    خاطبتها:
    "رغد... ما الأمر؟"
    أفصحت:
    "
    تعرف... لا أريد المبيت هنا".
    اقتربت منها أكثر حتى أخفض صوتي وأضمن عدم وصوله لمسامع الآخرين...
    "أرجوك يا رغد... لا تحرجيني مع العائلة... تحملي قليلا من أجلي".
    قالت:
    "لكن..."
    ولم تتم فقلت:
    "بالله عليك... على الأقل لهذه الليلة... نرتاح من عناء السفر ونقابل كرم المضيفين بحسن الذوق...
    لا يمكننا أن نخرج هكذا فجأة دون اعتبار للأدب واللياقة... أنا أرجوك بشدة يا رغد".
    واستجابت رغد لرجائي الملح... وسارت معي حتى حتى جلست على طرف البساط ببعض المشقة... وأقتربت أنا من سلة العنب وأخذت لي ولها شيئا منه...
    وكان بالفعل لذيذ جدا...
    تبادلت والعم إلياس أحاديث خفيفة متنوعة وشعرت بارتياح شديد قلما أشعر به مع شخص غيره...
    والعم كان من الأدب بحيث إنه لم يسأل عن تفاصيل ما أصاب رغد حين رآها بالعكاز بل اكتفى بحمد الله على سلامتها...
    قضينا نحو الساعة جالسين على البساط نتناول العنب حتى أتينا على آخره...
    سمعت بعد ذلك رغد تهمس لي:
    "لا أستطيع الجلوس هكذا طويلا... أصاب الإعياء رجلي".
    قلت:
    "حسنا... هل تودين الذهاب إلى الداخل؟"
    سألتني:
    "ماذا عنك؟"
    أجبت:
    "أود البقاء هنا فالجو رائع جدا... وقد أبيت الليلة على هذا البساط!"
    وابتسمت للتعجب الذي ظهر على وجه الصغيرة ثم نهضت ونهضت هي معي, واستأذنا للدخول إلى المنزل...
    ساعدت رغد على صعود العتبات ورافقتها إلى غرفتها ثم توليت حمل الحقائب إلى الداخل وتأكدت من أن كل شيءمهيأ لها, وتركتها لتسترخي...
    عدت إلى الخارج واستلقيت على البساط وبدأت أملأ رئتي من الهواء النقي...
    أغمضت عيني في استرخاء تام... وكنت أسمع أحاديث العم والخالة المرحة...
    وربما من شدة استرخائي غفوة لفترة من الزمن...
    صحوت بعد ذلك على أصوات أشخاص يتحدثون,وحين فتحت عيني رأيت العم والخالة وأروى جالسين على مقربة مني وملتفين حول صينية الشواء... ورائحة المشويات تملأ المكان.
    قال العم:
    "ها قد نهض وليد... نوم العافية... تعال وشاركنا".
    جلست ونظرت إلى الجمر المتقد وقلت:
    "آه... أما زال لديكم طاقة بعد السفر!"
    رد العم:
    "وهل ستنامون دون عشاء؟ اقترب بني".
    وجلست معهم أملأ أنفي بالرائحة الطيبة...
    أروى كانت تتولى تقليب المشاوي بهمة... وكانت قد أطلقت شعرها الطويل لنسمات الهواء...
    وعندما هب نسيم قوي حمل خصلة منه نحو الجمر فحركت يدي بسرعة لإبعاده وأنا أقول:
    "انتبهي".
    لا أعرف إن كان العم لا حظ وجود شحنة بيني وبينها أم لا...
    والخالة سرعان ماتدخلت وأعدت الطبق المنشود وبنفسها حملته إلى غرفة رغد, غير أنها عادت به بعد قليل وأخبرتنا أن الفتاة نائمة.

    بعد وجبة غنية كهذه قمت أتمشى في المزرعة وأحرك عضلاتي... غبت طويلا ولما عدت صوب المنزل لم أر غير أروى مضطجعة على ذات البساط الذي كنت نائما فوقه... تراقب النجوم...
    حينما أحست باقترابي جلست وأخذت تلملم شعرها الذي تعبث به الريح...
    اقتربت منها ثم ناديتها وقلت:
    "أروى...يجب أن نضع حدا لكل هذا".
    وقفت أروى وهمت بالمغادرة وهي تقول:
    "نعم... سنضع حدا".

    *****************نهضت باكرة جدا... على زقزقة العصافير القوية المتسللة عبر النافذة إلى الغرفة.
    فيما بعد فتحت النافذة فتدفقت تيارات باردة من الهواء النقي إلى الداخل... وأطللت من النافذة فرأيت الخضرة تغطي المنظر وتأسر الأعين...
    لم أستطع مقاومة هذه الجاذبية... ارتديت عباءتي وسرت بعكازي بحذر... وخرجت من المنزل.
    كان صباح رائعا... والشمس بالكاد أرسلت الجيش الأول من أشعتها الذهبية لتغزو السماء.
    على مقربة من المنزل وجدت السيدة ليندا تحمل سلة كبيرة وتجمع فيها ما تقطفه من العنب.
    حييتها فردت مبتسمة وسألتني عن أحوال فطمأنتها إلى أنني بخير...
    ووجدتها فرصة عفوية لأشكرها على وقوفها معي وعنايتها بي أيام أصابتي.
    " لا داعي للشكر يابنيتي... نحن عائلة واحدة وجميعنا في خدمة بعضنا البعض".
    كان ردها كريما مثل طبعها... وأشعرني بالخجل من مواقفي السابقة منها بالرغم من أن ندي الحقيقي هو أروى...
    " إنك طيبة القلب جدا وأنا لا أعرف كيف أشكرك أو أعتذر منكِ على أي إزعاج تسببت به لك".
    قلت بصدق وعرفان فكررت:
    "لا ننتظر الشكر من أبنائنا على رعايتهم".
    عجيب! إنها نفس الجملة التي قالها وليد لي مؤخرا!
    ولدى تذكري الجملة تذكرت كيف حملني وليد بالكرسي وصعد بي الدرج ثم نزل دون أن تظهر عليه أي إمارة تعب!
    وكذلك تذكرت (لوحاتي) والموقف الأخير بيننا...
    آه أنتم تعرفون مسبقا... كم هو طويل وعريض وضخم وقوي ابن عمي الحبيب هذا!
    الشيء الذي لا تعرفونه والذي اكتشفته مؤخرا.. هو أن صدره واسع جدا جدا...
    يكفي لأن أغوص فيه وأسبح دون أن أصل إلى بر أرسي عنده!
    ابتسمت ابتسامة عريضة وأنا أتخيل وليد... ربما اعتقدت السيدة ليندا أنني ابتسم لها مسرورة بجملتها الأخيرة...!
    خطوة مبتعدة عنها ومتغلغلة في عمق المزرعة بسرور...
    ملأت صدري من الهواء المنعش الذي شعرت به يسري حتى في أطرافي... وكان عابقا بمزيج من رائحة الخضرة والزهور... كم كان هذا رائعا خلابا...
    بعد فترة من الزمن.. ظهرت الشقراء أمامي فجأة..
    كانت ترتدي ملابس بيتية وتطلق شعرها الطويل للهواء الطلق.. وتسير على العشب حافية القدمين..
    اصطدمت نظراتنا ببعضها وتنافرت بسرعة! هممت بالانسحاب بعيدا عنها لكنها فجأة نادتني:
    "انتظري".
    ماذا؟! أنا أنتظر؟ ومعكِ أنتِ؟
    ألقيت عليها نظرة لا مبالية وهممت بالمغادرة غير أنها اعترضت طريقي...
    "ماذا تريدين؟"
    سألتها بحنق فأجابت:
    "ألا يمكننا التحدث ولو للمرة الأخيرة... كشخصين ناضجين؟"
    لم أستسغ مقدمتها هذه وفي الواقع أنا لا أستسيغ منها أي شيء...
    قلت بحدة:
    "أي حديث بعد؟! بعد الذي فعلته!"
    أروى قالت مدافعة:
    "أنا لم أفعل شيئا يا رغد... وكلانا يدرك أنه كان حادثا عفويا... ولو كنت أعلم مسبقا بأنك ستتضررين هكذا ما كنت اعترضت طريقك".
    عقبت باستهجان:
    "وها أنتِ تعترضين طريقي ثانية...وقد ينزلق العكاز مني وأقع وأصاب من جديد... فهل ستقولين عنه إنه حادث عفوي؟"
    ابتعدت أروى عن طريقي فحثثت الخطى قدر الإمكان... مولية عنها...
    سمعتها تقول من خلفي:
    "لكننا سنضع حدا لكل هذا يا رغد... والحال لن تستمر على هذا النحو".
    لم ألتفت إليها.. فتابعت:
    "من الأفضل أن نناقش الأمر بيننا نحن قبل أن نضعه على عاتق وليد".
    توقفت... فاسم وليد هز وجداني.. لكنني لم أستدر إليها.. وسمعتها تتابع:
    "وليد لن يتحمل وجودنا معا... ولا يستحق هذا العناء... المكان لا يتسع لكلينا...
    وعلى واحدة منا الانسحاب طوعا".
    أثارتني عبارتها الأخيرة أيمّا إثارة... وأرغمتني على الالتفات إليها وأنا أحبس أنفاسي من الذهول...
    تابعت هي:
    "أجل يا رغد... على إحدانا الانسحاب من دائرة وليد... وتركه يعيش بسلام مع الأخرى".
    ازداد اتساع حدقتي عيني وتجمع الهواء الفاسد في رئتي فاضطررت إلى زفره بقوة...
    أروى سارت مقتربة مني... حتى صارت أمامي وهي محملقة في وجهي...
    قالت:
    "إحدانا يجب أن تضحي من أجل راحة وليد..."
    لازلت متسمرة على وضعي... لا أكاد أصدق ما أسمع...
    تغيرت نبرة أروى إلى الحزن.. وتابعت:
    "رغد.. هل تفهمين ما أعنيه؟"
    أطرقت برأسي كلا... كلا لا أريد ان أفهم.. كلا لا أريد أن أسمع المزيد.. لكن أروى قالت:
    "بل تفهمين... البارحة وليد لم ينم مطلقا... راقبته قبل نومي ورأيته يحوم في المزرعة بتشتت... وعندما نهضت فجرا وجدته لا يزال في الخارج شاردا لحد الغيبوبة...
    إنه لا ينام منذ أيام... أوضاعنا تشغل باله لأبعد الحدود... إنه مهموم جدا ويعاني الأمرين بسببنا...
    وأنا أريد أن نضع نهاية لهذا... هل فهمت؟"
    كان صوت أروى يخترق أذني بعنف... وقلبي يتقطع وأنا أسمع منها كلاما كهذا لأول مرة...
    قالت:
    "أعتقد... أن أمر وليد يهمك كما يهمني.. أليس كذلك؟"
    لم أجب فكررت السؤال:
    "أليس كذلك يا رغد؟"
    قلت أخيرا:
    "بلى.. قطعا".
    أروى قالت بنبرة أشد حزنا:
    "يجب أن تضحي إحدانا من أجل راحته... إنه يستحق التضحية".
    نظرت إليها بعمق لم يسبق لي أن نظرت إليها بمثله... بجدية لم يسبق أن علت نظراتي إليها... وباهتمام لم يسبق أن أوليتها لها من قبل...
    وكانت تبادلني النظرات...
    ولم أشعر إلا بدمعة تتجمع في مقلتي ثم تسيل حارقة على خدي...
    خرجت الجملة من حنجرتي واهية مذعورة:
    "تقصدينني أنا؟؟"
    لم تتكلم أروى.. فقلت وأنا أحرك رأسي رفضا:
    "مستحيل..."
    فإذا بها تقول:
    "صدقيني... لقد وصلنا إلى مرحلة لا يمكن أن نستمر نحن الثلاثة معا.. مطلقا"
    أخذت شهيقا باكية وقلت:
    "لكن... لكنه الوصي علي... لا يمكنني الاستغناء عنه.. إنه كافلي".
    قالت:
    "وهو زوجي أيضا".
    وخزتني جملتها وقرصت قلبي... فقلت رافضة:
    "أنت تعبثين بي... تتلاعبين بمشاعري".
    أروى قالت:
    "إنها الحقيقة يا رغد وأنت تدركينها.. لكنك تخدعين نفسك... انظري إلى حال وليد بيننا ... هل يعجبك؟ هل يرضيك أن يعاني كل هذا التشتت؟ هل ترضين له.. هذه المرارة".
    وتخيلت صورة وليد وهو يتشاجر معي ليلة حفلة العشاء... ويقول لي إنه تعب من تقلبات مزاجي.. ويطلب مني تركه يستريح قليلا... وشعرت بسكين قوية تمزق قلبي...
    طأطأت رأسي إلى الأرض فهوت دموعي مبللة العشب...
    آه يا وليد... هل أنت تعاني بسببي أنا؟ هل أنا سبب تعكير مزاجك؟؟ هل وجودي معك هو خطأ كبير علي تصحيحه؟
    لكن.. ماذا عني أنا؟؟
    أنا لا أستطيع العيش بدونك.. إنك الهواء الذي أتنفسه وإن انقطعت عني.. فسأموت فورا..
    "رغد".
    خاطبتني الشقراء فرفعت بصري إليها ولم أرها من غزارة الدموع...
    "رغد.. يجب أن نناقش الأمر.. يجب ألا نستمر في هذه الدوامة التي ستقضي على وليد أولا.. إن كنا نكترث لأمره بالفعل..فيجب أن نتصرف بإثار.. لا بأنانية.. على إحدانا أن تخلي الساحة.."
    عصرت عيني لأزيح الدموع عنها ثم قلت بصوت حزين:
    "لماذا لا تكون ...أنت؟"
    أروى تنهدت ثم قالت:
    "أنا.. مستعدة لأن أفعل ذلك من أجل وليد.. أحبه كثيرا وسأضحي بمشاعري لإراحته.. صدقيني أنا أعني ما أقول.. لكن.."
    قلت:
    "لكن ماذا؟"
    أروى نظرت إلى الأشجار من حولها.. ثم إلى السماء.. ثم عادت إلي..
    "وليد.. متعلق جدا بعمله.. لقد.. كان حلم حياته أن يدير شركة أو مصنعا, كما كان والده رحمه الله..
    تعرفين أن وليد متخرج من السجن.. ولا يحمل شهادة دراسية غير الثانوية...
    لم يرحب أحد به للعمل عنده.. وبالكاد وجد عملا كفلاح بسيط في مزرعتنا لقاء المأوى والطعام.. وليد عانى كثيرا وعاش فترة بائسة جدا العام الماضي..
    ربما لم تشعروا بها كما شعرت بها أنا... وأنا, وأنت كذلك.. كلانا لانريد له أن يعود لذلك البؤس من جديد.. أليس كذلك؟؟"
    هززت رأسي ثم هتفت:
    "كفى"
    واستدرت أريد الهروب بعيدا عن صورة أوروى وكلامها... لكنها تابعت وهي تعلي صوتها:
    "إذا كنت تحبين وليد فعلا فابتعدي عنه... لا تعيديه إلى البؤس يا رغد".
    تابعت طريقي بأسرع ما أمكنني... ولحقتني عبارتها:
    "فكري في الأمر مليا... من أجل وليد".
    كفى... كفى... كفى...
    كنت أسير وأحرك رأسي محاولة نفضه عن كل ما علق به من كلام أروى...
    عندما وصلت إلى غرفتي اندفعت بسرعة أكبر نحو سريري فتعثرت ووقعت قبل أن أصله...
    وعلى الأرض رميت برأسي ونثرت دموعي وأنا أكرر:
    "كلا... كلا... كلا..."
    وعبثا حاولت طرد كلامها من رأسي... غدا كالسم... يسري في عروقي كلها ويشل تفكيري وحركتي ويعميني عن رؤية غير السواد...

    **********************
    لم أكن نشيطا هذا اليوم... فقد استيقضت عند الظهيرة بعد نوم سطحي ساعات النهار...
    تفقدت الآخرين فوجدت العم إلياس في الساحة الأمامية للمنزل مشغولا بتنظيف الصناديق الخشبية المستخدمة في جمع الثمار مما علق بها من بقايا ثمار وأتربة.
    هذا الرجل لا يكف عن العمل! ورغم أننا وظفنا مجموعة من العمال للعناية بالمزرعة لساعات معينة من النهار, غير أنه ما فتىء يستخدم ساعديه وبهمة كما في السابق.
    بعد حوار بسيط ساعدته على تنظيف الصناديق ثم ترتيبها فوق بعضها البعض, لعل النشاط يدب في بدني النهك..
    وحالما فرغنا من الأمر فاجأني العم بهذه الجملة...
    "بني... أريد أن نتحدث بشأنك أنت وأروى".
    أدركت من خلال النظر إلى عينيه أنه صار على علم بما حصل مؤخرا... التزمت جانب الصمت
    فقال مستدرجا:
    "أريد أن أسمع منك ما حكاية عمار عاطف؟"
    شعرت باستياء.. فقد وصل الموضوع الآن إلى العم.. وصار موقفي محرجا جدا..
    تبا لك يا عمار.. قتلتك منذ 9 سنين وحتى الآن لم أتخلص منكَ؟؟
    أجبت أخيرا:
    "هل أخبرتك أروى؟"
    قال:
    "إنهما لا تخفيان عني شيئا يا وليد".
    وظهر شيء من القلق على ملامح العجوز.. مم أنت قلق يا عمّي؟؟ وهل اهتزت ثقتك بي أنت أيضا؟؟ أنا لا أتحمل خسارة الإنسان الأول الذي قدم لي الاحترام والثقة والمعوتة وفتح لي باب قلبه وبيته بينما كل الأبواب موصدة في وجهي.. بعد خروجي من السجن..
    قلت مدافعا:
    "عمّاه.. أرجوك صدقني.. أنا لم أقصد أن أخفي عليكم حقيقة أنني قاتل ابن أخ نديم رحمه الله".
    وبدا الاهتمام الشديد على وجه العم, وأصغى بكل جوارحه...
    فتابعت:
    "حتى نديم ذاته لم يعرف هذه الحقيقة. لقد كان صديقا وأبا لي في السجن وأحببته كثيرا...
    وحضوري إليكم وارتباطي بكم كان بدافع الوفاء له.. لم أجد منلسبة لكشف هذا ولم أعتقد أن الأمر سيسبب كل هذا التعقيد"؟
    العم أظهر تعبيرات التفهم التي أراحتني بعض الشيء ثم قال:
    "حسنا.. ربما لم تكن هناك مناسبة لذكره مسبقا, أما الآن وقد ذكر.. فاعذر فضولنا لنعرف لماذا قتلته أو على الأقل.. لماذا لا تريد أن تفصح عن السبب".
    رمقت العم بنظرة رجاء... اعفني يا عم من من هذا... أتوسل إليك... لكن نظراته كانت تنم عن الإصرار.. أشحت بوجهي بعيدا عن عينيه.. وقلت:
    "لا أسطيع".
    العم رفع يديه إلى كتفي وقال:
    "وليد.. انظر إلي".
    بتردد أعددت عيني إلى عينيه.. وحملقنا في بعضنا البعض لفترة..
    بعدها أبعد العم يديه وقال:
    "كما تشاء".
    ثم ابتعد عني... ناديته برجاء:
    "عمّاه.."
    وحين نظر إلي قلت:
    "أرجوك.. لاتتخذ مني موقفا بسبب هذا.."
    العم ابتسم وقال:
    "لا عليك يا بني".
    جملته طمأنتني فقلت:
    "أسبابى قهرية".
    قال:
    "عرفت ذلك. إنك أنبل من أن تقتل شخصا لأسباب أصغر".
    تنهدت باطمئنان وقلت:
    "آه.. أشكرك ياعمي... أرحتني".
    العم إلياس ابتسم وقال:
    "الأهم أن نريح الفتاة التي تراقبك من النافذة خلسة!"
    وعندما التفت إلى ناحية المنزل لمحت أروى تقف عند النافذة وتنظر إلي...
    ذهبنا بعد ذلك أنا والعم لتأدية الصلاة وعندما عدنا كانت مائدة الطعام معدة لي وللعم في غرفة الطعام, وللسيدات في المطبخ كما جرت العادة. أطللت على المطبخ برهة وكما هو متوقع لم أجد رغد. سألت عنها فأخبرتني الخالة أنها دعتها للمائدة غير أنها اعتذرت عن المشاركة.
    أردت أن أتفقد الصغيرة بنفسي.. ولم أكن قد رأيتها منذ البارحة.. وأنا أعرف أنها منزعجة من النزول في المزرعة...
    طرقت باب غرفتها فأذنت لي بالدخول.. سألتها عن أحوالها فطمأنتني إلى أنها بخير.. ولكنني أنا وليد أعرف متى تكون صغيرتي بخير!
    "ما بك يا رغد؟"
    سألتها بقلق فردت مباشرة:
    "لا شيء"
    قلت مشككا:
    "متأكدة؟"
    أجابت:
    "طبعا!"
    نظرت إلى عينيها غير مقتنع وقلت:
    "لا تخفي عني شيئا يا رغد".
    وما كدت أنهي جملتي حتى فاضت دموع حارة كانت مختبئة في عينيها...
    "رغد!"
    بسرعة مسحت رغد دموعها وتظاهرت بالتماسك وادعت:
    "أنا بخير".
    قلت محتجا:
    " وهذه الدموع؟"
    قالت زاعمة:
    "فقط.. مشتاقة إلى خالتي".
    لا يمكنك خداعي يا رغد... هناك ما تخفينه ولا ترغبين بالبوح به...
    اقتربت منها وقلت:
    "تعرفين أنني سآخذك إليها اليوم.. فلماذا الدموع؟"
    رغد غيرت تعبيرات وجهها محاولة إظهار المرح وابتسمت وقالت:
    " متى نذهب؟"
    أجبت مجاريا:
    "الخامسة ننطلق بعون الله".
    فقالت:
    "بعون الله".
    ثم ابعدت عينيها عني لئلا أقرأ المزيد... لم أشأ إزعاجها فتجاهلت دموعها وقلت:
    "حسنا.. سأطلب من الخالة جلب وجبتك".
    وهممت بالانصراف غير أنها قالت:
    "كلا شكرا. لا أشعر بالجوع الآن".
    قلت:
    "هل تناولت شيئا في الصباح".
    ولم ترد.
    قلت مستاءً:
    "لم تأكلي شيئا مذ غادرنا المنزل؟"
    قالت:
    "بلى.. عنقود العنب".
    قلت مستاءً:
    "كلا... رجاء لاتتهاوني في ذلك.. أم أنك لم تتعظي مما حصل تلك الجمعة؟ لا يتحمل جسمك النحيل الجوع".
    فرددت رغد مبررة:
    "لكني لا أحس بالجوع الآن".
    قلت مقاطعا:
    "حتى وإن.. لن أثق بإحساسك بعد الذي حصل. سأجلب غذاءك بنفسي".
    قالت معترضة:
    قلت لك لا أشتهي شيئا وليد أرجوك! أنا لست طفلة".
    أحقا!
    أتظنين نفسك لست طفلة؟؟
    أو تعتقدين أن الأعوام التسعة التي أضيفت إلى عمر طفولتك التي فارقتك عليها... زادتك في نظري كبرا ونضوجا؟؟
    بل أنتِ طفلتي التي مهما دارت بها رحى السنين ستظل في عيني صغيرة لا بد لي من العناية بها..
    لم أشأ وقتها أن أضغط عليها أو أحرجها.. خصوصا وأنا أشعر بأن هناك ما يضايقها..
    فقلت:
    "حسنا.. لكن يجب أن تأكلي شيئا قبل موعد المغادرة..اتفقنا؟"
    فأجابت بملل:
    "حاضر".
    أخفضت صوتي وجعلته أقرب إلى الهمس العطوف وأضفت:
    "وإذا كان هناك أي شي يضايقك.. وأحسست بالحاجة لإخباري.. فلا تترددي.."
    نظرت إلي رغد نظرة مطولة ثم قالت:
    "بالتأكيد".
    وبالتأكيد هذه خرجت من صدرها متشحة بحزن عميق ضاعف مخاوفي..
    استأذنتها بالانصراف.. وحالما بلغت الباب سمعتها تقول فجأة:
    "وليد.. سامحني!"
    أي تأثير تتوقعون أن جملتها هذه أوقعت على نفسي؟؟
    ماذا جد عليك اليوم يا رغد؟؟
    صحيح أنني اعتدت على تقلباتها... وانفعالاتها المتفاوتة... كونها تغضب وترضى وتفرح وتحزن بسرعة... ولا يتوقع المرء موقفها التالي, غير أن حالتها هذه الساعة جعلت قلبي ينقبض ويتوقع أزمة مقبلة..
    لطفك يا رب..

    ****************

    كل الساعات الماضية وأنا أفكر فيما قالته الشقراء... وأشعر بقلبي ينعصر.
    لا شك أنها محقة فيما قالت وأن وليد بسبب وجودي في حياته وتوليه مسؤوليتي العظمى.. مع وجود الخلافات المستمرة بيني وبين الشقراء... لا شك أنه يضغط على نفسه كثيرا ويعاني..
    طوال الوقت وأنا أتصرف بأنانية ولم أفكر به.. بما يشعر وبما يثقل صدره ويرهق كاهله.. جعلته يغير ظروف حياته لتناسبني أنا.. وحملته الكثير.. الكثير..
    هذه الساعة أنا أشعر بالذنب وبالخجل من نفسي.. والغضب عليها.. آه يا وليد قلبي... هل ستسامحني؟؟
    فكرت في أنني يجب أن أختفي من حياته وأخلي طرفه من المسؤولية علي.. حتى يرتاح.. ويهنأ بحياته.. لكن الفكرة ما أن ولدت في رأسي حتى وأدها قلبي بقسوة.. وأرسل رفاتها إلى الجحيم..
    أنا أبتعد عن وليد؟؟
    مستحيل! مستحيل... لا أستطيع.. إنه الروح التي تحركني والأرض التي تحملني والدنيا التي تحويني..
    أحبه وأريد أن أبقى ولو اسما منقوشا على جدار يمر به كل يوم..
    أحبه أكثر من أن أستطيع التخلي عنه.. أو حتى تخيل العيش بدونه..
    عند الخامسة أتى وليد لحمل حقيبة سفري.. وتبعته إلى الخارج.. كان يسير وأسير على ظله الطويل.. شاعرة برغبة مجنونة بأن أرتمي عليه..
    وصلنا إلى السيارة وأدخل وليد الحقيبة فيها.. وفتحت أنا الباب الخلفي لكي أجلس وأسلمه العكاز ليضعه مع الحقيبة..
    وليد قال وهو يفتح باب المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق:
    "اركبي هنا يا رغد".
    نظرت إليه مستغربة.. فقد اعتدت أن أجلس خلفه... وهذا الموضع صار من نصيب الشقراء الدخيلة...
    قال وليد معللا:
    " فالمكان أوسع وأكثر إراحة لرجلك".
    وكانت هذه السيارة أهداها سامر لوليد قبل أشهر والتي اصطدمنا فيها بعمود الإنارة في ذلك اليوم الممطر.. وهي أصغر حجما من سيارة وليد الجديدة التي يستخدمها في المدينة الساحلية..
    أذعنت للأمر ولما جلست تناول هو عكازي ووضعه على القاعد الخلفية, ثم أقبل وجلس خلف المقود وأدخل يده في جيبه وأخرج هاتفه ووضعه على المسند, وتفقد جيبه الآخر ثم التفت إلي وقال:
    "انتظريني رغد... نسيت شيئا.. سأعود حالا".
    وغادر السيارة عائدا أدراجه إلى المنزل...

    *****************
    انتبهت إلى أنني لم أحمل محفظتي معي.. وكنت قد تركتها على المنضدة في غرفتي منذ البارحة.. وقد حملت فيه مبلغا ماليا لأعطيه لرغد لتنفق منه أثناء إقامتها في بيت خالتها...
    تركت رغد في السيارة وذهبت لإحضار المحفظة.. وفيما أنا في الغرفة أتتني أروى..
    كانت تتحاشاني نهائيا منذ قدومنا.. عدا عن خصامها لي منذ أيام..
    وكانت أخر مرة تحدثنا فيها ولو قليلا هي ليلة حفلة عشاء رغد.. والتي لم تدع لي المجال لأي حديث معها بعدها... وبدوري لم أتعمد ملاحقتها أو الضغط عليها.. أردت أن نأخذ هدنة ليومين أو ثلاثة.. نتنفس الصعداء ونسترخي في المزرعة.. ثم نعود لمناقشة أمورنا من جديد...
    عندما رأيتها وقفت برهة ولم أتكلم..
    "إذن.. ذاهبان الآن؟"
    بادرت هي بالسؤال فأجبت:
    "نعم".
    ظهر عليها التوتر ثم قالت:
    "وهل ستمكث هناك؟"
    أجبت:
    "سأبقى لبعض الوقت, ثم أذهب إلى شقيقي.."
    سألت:
    "ومتى ستعود؟"
    أجبت:
    "غدا مساء على الأرجح.. أريد قضاء بعض الوقت مع شقيقي فنحن لم نلتق منذ فترة".
    ظهر مزيد من التوتر على وجه أروى..
    سألتها:
    "أهناك شيء؟"
    سارت أروى نحوي حتى صارت أمامي..
    قالت:
    "وليد أنا... أنا..."
    ولم تتم إنها مترددة.
    "ما الأمر؟"
    تشجعت قليلا وقالت:
    "أنا.. أعتقد أنك لا يمكن أن تقتل شخصا دون سبب قوي جدا.."
    وصمتت..
    أدهشني كلامها بادئ ذي بدء... فأنا لم أتوقع أن يبدأ الحديث بيننا بهذا الموضوع بالذات بين كل المواضيع العالقة, والأكثر أهمية.. لكن الواضح أنه أول ما يشغل تفكير أروى..
    تابعت:
    "أخبرني خالي.. بأن أبي رحمه الله.. كان يقول عن عمار إنه شخصا سيئا..
    وأن عمي عاطف رحمه الله قد أخفق في تربيته.. وأنه أي أبي.. كان يشعر بالعر منه".
    حبست نفسي لئلا أتفوه بسيل منجرف من الشتائم..سئ فقط؟ أنت لا تعرفين من كان ابن عمك الذي تتحرقين شوقا لمعرفة سبب قتلي إياه.. وكأنه ضحية بريئة..
    تابعت:
    "حسنا.. أنا لن أسألك عن السبب ثانية.. واخف عني ما تريد إخفاءه بالنسبة لموضوع عمار... لكننا يجب أن نتناقش بموضوع رغد".
    أثارني ذكر رغد.. فقلت بلهفة:
    "رغد؟"
    أروى أكدت:
    "نعم رغد... الوقت غير مناسب الآن.."
    أقلقتني جملتها في وقت كنت أنا فيه قلق ما يكفي ويزيد... خصوصا مع حالة رغد الجديدة اليوم.. وخطر ببالي أنهما - أي رغد وأروى- ربما تشاجرتا معا من جديد..
    فعدت أسأل:
    "ماذا عن رغد؟"
    ألقت علي أروى نظرة قوية التعبير ثم أجابت:
    "الحديث يطول.. وأنت على وشك المغادرة".
    فنظرت إلى ساعة يدي ثم قلت مستسلما:
    "حسنا.. عندما أعود غدا.. نتحدث".
    وفي رأسي فكرة تقليص فترة الهدنة, بما أن أروى قد بادرت بالحديث معي..
    أروى أخذت تحرك رأسها اعتراضا ثم إذا بها تقول:
    "أرجوك أن.. تبقى مع شقيقك بضعة أيام".
    فوجئت بطلبها.. الذي جاء عكس استنتاجاتي.. ولما رأت تعبيرات الدهشة على وجهي قالت مبررة:
    "أريد ألا نتقابل لبعض الوقت.. لا تسئ فهمي.. من الأفضل أن نرخي أعصابنا حتى نفكر بهدوء.."
    أصابني طلبها بجرح.. ولكني تظاهرت بعدم التأثر وقلت:
    "فهمت.."
    وتذكرت آنذاك أنني كنت قد وعدت عمي بمرافقته في مشوار مهم يوم الغد بشأن المزرعة..
    "إذن سأعتذر لخالك عن العودة.. وأحمل بعض الحاجيات".
    وذهبت للبحث عنه ووجدته في المطبخ يساعد الخالة ليندا في تنظيف السمك..
    أخبرته بأنني سأقضي بضعة أيام مع شقيقي واعتذرت عن مرافقته.. وودعته هو والخالة بوجه مبتسم..
    عدت بعدها إلى غرفتي وحملت حقيبتي الصغيرة التي أتيت بها إلى الجنوب وفيها بعض ملابسي وحاجياتي... وأعدت الأشياء التي كنت قد استخرجتها منها.. وبينما أنا مشغول بها سمعت صوت أروى تناديني..
    "وليد".
    عندما التفت إليها رأيتها واقفة عند الباب ووجهها يبدو حزينا وممتقعا.. ولمحت دمعة تنساب من عينها..
    سألت بقلق:
    "ما بك الآن؟؟"
    وكان جوابها بأن أقبلت نحوي.. ووضعت رأسها في حضني وطوقتني بذراعيها بحرارة..

    **********************


    تأخر وليد!
    قال إنه نسي شيئاوسيعود في الحال.. وتركني جالسة في السيارة والتي لم يشغل محركها ولامكيفها
    !
    شعرت بالحر والاختناق ففتحت باب السيارة أتنفس الهواء الطلق.. وبعددقائق داهمني الشعور بالقلق.. لماذا تأخر وليد؟؟

    خرجت من السيارة واستخرجت عكازيمنها وذهبت كي أتفقده..
    ذهبت مباشرة نحو غرفته ورأيت الباب مفتوحا.. ولم يكن عليإلا أن ألقي نظرة عن بعد عبر فتحه حتى أرى حبيب قلبي يعانق أكثر فتاة كرهتها فيحياتي.. على الإطلاق
    ..
    الصورة أعشت عيني.. وخدرت أصابعي.. ومزقت بقية أربطةمفاصلي فتفككت وانفصمت مفصلا مفصلا
    ..
    انسحبت أجر أطرافي جرا وأتخبط في سيري حتىبلغت الباب الرئيسي وخرجت إلى الشمس دون أن أرى شيئا
    ..
    شعرت بالعتمة تلون كل ماحولي.. وبمفاصلي المنفصمة تخر هاوية
    ..
    أمسكت بالباب أنشد دعمه لكنه أرجحني معه.. وحتى عكازي.. خانني في آخر لحظة وسلمني أسيرة الوقوع أرضا
    ..
    ربما رق الحجرلحالي؟ لم أشعر بأي ألم.. أو ربما البنج الذي سببته الصدمة لي أتلفت أعصابيالحسية.. فما عدت أشعر بأي شيء.. أي شيء
    ..
    ثوان وإذا بالباب يتحرك ومن خلفه يطلالرجل الطويل.. العملاق الذي أحبه
    ..
    والذي رغم كل السواد.. والظلام والعتمة.. استطعت رؤيته.. والذي فور رؤيتي له تدفق النزيف من قلبي مجتاحا كل المشاعر
    ..
    كانيتكلم.. لكنني لم أسمعه.. ثم رأيته يجلس على العتبة قربي ويمد يده إلى عكازي.. ويقربه مني
    ..
    ماذا يقول هذا الرجل؟؟ ماذا يطلب مني؟؟ هل يريد أن أقف؟ ألا يرىمفاصلي مفككة؟؟ ألا يرى عضلاتي مشلولة؟؟ ألا يرى الدماء تغرق جسدي؟؟ ألا ترى كل ذلكيا وليد؟؟ ألا ترى كل ذلك؟؟

    أسنتدت رأسي إلى الجدار.. وأغمضت عيني.. وتمنيت ألاأفتحهما بعد الآن أبدا..
    ~~~~~~~~~~~~~~~
    تتمه
    ********************


    "رغد ماذا جرى لك؟"
    قلت ذلك ومددت يدي تلقائيا إلى وجه رغد وضربته بخفة... فقد كانت نغمضة العينين وكأنها ستفقد وعيها.. ولي معها سابق مواقف..
    فتحت رغد عينيها ونظرت إلي مباشرة.
    قلت مفزوعا:
    "أأنت بخير؟؟"
    نظرت رغد من حولها أولا وكأنها تستفيق من نوم أو إغماءة.. بدا على وجهها التيه والضيعان..ثم نظرت إلي وكأنها ليست واثقة ممن أكون.. ثم وضعت يدها على جبينها كأنها تسترجع الذاكرة..
    وأخيرا قالت:
    "تعثرت بالعتبة".
    قلت بلهفة:
    "سلامتك.. هل أصبت؟"
    فحركت رأسها نفيا..
    مددت يدي لأساعدها على النهوض:
    "قومي بنا إلى السيارة".
    لكن رغد لم تقم بل أسنتدت مرفقها إلى رجلها ورست برأسها على كفها اليسرى وقالت:
    "انتظر قليلا.."
    وظهر عليها الإعياء.. ما فجر سيول قلقي المتكدسة منذ الظهيرة.. قلت:
    "رغد.. يبدو عليك الإعياء.. أخبريني بصدق.. هل أنت بخير؟ هل تشعرين بدوار؟"

    أومأت رغد بنعم, لكنني لم أطمئن.. قلت:
    "لا تبيدين كذلك.. أراهن أنك لم تسمعي كلامي, ولم تأكلي شيئا.. أليس كذلك؟"
    ولم ترد.. فتأكدت من شكوكي وقلت بغضب ممززوج بالقلق:
    "متى تتوقفين عن هذا العناد...؟ هل يجب أن تكرري ما حصل وتجففي دمائي من القلق عليك؟ جسمك أضعف من أن يتحمل عنادك.. رأفة بنفسك وبي.. لقد أهلكتني".
    ولم أنتبه لقسوة كلماتي إلا حين رأيت وجه رغد يلتفت إلي ويكفهر ويصفر.. بعدها قلت بنبرة ألطف:
    "سوف لن نغادر وأنت بهذه الحالة".
    هنا اعترضت رغد وقالت"
    "كلا أرجوك.. أنا بخير الآن".
    قلت مناقضا ادعائها:
    "لا لست بخير.. أرى هذا بوضوح".
    قالت مصرة:
    "أنا بخير.. صدقني.. تعثرت بهذه العتبة لا أكثر.. دعنا نذهب الآن".
    ثم أمسكت بالعكازونهضت واقفة لتثبت لي أنها على ما يرام.. لكني أعرف أنها ليست كذلك.. إنها تلتهم أنفاسها النهاما وتتحرك ببطء.. ويطغى الشحوب على وجهها..
    قلت:
    "دعينا ندخل إلى الداخل.. ستتناولين وجبة كبيرة وتنالين قسطا من الراحة قبل أن نغادر".
    رغد استماتت معترضة:
    "رجاء وليد... دعنا ننصرف الآن".
    لم أصدقها وبقيت مصرا على موقفي, وهي مصرة على عنادها...
    "لن نتحرك خطوة واحدة وأنت بهذا الشكل.. ماذا إن انهرت علي في الطريق؟؟ واضح من لونك أنك مرهقة. ستدخلين الآن إلى المنزل وتأكلين بعض الطعام ماذا وإلا فأنني سأؤجل الرحلة إلى الغد".
    وأمسكت بيدها بلطف أحثها على السير نحو الداخل غير أنها سحبتها وقالت ببعض العصبية:
    "قلت لك لا أريد شيئا من هذا المكان.. ألا تفهم؟؟"
    حينها أدركت موقفها.. فقلت:
    "في هذه الحالة... إذن.. سنمر بأحد المطاعم قبل المغادرة".
    ولم تملك رغد إلا أن تنصاع للأمر.. سرنا عائدين إلى السيارة ببطء وحذر.. وهي بعكازها.. وأنا بحقيبة سفري.. جنبا إلى جنب.. وخطوة بخطوة.. كنت خاش عليها أن يداهمها الدوار كما في المرة السابقة, لا قدر الله...
    فتحت الباب الأمامي وطلبت منها الجلوس.. على المقعد المجاور لمقعدي... لتبقى على مقربة مني.. وتحت ناظري مباشرة..
    وانطلقنا بعون الله...
    توقفت عند أحد المطاعم واشتريت لها وجبة كبيرة أجبرتها على تناولها عن آخرها..
    وأعترف بأنني كنت صارما معها.. فأعرف أن جسدها النحيل لا يحتمل الجوع الطويل..
    وبعد تجربتي الأخيرة معها في منزلنا الكبير... لن أسمح لها التهاون بشأن الطعام...
    طوال المشوار.. رغد كانت صامتة صمتا مغلقا.. أنا غير مرتاح من حالها اليوم ولكنها لم تشأ إخباري بشيء... والله الأعلم.. بم تفكر الآن...
    أما أنا, فإلى جانب تفكيري بها كنت أفكر بقلق في عائلة خالتها وما سيقولونه عن إصابتها... وسرعان ما ثبت لي أن مخاوفي في محلها...
    أم حسام, وبمجرد أن رأت الصغيرة تدخل المنزل بالعكاز.. لطمت على وجهها وصرخت:
    "ابنتي.. ويلاه".
    وأقبلت مسرعة مولولة.. وضمت الفتاة إلى حضنها وبدأت بالنواح..
    ورغد سرعان ما انفجرت بكاء عميقا على صدر خالتها مما زاد الأمر دراما واشتعالا...
    أردت أن أتكلم.. أن أسلم.. وأوضح الأمرفقلت:
    "خالتي".
    ولم أكد أتم الكلمة حتى رأيت أم حسام ترفع رأسها وتنظر إلي وقد توهج وجهها احمرارا وفاضت الدموع من عينيها وتطاير الغضب من بؤبؤيها وإذا بها تصرخ:
    "ماذا فعلت بالفتاة أيها المتوحش؟ لا بارك الله فيك ولا في اللحظة التي تركت ابنتي فيها تحت رحمتك أيها المجرم القاتل".
    ذهلت... صعقت.. ووقف شعر رأسي من كلامها الجنوني... ألجم لساني من الهول... حاولت النطق بأي شيء.. فإذا بها تمطرني بدعوات شريرة مزلزلة...
    "لا بارك الله فيك... لا وفقك الله في شي... حطم الله قلبك كما حطمت قلبي على ابنة أختي".
    صرخت:
    "رغد".
    مستنجدا.. قولي شيئا! تظن خالتك أنني كسرت عظامك وعن عمد... قولي شيئا يا رغد.. أوضحي لهم... لكن رغد لم تتكلم.. حتى أنها لم تنظر إلي..
    التفت من حولي فرأيت أعين بقية أفراد العائلة تحملق بي والشرر يتطاير منها.. ما هذا؟؟ أكلكم تظنون أنني كسرت عظامها؟؟ هل تعنون هذا؟؟
    فجأة سمعت صوت حسام يقول بحدة:
    "ماذا فعلت بها؟".
    أجابت أم حسام منفعلة:
    "ألا ترى؟ كسر عظامها كسر الله عظامه ودكها دكا".
    أبو حسام تدخل ها هنا وقال:
    "رويدك يا أم حسام هداك الله... دعينا نسمع منه ما حصل".
    والتفت إلي وقال:
    "هيا بنا إلى الداخل".
    ووقفت مكاني مذهولا من موقف أم حسام المهاجم بعنف دون استيضاح الأمور... ومن موقف رغد الصامتة وكأنها تؤيد خالتها في هجومها اللاذع ضدي...
    نظرت إلى رغد شاعرا بالخذلان.. كيف تدعيهم يظنون بي هكذا ثم لا تدافعين عني ولا بكلمة ولا إيماءة واحدة؟؟
    أم حسام سارت مسندة لرغد التي خطت بعكازها مبتعدة عني... دون أن تلقي علي أي نظرة...
    قال أبو حسام:
    "تفضلوا جميعا".
    بقيت واقفا متسمرا في مكاني يحول ذهولي من كلام أم حسام دون حراكي, فالتفت أبو حسام إلي ومد يده نحوي وقال:
    "تفضل وليد".
    وسرنا جميعا نحو المدخل... يسبقنا نواح أم حسام...
    الطريق بين بوابة السور الخارجي للمنزل والباب الداخلي له طويل لحد ما.. يتخلل حديقة المنزل الأمامية...
    قطعنا المسافة صامتين إلا عن ولولة أم حسام التي أحدثت في قلبي صدعا بالغا...
    عندما وصلنا إلى باب المنزل قلت قاصدا تنبيهها:
    "انتبهوا... إنها لا تستطيع صعود الدرجات".
    وتقدمت بقصد مد يد العون إلا أن أم حسام زجرتني بقسوة:
    "دع الفتاة لي".
    فابتعدت والعرق يتصبب مني حرجا..
    واقتربت ابنتة خالة رغد الكبرى ومع والدتها ساعدت رغد على الصعود...
    قادني أبو حسام إلى غرفة الضيوف وأحسن ضيافتي.. أما حسام فقد كنت أشعر بألسنة النار تندلع من عينيه وهو يراقبني بتربص...
    أخيرا شرحت لهما ما حصل وبينت أنه كان حادثا عرصيا.. غير أن ذلك لم يخفف وطء المصيبة على حسام الذي قال معقبا:
    "ولماذا لم تبلغنا عن الحادث منذ البداية؟ إلا إذا كان هناك ما تريد إخفاءه أو تحريفه".
    أبو حسام زجر ابنه..والأخير رمقني بنظرة ملؤها الشك والنقمة..
    قلت:
    " أحرف ماذا؟؟"
    رد وهو يقوم واقفا:
    "سأعرف هذا من رغد".
    وغادر الغرفة...

    ************************




    الانهيار الذي ألم بي لدى رؤية خالتي لم يكن بسبب رجلي ويدي.. بل بسبب الصورة الأخيرة التي لا تزال مبثوثة أما عيني.. للخطيبين المتعانقين بكل حمية وانسجام.. والتي لم تفلح رؤية خالتي وعائلتها في محوها عن بصري ذلك اليوم..
    أجرى معي أقاربي تحقيقا مطولا عن إصابتي وشرحت لهم تفاصيلها وأوضحت لهم أنه لا علاقة لوليد بالحادث وأن اللوم كله يقع على الشقراء..
    لم أكن أرى غيرها في عيني.. وأردت أن أحرق صورتها بأي شكل.. وبالغت في التعبير عن غضبي منها ومما حل بي بسببها..
    أما خالتي فقد كانت تضع باللوم على نفسها لأنها سمحت لي بالذهاب إلى المدينة الساحلية بعيدا عن عنايتها...
    وبعد أن استوعب أهلي الأمر وهدأت مشاعر غضبهم الأولية أخذت أسرد لهم بعض أخباري وأخبار الجامعة وحياتي اليومية في المنزل الكبير..
    وأخبرتهم كيف كان وليد يعتني بي... ويعاملني بكل لطف ومودة.. وكيف بقي مرابطا إلى جانبي فترة مكوثي في المستشفى.. وأشياء كثيرة كان وليد يقدمها لي بكل سخاء.. لم أشعر بافتقادها إلا الآن..
    والحديث عن وليد لم يعجب حسام الذي قال منفعلا:
    "أنت طيبة يا رغد... ولن تحكمي على ذلك المتوحش إلا بالطيب!"
    قلت مدافعة:
    "لماذا تنعته بالمتوحش يا حسام؟؟"
    قال:
    "هل نسيت كيف هاجمني ذلك اليوم؟ وكيف لطم شقيقه بقسوة أمام عيني يوم كنا في بيتكم يا رغد؟ وكيف جرك من يدك رغما عنك وأجبرك على السفر معه إلى الجنوب. إنه متوحش وهمجي كسائر المجرمين الــ.."
    غضبت كثيرا وقلت مندفعة مقاطعة:
    "لا تنعته بهذا.. لا أقبل منك... كيف تجرؤ؟؟"
    والجملة ضايقت حسام فانسحب من الغرفة التي كنا نجلس فيها..
    حل الصمت على الأجواء.. ثم تكلمت نهلة قائلة:
    "لا تكوني قاسية عليه يا رغد! إنه غاضب لأجلك".
    وأضافت سارة:
    ""يحبك كثيرا".
    التفت إلى هذه الأخيرة فرأيتها تبتسم ابتسامة شديدة الغباء.. كعادتها.. تجاهلتها وجملتها كما تجاهلتها خالتي ونهلة..
    خالتي قالت بعد ذلك:
    "على كل يا رغد.. ها قد عدت ولن أدعك تغادرين ثانية".
    ألتفت إلى خالتي نظرة متوجسة فقابلتني بنظرة شديدة الإصرار وقالت:
    "إلى هنا ويكفي..سنحل هذه المسألة جذريا اليوم قبل الغد".
    ورأيتها تضبط حجابها وتتجه نحو الباب فقلت بقلق:
    "إلى أين خالتي؟"
    قالت بحزم:
    "سأذهب لأتحدث مع وليد.."
    وخرجت مباشرة وتبعتها سارة دون ترك فرصة لي لأي ردة فعل...
    نظرت إلى نهلة في توتر وقلت:
    "ماذا ستفعل؟؟"
    أجابت نهلة:
    "لا أعرف!ربما ستتشاجر مع ابن عمك!"
    قلت مستهجنة:
    "لماذا كلكم متحاملون على وليد؟ قلت لكم إنه ليس مذنبا في شي".
    قالت نهلة:
    "تدافعين عنه لأنك تحبينه يا رغد..لكنه في الواقع رجل متسلط وقاسٍ ومكابر.. إننا جميعا في هذا المنزل لا نرتاح له..."
    قلت بعصبية:
    "إنكم جميعا لا تعرفون شيئا..تصدرون حكما ظالما على شخص لم تعاشروه... أرجوك يا نهلة الحفي بخالتي واطلبي منها الحضور إلى هنا فورا".
    لم تتحرك نهلة فقلت:
    "هيا يجب أن أعرف أولا ما الذي تخطط له"ز
    ولم تتحرك نهلة بالسرعة المطلوبة.. غادرت الغرفة, وعادت بعد دقيقتين.. وما إن رأيتها بادرتها بالسؤال:
    "هل لحقت بها؟"
    قالت:
    "نعم, وهي الآن في غرفة الضيوف".
    صحت بعصبية:
    "تبا! ولماذا لم توقفيها؟ لا بد أنها الآن تتشاجر مع وليد".
    نظرت إلي نهلة نظرة استنكار ثم قالت:
    "لا تخافي على مشاعر ابن عمك!... إنه ليس هنا".
    قلت مستغربة:
    "ليس هنا؟؟"
    قالت:
    "غادر منذ زمن.. يبدو أنه قد رحل فور إنهاء فنجان قهوته!"

    *************************

    إنني تجرعته جرعة كدت أغص بها.. بسبب النظرات التي تقدح شررا من حولي... مصوبا نحوي..
    صحيح أن أبا حسام قدم الاعتذار عما قالته زوجته لي.. لكن ذلك لم يخفف عني شيئا.. وبحياتي لم أقف أمام شخص يدعو علي علنا وبهذا الشكل.. وأكثر ما خيبني هو موقف رغد البارد..
    نعم كنت أتوقع أن يثور أقاربها علي ولكن ليس بهذا الشكل..
    سامحهم الله...
    وصلت إلى شقة شقيقي سامر أخيرا.. ولم أكن قد اتصلت به.. وأردت أن أفاجئه بحضوري...
    قرعت الجرس وغطيت بإصبعي عدسة الباب لئلا يراني..
    قرعت ثانية وثالثة وما من مجيب! لكنني كنت قد رأيت سيارته في المواقف.. ولا شك أنه في الشقة..
    أخيرا سمعت صوتا منخفضا يسأل:
    "من هناك؟"
    لم أتبين ماهية الصوت.. فطرقت الباب لعله يعاود الحديث.. فكرر الصوت بنبرة حذرة:
    "من الطارق؟"
    نعم إنه صوت شقيقي.
    قلت:
    "شخص يريد معانقتك فورا.. افتح الباب".
    وبدا كأن أخي لم يميز صوتي.. ثم رأيت الباب ينفتح بحذر.. ورأيت رأس أخي يطل منه أخيرا..
    اندهشت ملامحه كثيرا وانفغر فاهه.. لكن دهشتي أنا كانت أكبر!
    "وليد!"
    قال والعجب يعلوه..
    قلت:
    "بشحمه ولحمه!"
    لم يفتح سامر الباب وظل محملقا بي لثوان...
    قلت:
    "هل أبدو شبحا؟"
    هنا بدأ سامر يبتسم وفتح الباب ومد ذراعيه لمعانقتي..
    "إنني أكاد لا أصدق عيني! فاجأتني يا رجل".
    ابتسمت وقلت:
    "بل أنا المندهش يا أخي.."
    وأشرت بإصبعي إلى عينه اليمنى وقلت:
    "اختفت الندبة تماما! تبدو وسيما للغاية".
    سامر ضحك وهو يمسك بيدي ويقودني إلى الداخل..
    تذكرون أن جفني عين سامر اليمنى قد أصيبا بحرق بالجمر عندما كان طفلا صغيرا.. وأن عينه تشوهت وأصبحت نصف مغلقه وقبيحة المنظر.. وكان أبي رحمه الله يود إخضاعه لجراحة تجميلية غير أن أوضاعنا المادية في تلك الفترة كانت سيئة..
    في لقائنا الأخير كان سامر قد بدأ علاج الندبة والآن عالج حركة الجفن وما لم يقق الناظر إليها جيدا فإنه لن يكتشف وجود أي أثر أو فرق بين عينيه..
    الحمد لله..
    في داخل الشقة وجدت ضيوفا لأخي.. عرفنا سامر إلى بعضنا البعض, وبعد حديث قصير استأذن الضيوف وغادروا...
    قلت:
    "أرجو ألا تكون زيارتي قد أتت في وقت غير ملائم".
    قال سامر:
    "ماذا تقول يا أخي! إنهم رفقائي في العمل.. نلتقي في كل وقت.. لا تأبه لهم".
    ابتسمت فقال سامر:
    "لكنك فاجأتني! ما سر هذه الزيارة غير المتوقعة؟"
    قلت مداعبا:
    "اشتقت لعينك اليمنى فجئت أتفقدها".
    ضحك سامر ثم قال:
    "بجد وليد.. لِمَ لم تبلغني لأستقبلك في المطار؟"
    أجبت:
    "أردت أن أقتحم عليك الشقة!"
    وضحكت ثم أضفت:
    "في الحقيقة كنا قادمين إلى المزرعة.. فأتيت لأزورك".
    سامر ابتسم ابتسامة خفيفة ثم سأل:
    "و... ورغد؟"
    قلت بعفوية:
    "تركتها في بيت خالتها".
    شيء من التردد ظهر عليه ثم قال:
    "لِمَ لم تحضرها معك؟ أعني أننا لم نسمع من بعضنا منذ شهور".
    آه يا سامر... أتريد القول إنك اشتقت إليها؟؟
    إنني أسوأ شخص لتبدي لهفتك عليها أمامه!
    وربما أحس سامر ببعض الأفكار تدور في رأسي فقال مغيرا الدفة:
    "كيف سارت أموركم المدينة الساحلية؟ وما أحبار نسبائك؟"
    أجبت:
    "الحمد لله.. وهم يبلغونك السلام".
    "سلمهم الله.. ماذا عن أقارب رغد؟"
    قلت:
    "أتيت من منزلهم.. الجميع بخير".
    قال:
    "لم أتصل بهم منذ فترة! ما أخبار حسام؟ هل التحق بالمعهد كما كان يخطط؟"
    أجبت:
    "لا أعرف فأنا لم أطل البقاء لديهم ولم أسمع آخر أخبارهم".
    ثم أضفت:
    "مررت لدقائق مصطحبا رغد".
    عاد ذلك التوتر الخفي إلى وجه أخي وتجرأ وسأل:
    "وكيف هي؟ وكيف تعايشت مع خطيبتك في المنزل؟؟"
    استغربت السؤال كثيرا.. ولماذا تسأل عن تعايشها مع خطيبتي؟؟ وهل تعلم بأن بينهما شيئا؟؟
    قلت:
    "مع خطيبتي؟"
    رفع سامر كتفيه وحاجبيه وقال:
    "آه نعم.. فهي كانت.. أعني أنها لم تكن.. منسجمة معها في السابق... آمل أن يكون الوضع قد تغير!!"
    رباه!
    هل تعرف أنت يا سامر عن توتر العلاقة بين الفتاتين؟ لا بد أن رغد كانت توافيك بالأخبار..!
    قلت راغبا في التأكد:
    "هل.. تتصل بك رغد؟؟"
    بهت سامر واندهش من سؤال ورد مباشرة:
    لا لا!... لم أتحدث معها منذ كنتما معي في الشقة".
    كان ذلك قبل شهور.. عندما مرضت ولازمت فراش شقيقي ليوم وليلة.. هنا في الشقة.. بعد حادث السيارة.. ولكنني لم أعرف أن رغد كانت قد أبلغته آنذاك عن علاقتها المتوترة مع أروى.. حتى أنني لم أكن أعير ذلك التوتر اهتماما حقيقيا آنذاك..
    قلت:
    "حسنا.. يبدو أنك تعرف أن العلاقة بينهما مضطربة".
    ظهر الاهتمام على وجه أخي.. وتابعت:
    "لا تزال كذلك".
    سأل أخي بقلق:
    "إذن كيف كانتا تتعملان مها هناك؟"
    قلت:
    "بتنافر متبادل... خصوصا في الآونة الأخيرة".
    ثم أضفت:
    "والآن هما متخاصمتان تماما".
    قال سامر:
    "توقعت هذا".
    أثار حيرتي وفضولي.. فسألت:
    "عفوا؟؟"
    ارتبك سامر ثم أوضح:
    "أعني.. أن رغد لا تتكيف بسهولة مع أحد.. من الصعب جدا أن تكسب صداقتها.."
    لم أعلق فتابع سامر:
    "إنها حذرة جدا في اختيار من ترغب في منحهم صداقتها.. ولا تتأقلم مع من هم خارج إطار سنها أو اهتماماتها أو مجالها الفكري.."
    سامر!
    هل تريد أن تفهمني أنك تعرف رغد خير مني؟؟
    بالطبع تعرف.. فأنت بقيت قريبا منها طوال السنين التي حرمت أنا فيها منها.. وكبرت وتطورت شخصيتها أمام عينيك...
    وأصبحت أقرب الناس إليك ألصقهم بك..!
    أما أنا فلم أصل للدائرةالتي بارتباطك الشرعي أنت بها..أمكنك تخطيها...
    تأملت شقيقي.. في أعماق عينيه كانت المرارة تتكلم.. إنه يتحدث عن الفتاة التي كانت خطيبته لما يقرب من أربع سنين... والتي كانت قاب قوسين أو أدنى من الزواج به..
    تأملت لأجله.. لكن..
    يا سامر.. ألم تجد في هذه الدنيا غير حبيبتي أنا.. كي تعلق قلبك بها؟؟
    إن رغد.. منذ أن حلت بعائلتنا قبل 15 عاما وأكثر.. أصبحت لي..
    قلت:
    "على كل.. ستظل في بيت خالتها لعدة أيام.. يمكنك زيارتهم وتفقد أحوالها وقت تشاء".
    استغرب سامر وقال:
    "عدة أيام؟؟ غريب! ماذا عن الجامعة. أهي مجازة؟؟"
    صمت قليلا ثم قلت:
    "إنها... في إجازة مرضية طويلة.. فهي.. مصابة بكسور في قدمها ويدها".

    ***************************



    مر يوم وأنا أقيم باسترخاء فيبيت خالتي.. وفر لي أفراد العائلة سبل الراحة وتفانوا في رعايتي والاهتمامبي..
    غير أن ذلك لم يخلصني من التفكير المستمر في وليد... خصوصا وأنه لم يتصلللسؤال عني حتى الآن..
    تراقبني نهلة وأنا ممسكة بهاتفي المحمول في تردد... أأتصلأم لا؟
    "هل يصعب عليك الاتصال بيدك اليسرى؟ دعيني أساعدك".
    قالت ذلك نهلةبخبث.. فهي تدرك ما الذي يدور برأسي..
    قلت مستسلمة:
    "الغريب أنه لم يخبرنيقبل مغادرته ولم يتصل ليتفقد أحوالي.. في المنزل كان يتفقدني ألف مرة في اليوموالآن نسيني!؟ لا سلام ولا كلام ولا خبر... لا أعرف إن كان قد ذهب إلى سامر أم عادإلى الشقراء".
    وتذكرت صورتها الأخيرة فامتقع وجهي... ثم تذكرت حديثها الأخير معيصباح الأمس.. فأبعدت الهاتف عني..
    لاحظت نهلة حركتي الأخيرة فقالت:
    "جيد! لاتتصلي.. واختبري مدى قدرتك على تحمل بعده".
    قلت:
    "لا أتحمل.. لا يمكنني تخيلحياتي بدونه! سأموت إذا ابتعد عني".
    رفعت نهلة حاجبيها ونظرت إلى السقفاستنكارا..
    قلت مدافعة عن كلامي ومؤكدة له:
    "إذا تخلى عني فسوف أموت فورا.. صدقيني... لا أستغني عنه يوما ولا ساعة... والدخيلة البغيضة.. اللصة.. تطلب منيالخروج من حياته.. تريد الاستحواذ عليه لوحدها.. تظن أنها أقرب وأحق بهمني".
    هبطت نهلة ببصرها من السقف علي وعلقت:
    "وهي على صواب يا رغد!"
    توترتوكدت أصرخ.. حتى أنت يا نهلة؟؟ حتى أنت؟؟
    قلت بعصبية:
    "كلا.."
    ردت نهلةمباشرة وبشيء من القسوة:
    "يا رغد... لمَ لا تستفيقين من أحلامك الخرافية؟؟ ماالجدوى من حب رجل متزوج؟ إنك تهدرين عواطفك سدى".
    أحست نهلة بأنها قست علي.. فأقبلت نحوي وأمسكت بيدي اليسرى وقالت مواسية:
    "أنا قلقة عليك.. وأفكربعقلانية.. لقد مضت فترة طويلة.. وأنت لا تزالين تحلمين بالمستحيل.. تعذبين نفسك.. انظري إلى أين وصلت؟"
    وهي تشير إلى عكازي..
    ثم تابعت:
    "آن الآوانلتستفيقي.. اتركي الرجل وخطيبته يواصلان مشوارهما.. بسلام.. وانتبهي أنت لنفسك.. والتفتي للشخص الذي ينتظر منك الإشارة ليغمرك بكل الحب والحنان اللذينتحتاجينهما".
    نظرنا أنا ونهلة لبعضنا نظرة طويلة... عميقة... وأنا أشعر بأنالدنيا كلها تتخلى عني وتقف في صف أروى..
    فجأة رن هاتفي المحمول فسحبت يدي بسرعةمن بين يديها وأخذت الهاتف وأجبت حتى قبل أن ألقي نظرة على اسم المتصل..
    سمعتنهلة تقول باستنكار:
    "أنت حالة ميؤوس منها!"
    لم أعرها امتماما وتحدثت عبرالهاتف بلهفة:
    "نعم مرحبا".
    متوقعة أن يكون وليد..
    لكنه لم يكن!
    لقدكان.. سامر!
    سألني عن أحوالي.. وعن إصابتي وحمد الله على سلامتي.. ودار بينناحديث قصير علمت من خلاله أن وليد سيظل معه بضعة أيام..
    ثم قال فجأة:
    "هليمكنني أن أزوركم الليلة؟"
    اشتعل وجهي احمرار من الحرج.. تعثرت في كلامي ولكننيأوصلت إليه:
    "بالطبع.. أهلا بك.. سأخبر خالتي بهذا".
    وبعد أن أنهينا المكالمةنظرة إلى نهلة فرأيتها تحملق بي بخبث!
    قلت:
    "إنه ليس وليد بل سامر".
    عادتتنظر إلى السقف...
    قلت:
    "ويريد أن يحضر لزيارتنا الليلة".
    نظرت إلي بخبثوقالت:
    "تعنين لزيارتك".
    تنهدت وقلت وبريق الأمل يشع في عيني:
    "وبالطبعسيأتي وليد معه.. سأطلب من خالتي أن تعتذر إليه".
    وفيما بعد تحدثت مع خالتيووعدتني بأن تتحدث مع وليد بهدوء وتعتذر عما قالته يوم أمس...
    وعندما حلالمساء.. وعند الثامنة والنصف قرع جرس المنزل..
    انتظرت إلى أن جاء حسامليخبرني:
    "يرغب ابن عمك في إلقاء التحية عليك".
    قلت بشوق يكاد يفضحني:
    "هلحضر وليد؟"
    نظر حسام إلى نهلة الجالسة بقربي.. ثم إلي وقال:
    "لم أعن هذاالـــ.."
    وانتبه لنفسه ولم يتم.. ثم قال:
    "أعني سامر".
    قلت بخيبةأمل:
    "وحده؟"
    أجاب:
    "والاي معه الآن.. تعالي لتحييه".
    نظرت إلى نهلةففهمتني..
    قمت ورافقت حسام إلى غرفة الضيوف.. حيث كان سامر يجالس خالتيوزوجها..
    ما أن رآني حتى وقف ونظر إلى العكاز وعلت تعبيرات وجهه علامات المفاجأةوالألم..
    أما أنا فقد دهشت للتغير الجديد في مظهر عينه...
    "مرحبا سامر.. كيفحالك".
    بادرت في تحيته فرد والقلق يغلف نظراته وصوته:
    "مرحبا رغد.. كيف حالكأنت؟ سلامتك ألف سلامة".
    قلت:
    "سلمك الله. الحمد لله إصابتي في تحسن.. تفضلبالجلوس".
    وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث نحن الخمسة ساعة من الزمن ثم استأذن سامرللمغادرة..
    قبل انصرافه أعطاني ظرفا قال لي أنه من وليد... وسألني عما إذا كنتبحاجة لشيء فشكرته وودعته على أن نبقى على اتصال...
    أما الظرف فقد كان كما توقعتيحوي مبلغا من النقود...

    ********************************
    إنها النقودالتي كانت في محفظتي ونسيت تسليمها لرغد بعد أن أصابني الإرباك وأنا أراها جالسةعلى عتبة المنزل في المزرعة...
    لم أرغب في الذهاب.. لذا تركت شقيقي يخرجلزيارتها وتسليمها النقود بنفسه.. وبقيت وحيدا في شقته..
    كما أنني أيضا لم أرغبفي الاتصال لا بها ولا بأروى.. وآثرت البقاء بعيدا عن كليهما لبعض الوقت..
    باشرتبتنظيم الحاجيات القليلة التي حملتها معي.. وعندما فتحت خزانة الملابس الخاصةبشقيقي فوجئت برؤية فساتين نسائية معلقة آخر الصف...
    أصابتني الدهشة والحيرة.. وتملكني الفضول لإلقاء نظرة على بقية الخزانة والأدراج.
    لن تصدقوا أنني وجدتخاتم خطوبة سامر الفضي موضوعا في أحد الأدراج مع مجموعة من علب الهداياوالمجوهرات...
    وكان أحد الأدرلج مقفلا والله الأعلم.. ما الذي يخبئه شقيقيفيه...
    أخذت أعبث بالخاتم في يدي وأنا شارد التفكير.. وشاعر بقلق شديد علىسامر..
    وفكرت في الألم الذي يعانيه وفي الصدمة التي ستصيبه إن أنا تزوجترغد..
    إنها نفس المشاعر التي عانيت مرارتها حين اكتشفت ارتباطه هو بها..تجربةقاسية جدا لا أريد لشقيقي الوحيد أن يخوضها..
    وأضافة إلى عشرات المشاغل والهمومالتي تثقل صدري وتزدحم في رأسي, أضفت اليوم هما جديدا... اسمه سامر..
    ولم أدريومها.. أنه الهم الذي سيحتل المركز الأول في قائمة المصاعب التي لا يزال القدريخبئها لي في المستقبل القريب..

    *****************************





  10. #170
    Pb Elite
    تاريخ التسجيل
    Nov 2008
    الدولة
    In my own mind
    المشاركات
    1,508

    افتراضي

    ايمى انا حملت حلقه واحده وجيت افتحها متفتحش الظاهر انى معنديش البرنامج اللى يفتحها
    اعمل ايييييييييه؟.
    شوفيلى حل

صفحة 17 من 19 الأولىالأولى ... 71516171819 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. أغلى من حياتى
    بواسطة chocolata في المنتدى المنتدى الأدبي
    مشاركات: 40
    آخر مشاركة: 25-07-2011, 03:44 AM
  2. (في الكلية) من 2006 لدلوقت
    بواسطة AlaDDin في المنتدى في الكليـه
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 23-08-2010, 10:00 PM
  3. اخوتى .... هم حياتى .....
    بواسطة AbU ElKhAiR-Let`s Go في المنتدى المنتـدى العـام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 22-08-2010, 04:03 PM
  4. الجزء الاخير:مخلوقه اقتحمت حياتى
    بواسطة S!lent Tear في المنتدى المنتدى الأدبي
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 14-08-2010, 02:18 AM
  5. حب حياتي
    بواسطة ahmed kewan في المنتدى المنتدى الأدبي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 15-02-2009, 02:21 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •