جلس أبو ملك يختلس النظر كل وهلة إلى ساعته و علامات القلق تظهر على ملامحه ، يراقبه من قرب أبو فارس الذي لم يساهم إلا في زيادة قلق و مخاوف أبو ملك بتأخرنا على موعدنا المهم .
وصلت سيارة الأجرة التي كانو على متنها إلى المكان المطلوب ، و ما إن توقفت حتى نزل الاثنان بخطوات متسارعة توحي لمن يراهم بتأخرهم على شيء في غاية الأهمية .
دقائق معدودة حتى وصل الصديقان إلى وجهتهما حيث كان بانتظارهم كالعادة أبو حبيبة و أبو محمد ، تصافحو جميعا و كأنهم متفرقين من قرون عديدة و لكنهم في الحقيقة يتقابلون لقاءات شبه يومية تفصلها سويعات معدودة و لكن هذه المصافحات الحارة سببها يكمن في علاقتهم القوية الطيبة التي تملؤها روح الأخوة و الصداقة .
انتهى الجميع من أعماله و حان وقت مغادرة الجميع و إذا بأبو محمد يستوقف بقية المجموعة و يطرح عليهم اقتراحا بأخذ يوم أجازة و الاستجمام قبل استكمالهم لدوامة العمل التي يبدو أنها لن تنتهي أبدا ، استقبل كلا من أبو فارس و أبو حبيبة الاقتلااح برحابة صدر و ترحيب شديدين و لكن مخاوف أبو ملك من بعض الأشياء ظهرت في رده المتردد و ذلك لأنه أكبرهم سنا و دائما ما يحكم عقله و يدرس الأمور من جميع النواحي و من ثم يأخذ قرارا متأنيا يحكمه العقل و الحكمة التي تناسب مكانته بيهم ، و كانت حجته الظاهرة هي عدم توفر المال للقيام بمثل هذه الرحلة المفاجئة في حين أن سبب رفضه للذهاب في حقيقة الأمر هو تخوفه من فكرة إيجار السيارات و السفر بها لمسافات طويلة و هو ما أخبر به أبو فارس لاحقا نظرا لقربهما و علاقتهما طويلة الأمد التي عاشو فيها أياما لم و لن تنسى أبدا .
حاول الجميع إقناع أبو ملك للعدول عن رأيه و الموافقة على الذهاب معهم ، و بعد محاولات عديدة و هجوم فكري مكثف نجحو في إقناعه بالذهاب معهم و لكن قلقه من حوادث الطريق و مخاوفه التي كانت سبب رفضه في المقام الأول لم تتركه و ظلت ملازمة لفكره طوال الوقت .
ودع أبو محمد بقية المجموعة و عاد إلى مدينته ليقوم بتأجير السيارة و تحضير مستلزمات الرحلة و قد صمم على استئجار سيارة حديثة موديل السنة و في غاية الفخامة رغم اعتراض بقية المجموعة على هذا الموقف إلا أنه اسكتهم حين أخبرهم بأنه سيتكلف بكل شيء و أنها لا علاقة لهم من قريب أو من بعيد بأي شيء و ما عليهم سوى الاستعداد و انتظاره مبكرا .
و بعد ذهاب أبو محمد ، قررت بقية المجموعة الذهاب للعب بعض تنس الطاولة رياضتهم المفضلة المشتركة ، توجهو جميعا إلى الصالة الرياضية و كلهم حماسة و مناوشات جانبية و توعد أن يغلب منهم الآخر ، أمضو وقتا ممتعا لم يتجاوز الساعة و توجهو جميعا إلى بيوتهم في انتظار موعد لقائهم غدا .
و في طريق العودة ذهب أبو ملك و أبو فارس كعادتهم للجلوس قليلا في منزل أبو فارس لتناول الشاي و تبادل الأحاديث المهمة التي تمس كل ما يدور حولهم و معهم من مشاكل في شتى مجالات الحياة ، و حينها دار هذا الحديث :
أبو فارس : إيه يا ميزو مالك مش عايز تيجي ليه يا عم ؟ متبقاش خنيق بقى و تعالى ده هوا يوم و مش هيتكرر عشان إحنا هننشغل جامد الفترة الجاية و إنتا عارف إننا مش هنعرف نروح أي مكان .
أبو ملك : يا ابني الفكرة مش كده ... .
قاطعه أبو فارس متجهما : أمال ف إيه يا سيدي هتقولي فلوس أظن مش دي المشكلة .
أبو ملك : ماشي يا سيدي دي أمرها بسيط ، بس إنتا عايز الحق بقى
أبو فارس : آه يا ريت عشان أنا شوية و هقوم أخنقك
أبو ملك بابتسامة باهتة تحمل قلق الدنيا ؛ أنا مش مرتاح للسفرية دي يا حمادة و بصراحة كده حاسس إننا هنعمل حادثة و أول مرة الإحساس ده يخوفني كده .
أبو فارس مشيحا بوجهه : يا سيدي سيبها لله العمر واحد و الرب واحد و اللي مكتوبلنا هنشوفه .
تمتم أبو ملك قائلا : و نعم بالله يا سيدي ، عموما ربنا يسترها بقى ، اديني هدبر المبلغ و جاي و أمري لله ، عدي روحني بقى يله عشان اتخنقت منك .
أبو فارس مبتسما : ما تستنى تقعد أغلبك ماتشين بلاي استيشن يمكن حظي يكون حلو و النحس يتفك النهاردة .
أبو ملك بابتسامة المنتصر : ما بلاش للمأساة تتكرر تاني .
أبو فارس مغتاظا بمزاح : و ماله ما إنتا بتكسب بالكوسة .
ضحك الاثنان سوية ، و بدأت بينهما معركة كل يوم في كرة القدم ، كلاهما يلعب و تشتد المنافسة بينهما و نتهتي فب أغلب الأوقات لصالح أبو ملك الذي غالبا ما ينعته صديقه بحظه الوافر ، مضى ما يقرب من ساعتين حتى أحس كلاهما بالتعب فرحل أبو ملك و ترك أبا فارس لينعم كليهما بوقت وافر من النوم و الراحة استعداد ل " رحلة الموت " غدا .
استيقظ أبو ملك على دقات المنبه التي تصرخ من التعب من كثرة تكراراها و عدم تجاوبه معها إلا بأن يكتفي بأن يخرسها رغم أنا لم تفعل شيئا إلا وظيفتها التي وكلها بها ، فهل هذا جزاؤها !!
يرن الهاتف في إصرار ليستجدي صاحبه بأن يرد عليه ، المتصل أبو محمد كما توعد الجميع بأن يقلق منامهم ليستيقظو باكرا من أجل اليوم الموعود .
لم يستطع أبو ملك القيام من منامه بسهولة ، فقام على خطوات كما تعود أن يفعل حينما يقض أحدهم مقامه ، يعتدل من منامه و يزيح الغطاء عنه بتثاقل شديد و من ثم يتوقف لحظة يمسح بها على رأسه حتى يستفيق و يلبس حذائه و يقوم ليتوضأ و يصلي و يحضر إفطاره الخاص مع كوب القهوة الذي أصبح جزء لا يتجزأ من وجبة الإفطار ، و من ثم يقوم بتحضير ملابسه و يضع عطره المميز و ينطلق بعد قيامه بعدة اتصالات مع بقية رفاقه للاتفاق على مكان الاجتماع .
وصل الجميع إلى مكان الاجتماع في وقت لا بأس به ، تصافح الجميع و قابلنا شخصا جديد سيذهب برفقتنا و هو من معارف أبو محمد ، و هو من سأشير إليه في بقية القصة ب " سائق الموت ".
بعد ترحيب الجميع به و إثناءهم على السيارة و جمالها و حداثتها ، بدات " رحلة الموت " ، جلس أبو ملك بجواره قام بتحليل شخصيته و حاول التقرب منه و معرفة جوانب شخصيته أكثر ، إنسان مهذب ملامحه هادئة و لكن بداخله إعصار من التخبطات و الأشياء المتناقضة ، قام بتشغيل الأغاني على أعلى صوت و هوا ما ساهم في زيادة قلق أبو ملك فقد تعود على سماع الكثير من القصص و الأحداث عن وفاة مجموعة من الشباب بسبب قيادة أحدهم المتهورة و دائما ما يكون مسجل السيارة مشغلا بالأغاني الصاخبة ، ساهمت قيادته المتهورة أيضا و التي جعلت كل عضلة و كل خلية من خلايا جسد أبو ملك تنتفض من الرعب و الخوف ، في بداية الأمر كان يظن أبو ملك أن سائق الموت يفعل ذلك ليبرز مهارته و تميزه و هو ما تبين فيما بعد أنه ليس إلا تهورا و طيشا ، مواقف كثيرة و أماكن عدة كان بينهم و بين الموت خطوة و لحظة و لكن برحمة الله تعالى نجوا أكثر من مرة ، لم يتجرأ أحدهم في إبطاء هذا المتهور أو حتى لفت نظره إلى ما يقوم به ، استمر القلق المصحوب بعصبية خفية على الجميع و دار بينهم حديث مشؤوم عن السرعة
أبو حبيبة يتبادل نظرة استغراب على لوحة السيارة و يتبعها بنظرة كلها قلق : إيه ده !! ده إحنا هنعدي ال ١٧٠ أهو
سائق الموت بكل تفاخر : أنا أكبر سرعة سقت بيها كانت ٢٠٠ ، كنت سايق اسكودا بس ع الطريق الساحلي بقى
أبو فارس : أنا بقى أقصى سرعة سقت بيها ١٨٠ ع الطريق ده لما كانت معايا اللانسر المكوة و العربية كانت ثابتة معايا و كنت سايق ع الطريق ده طيارة .
أبو ملك مقاطعا : الله يرحمك يا عزيزة آخرك معايا كان مية ، مية و عشرين بالكتير ، ألف حمد و شكر ليك يا رب ، قالها و هو يقبل كفيه في مشهد فكاهي ضحك على إثره الجميع ثم عم الصمت القاتل .
من بعيد يلوح في الأفق كوبري ضيق عليه سيارة من سيارات النص نقل تكاد تغلق هذا المعبر الضيق ، و نحن على سرعتنا هذه التي قاربت المائتان إلا قليلا ، فإذا بصاحب السيارة النصف نقل يطيح على يمينه في حركة مفاجئة تعترض مسارنا ، أبواق سيارتنا تصيح في وجهه و المكابح تصرخ صرخة طويلة مدوية ترج أصداء الكون و رغم كل ذلك إلا أن السيارة أبت أن تقف و كان الاصطدام العنيف جدا الذي ألقى بالسيارة التي أمامنا بعيدا لتترنح و كأنما أصابتها الثمالة الشديدة و بصوعبة بالغة ينجح صاحبها في استعادة السيطرة عليها ثم ينطلق كالرصاصة لا أثر له .
ركاب مركبة الموت و كأنما غشيتهم السكينة مرة واحدة ، توقف بهم الزمن لحظة الاصطدام و كأن الكون حولهم في صمت هائل و كأن الدنيا خالية من البشر و من الأحياء كلهم لا يرون إلا حركة أجسادهم و هي تتحرك في بطأ السلحفاة و ترتد مرة أخرى بقوة حتى استفاقو جميعهم على صوت الارتطام العنيف الذي أخذ صداه يتردد في مسامعهم و كأنه توابع زلزال عنيف .
توقفت السيارة على مقربة من حافة الكوبري مخلفة ورائها آثار الإطارات التي انتشر في الهواء رائحة احتراقها التي سببها الضغط الشديد على مكابح السيارة بسبب التوقف مرة واحدة .
نزل الجميع من مركبة الموت ليطمأن كل منهم على صاحبه في حين ذهب الشابان الآخران ليتفقدا آثار الحادث المروع .
جموع غفيرة ترددت على مكان الحادث ليطأنو عليهم و يتفقودو خسائرهم و التي اجتمع الجميع على أنها قابلة للتعويض طالما لم يتأذى أحد منهم و أنهم جميعا بخير .
دقائق عدة مضت على وقوفهم ليستعيدو أنفاسهم التي سلبت على حين غفلة ، سائق الموت و أبو محمد كانو يتوجعون من خسارتهم الفادحة في السيارة ، بينما أخذ البقية يحمد الله تعالى على عدم تجاوز الأمور لهذا القدر .
رشح الجميع أبو ملك ليقوم بقيادة السيارة في مشوار الرجوع و حلت الطمأنينة قليلا على الجميع فأبو ملك يتميز برزانته و تحكيم عقله في القيادة بالإضافة إلى أنه سائق ماهر .
قفل الجميع راجعين إلى بيوتهم ، كل ممدد الآن على سريره يسترجع الحادث و يقوم بمحاسبة نفسه و يضع اعتبارات عدة .
سؤال وحيد يلح على تفكير كل فرد منهم : ماذا لو لم أنج من تلك الحادثة !!
بقلمي
19 - 04 - 2012
في الختام .. اعتذر من الجميع عن عدم قدرتي على المتابعة و المشاركة في مواضيعكم المميزة .. لظروف علاجية خاصة بسبب الحادثة ..
اتمنى للجميع التوفيق .. و تقبلو فائق احترامي و تحياتي ..
دمتم بخير ..