سيزيف ما بين اليقظة و النوم ..!
"انا..
أنا اللى بينكم هنا
رضيت بالعذاب
لحد ما قلبى داب
و لا دوقت يوم هنا..
أنا.."
استمرَ رنينُ الهاتف بصوت الملك "مُـنير" لمدة رُبع ساعة تقريبًا قبل أن يؤرق نومى..كُنتُ فى حالةٍ مُزرية منَ الإجهاد لدرجةٍ تمنعنى من فتح عينيَ..أغلقت الهاتف وأنا مطبق الجفنين,وبقيتُ ما بين اليقظة والنوم,أتقلب على سريرى يمينًا ويسارًا فى بُطأ,وكأننى طافيٌ على سطح النوم..تتقاذفنى أمواج الإجهاد..لا أستطيع الهروب منها إلى بر اليقظة ولا إلى قاع النوم العميق..
بعد صراع شديد, تمكنت من تحريك أجفانى المُجهدة لأجد الضوء يبدأ فى طرد الظلام الذى يتشبث بجوانب الغرفة,يبدو أن الساعة تـُقارب الواحدة,إذن أنا نائم لما يزيد عن اثنتى عشر ساعة,نهرتُ نفسى على ذلك الكسل المُفرط,دفعت أقدامى لتسقط على أرض الغرفة,مشيت متثاقلا تجاه الباب لأفتحه,وأفتح معه باب مسلسل حياتى اليومى,وهو كالتالى:
يبدأ بـ"الدوش"البارد فينتعش جسدى,ومع كل قطرة ماء تسقط عليه,تسقط قطرة أخرى من ذكريات اليوم السابق من عقلى,نتهى منه وأذهب لإعداد قهوتى اليومية,التى أتلذذ بها مرتين :الثانية بمذاقها,أما الأولى فبصوت غليانها ,ذلك الصوت الذى تغلى أفكارى وخواطرى معه .
عدت لغـُرفتى,بينما أنا مُسترخى على مكتبى ,مُسندٌ رأسى إليه,شعرت ببقايا النوم تتكاثر تحت جفنيّ,دفعت رأسى لأعلى واحتسيت فنجان القهوة ..ولكنها _على غير عادتها_لم تستطع إيقاظى.إن النوم واليقظة كليهما متكاملان بالنسبة للجسد:فأنت إن قضيت يومك مُتراخيًا كَــسِلاً, ستشعر بالقلق ليلاً ,وكذلك إن لم تنم جيدًا,بالطبع لن تشعر باليقظة الحقيقية.
أما من ناحية الروح,فهما يتكاملان أيضًا:فى بحار النوم نرى جمال الشعاب الأحلامية..ونتمتع بلآلىء الخيالات والرؤى.. ذلك إن لم تطاردنا سمكة قرش على شكل كابوس ,وفى يقظتنا نفكر,نخطط ,ونعمل من أجل تحقيق ما نحب أن نكرر رؤيته من عالم الأحلام فى عالم الواقع.ولكننى الآن ما بين اليقظة والنوم_كما قلت_لذا لا أملك إنتباه العقل وصحوة
الفكر,ولا حتى جمال الأحلام وروعة الرؤى..
أمسكتُ بقلمى..حاولت أن استجمع فُتات أحلامى وأفكارى..فعجزت.
حاولت أن أستحضر روحى على الأوراق لأخاطبها..فعجزت.
حاولت أن أصرخ بالكلمات عسى الصٌراخ يُرحنى..فعجزت.
حاولت أن أكتب شيئًا..أى شىء ..فعجزت أيضًا..!
للأسف لقد تسلل الملل إلى كلماتى ..وتسرب منها إلى روحى ..فصرت مُشتتا..لأقصى درجة.
إن أقسى ما يؤلمنى هو إحتباس المعانى بداخلى,فأنا أمسك قلمى ,أبدأ بتسلق الأسطر..واحدًا تلو الآخر..هذا هو قدرى ,خــطِر جدًا ..وممتع جدًا..خطورة تسلق الأسطر,والمشى عليها كلاعب السيرك قد تعرضك للسقوط فى أى لحظة,ولكننى أتحملها من أجل متعة الوصول لقمة المعنى وراحة التعبير عن النفس.
إن حالى يذكرنى بأسطورة سيزيف,تلك الأسطورة التى ناقشها الفيلم الأكتر من الرائع "ألف مبروك"..وتقول الأسطورة بإيجاز :"أن الفتى سيزيف أخطأ فى حق الآلهة,وحاول تحديهم ,فعقابوه بعقوبة أبدية:وهى أن يدحرج صخررة ضخمة لأعلى قمة تل منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التل، تفلت الصخرة دائما منه ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى. عقوبة العذاب الأبدى السيزيفية ذات سمة جنونية جدًا,ولكن سيزيف كان يؤدى العقوبة فى كل يوم مع علمه بالنهاية المحتومة وتكرار المآساة,كأنه يتحدى من عاقبوه, و يتحدى نفسه."
بعيدًا عن المعنى الدينى , وبعيدًا عن الآلهة_تنزه عز وجل عما يقولون وحده لا شريك له_و ما إلى ذلك من خرافات الأساطير الإغريقية,وتركيزًا على الجانب المعنوى للأسطورة,كلٌ منا بداخلهِ سيزيف,ولكن مع إختلاف الصخرة,وكذلك إختلاف قدرة التحمل وصلابة العزيمة.
ولكننى أختلف عن سيزيف قليلاً,فصخرة المعانى بداخلى تتزايد فى كل يوم ..حتى أصبح من المستحيل علىّ حملها دون أن أنقص من حجمها ليقدر كاهلى على استيعابها,وذلك ما أحاول أن أفعله بواسطة قلمى.أستخدمه كإزميل..!
كل محاولاتى ف الكتابة ما هي إلا نحتٌ بالقلم فى صخرة المعانى..أستجمع قواى وأنحت من هذه الصخرة الضخمة تماثيل أو تحف على شكل أشعار وخواطر.
أعتقد أن حالتى المذرية ما بين اليقظة والنوم قد أثرت علىّ بشدة..فلم أتحمل هذا الكم الهائل من المعانى فى صخرتى المتضخمة,وسقطت.ولكننى بكتابة ما تقرأه أنت الآن..قد عبرت عما أشعر به نسبيًا..وحاولت تقليص حجم الصخرة ..عسانى أقدر على حملها غدًا..
لك أن تقرأ خاطرتى مرةً ثانية وتتأكد بنفسك أنها تحمل الكثير من المعانى.أما أنا,فاتركنى رجاءً..حان موعد رحيلى عن عالم اليقظة بمعانيه وأفكاره المؤلمة إلى عالم ِ النوم و الراحة ,كما استيقظت على صوت الملك "منير",سأنام عليه..
أستلقيت على سريرى..شغلت هذه الأغنية..وغرقت فى بحار النوم.
"ســــــــؤال..بـــســألــك
إيــــــــه آخــرة الـترحـــال
وســـــهــــر الــلـيـــالــى
وكــــــــل يــــوم بــحـــال
ســــــــؤال..بـــســألــك
إيــــــه آخـــرة الــعـــذاب
تِـــعــبـــنــى ســـؤالـــى
يــا ريـت ألاقـى جــــــواب
يـــا ريــت ألاقـــــــى جـــــــــــواب
يــــا ريـــــت ألاقـــــــى جـــــــــــــــواب"
محمد فوزى