فى يومِ من أيامِ الصيفِ الحارة وكأن الشمس أقتربت من الأرض تداعبها عنوةً وتبثُ أشعتها المحرقة ،كعينِ شاب يتفحص فتاة جميلة بعين ثاقبة, على صعيد أخر يجلس شاب آخر فى زاوية مندثرة فى مقهى مقتظ بالبشر. فما هو إلا شىء طبيعى فى تلك الساعة من منتصف النهار أن يلجأ الناس لمأوى من الجو الحار ربما ليستريحوا قليلاً أو ليشربوا شيئاً رطباً يحول بينهم وبين الثورات التى تثور فى الدم والتى يقف ليشجع إندلعاها ذلك الحر الشديد. أخذ يقلب فى أوراقه كالباحث عن بئر ماء فى جوف الصحراء،يلمس شعره بأطراف أصبعه تارة ويحرك نفس الإصبع ليرفع نظارته الطبية تارة أخرى ليعود مجدداً لأوراقه يبحث عن كنزة الضائع وسط مغارات الكلمات المتبعثرة على الورق ،وإذا بصوت ناعم كنسيم يوم النيروز يأخذه مما فيه ويقول له بكل رقة و ثقة : أيمكننى أن أجلس هنا ؟ فكل الأماكن منشغلة بأناسِ أُخر وأنا فى إنتظار زميلة لى.
ما أن رفع عينيه عليها، وكأن كنزه الضائع تمثل فى وجهها بدلاً من الورق ! ،وأخذ يبحث عنه فى مغارات أخرى تتمثل فى عين بُنية تلائم ذاك الكُحل الغجرى وشعر كستنائى يُلهبك بلونِه الأحمر فوق حرارة الجو وأطرافه البُنيّة تبرِد من روعك قليلاً. وشفتيها التى ترتسم عليها بسمة رجاء مع إنتظار لذلك الأبله أن يرد ! فأدلفت قائلة : هل يمكننى ذلك ؟
فأفاق مما فيه وأدرك أنه تلك الثوانى كان ثاغر فاه بشكل مضحك فتدارك الموقف وغلق فاه ليتحدث سريعاً بــ : نعم ,نعم يمكنك ذلك بالتاأكيد
ساد الصمت لثوانى عدة قبل أن تقطع هى تلك الثوانى الثقيلة : أنا أسفة حقاً ويمكنك بالطبع مواصلة عملك ستأتى صديقتى فى أى وقت .
قاطعها : لا أبداً أنه شرف لى ،ولكن تلك أول مره أراك هنا أأنتى من خارج البلدة ؟
أجابته مبتسمة مستعجبة : وهل أنت تعرف كل فتيات البلدة لتخمن أنى لست من هنا ؟
_لا ولكن أرتاد هذا المقهى دوماً وتقريباً أعرف كل مرتاديه ونتجاذب أحياناً أطراف الحديث .. هذا تزوج .. هذا طلّق .. وهذه أنجبت .. وتلك غادرت .. وذاك أتى .. البلدان الصغيرة من الصعب أن تحتفظ بسر يا سيدتى
_ أمم, وأهل البلدان الصغيرة أيضاً متفننون فى إفشاء اسرارهم وكأنها شربات عِرس يتداولوه بكل فرح .
أجابها ضاحكاً : أذاً أنتِ لست من هنا.
_لا أنا فى زيارة هنا لأقارب لى وصديقتى التى أنتظرها ما هى إلا قريبة أخرى أتفقنا أن نلتقى هنا ونجلس سوياً ثم ستعود أخر اليوم لبيتها فى بلدة أخرى مجاورة .. كفانا حديثاً عن البلدان والأقارب .. كل هذه الأوراق لك ؟ أتنوى أن تبيع كل ممتلكاتك وتهرب من عروس أخليت بها بعد وعود الزواج أم أنك مجرد كاتب يلهث وراء الكلمات على الورق ؟
تعجب لجرأتها فى الحديث وكيف أنتقلت من بداية حديث سطحى لتسأل عن أغوار نفسه دون ذرة قلق واحدة من ردة فعل منه غير مستحبة ! ،بلع ما تبقى من ريقه وأجابها والأحرف تختلط ببعضها ودون أن يدرى ترتسم على شفاه بسمة بلهاء : مثلى لا يَعِد فتيات بالزواج .. الفتيات التى عرفتهن فى حياتى كلها كنا بنات افكارى لذا تستطيعى القول أنى كاتب ،أو أحاول أن أكون !
قالت: أمم ... ألم تسمع عن الذى قال :
"لا تجالس أنصاف العشاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، لا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت"
قال وإبتسامة عريضة على شفتيه : جبران ,رحمه الله عليه أتقرأين له ؟ .. لم يعلم حتى تلك اللحظة أنها لم تكن أبداً بنص موهوبة كما سيعرف لاحقاً أنها ليست بنصف عاشقة !
قالت : نعم أقرأه وأقرأ لغيره عدة !
_حقاً ؟ لمن تقرأين ؟
_لأدباء أنصفهم تاريخهم لما قدموه من روائع ، ماذا عنك ؟ هل يمكننى فى يوم من الأيام أن أقرأُك أم أنك ستظل تُكرر "أنا كاتب أو أحاول أن أكون ! "
_أُحرج قليلاً ثم أردف ببعضاً من العصبية : إذاً ماذا تفعلين أنتِ فى الحياه ؟ من المؤكد أنك جئتى لأقاربك لتقضى عندهم عُطلتك الصيفية فى الجو العائلى وسط النزهات والعزائم ، تلك القصة المعتادة المتعارف عليها من الفتيات مثلك .
_فى الحقيقة أتيت هنا لأزور عمى وأنهى روايتى الأولى لتكون جاهزه للنشر فى مطلع الشهر القادم ، وقد جئت وحدى لا لأقضى أجازة صيفية ولكن لعمل أدبى بحت .
_كاد أن ينطق "يا لحظى ! حين أردت أن أكون متحذلقاُ أوقعنى القدر فى أيدى كاتبة تلعب بالكلمات وتتحايل بالعبارات دون كلل " ولكن كان الصمت سيد تلك اللحظة.
فقطعت هذا الصمت وقالت : أسفه أن خيبت ظنك بى ولم تجدنى فتاة عادية فى نظرك !
أدلف قائلاً : أتجدى نفسك إستثنائية إذاً ؟
أجابت بُسرعة بديهه : أليس كل البشر إستثنائيين بطرقهم الخاصة ؟!
_أنتِ محقة , أتعلمين أن بداخلى أيضاً شخص إستثنائى ؟ نعم،أنه كالحى الميت كما يقولوا فى الأفلام الخيالية "زومبى"
وهنا أنطلقت منها ضحكة .. يكاد يقسم لاحقاً لأولادهم أن تلك الضحكة جذبت نص وجوه المقهى إليهم وجعلته مبتسماً يتأمل تفاصيل وجهها أثناء ضحكتها التى سكنت أذنه حتى يوم مامته ويكاد يحزم أن تلك اللحظة الأولى التى يشعر فيها بأن يوجد شيئاً فى جسده يدق ويعطيه الحياه !
_إلتفتت عن يمينها فجأه وإذا بصديقتها تلوح لها .. فأستأذنت لتذهب وشكرته لسماحه لها بالجلوس ,فرد متعجلاً : ألن نلتقى ثانية !!
_أتركها للصدفة فريما "سنلتقي بعد قليل بعد عام، بعد عامين و جيل" !! وأخذت حقيبتها وتركته مسرعة نحو صديقتها وخرجوا من المقهى وعينه تراقبها حتى أختفت فى الشارع المقتظ بالناس .
تركته مع تلك الإقتباسة من الكاتب "محمود درويش" التى أبهرته فوق إنبهاره بعدما أخذت قلبه ربما فى حقيبة يدها ، وجلس ليلتقط ماتبقى من أنفاسه ويتعجب أكان ذلك حلم أم قدر عجيب ! .
آيـــــه فاروق
ملحوظة : تلك بكورة أعمالى فى القصص القصيرة ولا أعلم لما كُتبت !
.. كُتبت قبل أخر قسطاً سأناله من النوم بعد تطبيق يومين قبل سفرى غداً إن شاء الله لأعود إلى مصر .. أستودعكم الله .. وأما اجى ان شاء الله نشوف التعليقات بقا