الحلقة الحادية والعشرون ( عفاريت عبد البر )
عدت ثانية للعنبر المظلم ولتلك الوسادة القاسية التي لم أعتد ثناياها حتى الان ,,, عدت للروتين اليومي الذي وإن بدا مختلفا في بعض فحواه يظل روتين قاسي يرفضه العقل ,,,, على الرغم من أنّ أيامي في سلاح المدفعية باتت معدودة إلاّ أنّي سأمارس جميع شعائر هذا السلاح إلى حين نقلي لسلاح الخدمات الطبية ....
في أولى لياليّ في العنبر أبى ( عبد البر ) أن تمر كسائر الليالي المنصرمة فقد جلسنا أخبره كل التفاصيل عن فترة أجازتي ثلاثية الأيام إلى أن أرهقنا السهر وأستبد النوم بأعيننا فما كان علينا غير الإستسلام لرغبات أجسادنا المنهكة فنمنا ....
وفي خضمّ المعركة الفاصلة بين الوعي والاّ وعي وقبل أن أستغرق في النوم فوجئت بصرخة عميقة تنطلق من السرير الأرضي ( أنا ساكن علوي وعبد البر ساكن أرضي ,,, السرير عندنا دورين ) لم توقظني فحسب بل أيقظت جميع الزملاء ,,, إنّه عبد البر وقد راوده كابوس ,,, أسرعت إليه بكوب ماء وضممت رأسه إلى صدري ثم تلوت على رأسه ما تيسر من كتاب الله ,,, طلبت من الزملاء العودة إلى نزلهم وطلبت من عبد البر أن يحاول العودة للنوم لكنّه طلب منّي الجلوس معه وألاّ أتركه وحيدا ....
فجأة بدأ يتحدث ,,, أظنه يتحث عن الفترة التي قضاها رهن السجن بعد المظاهرة التي قادها في مركز التدريب ,,, تحدث بصوت يملئه الحزن والخجل وأخبرني :=
كنت وحيدا في غرفة مظلمة ضيقة جدا فلا يتمكن جسدك من الإسترخاء فيها ,,, لا يوجد منفذ للضوء لن ترى غير الظلام ,,, فقط ظلام دامس لا ترى حتى جسدك ,,, ثم حفرة ليست بالعميقة تقضى فيها حاجتك بنوعيها فمتلئ هواء الغرفة برائحة القذارة ,,, ولا أدري في أي وقت بالتحديد لكن أعتقد أنّه كان يحدث بانتظام حيث كانت تفتح ماسورة تفيض بمياه كالثلج تغمر الغرفة حتي مستوي صدري فأظل واقفا ما يزيد عن يوم كامل لا تغفل فيه عيناي ,,, تتملكني هزّة ورعشة كادتا تمزقان جسدي إلى قطع متناثرة ,,, وأظل أبعد تلك القاذورات عنّي وأنا أكاد أختنق من الرائحة الكريهة ,,, هكذا كنت أحاول الثبات كما ذكرت لفترة لن تقل عن يوم حتى تفتح البالوعة في أرضية الحجرة فتبتلع المياة والقذارة ...
من ثم تفتح فتحة صغيرة في الباب ويلقى إليّ برغيف عيش قد تحوّل لونه للخضار من العفن وبعض حبّات الفول المنقوعة في ماء بملح ,,, نسيت أخبرك بأنّهم نزعوا عنّا ثياب الجيش وأبسونا خرقا لا تميّز أهي ثياب رجل أم إمرأة ؟؟؟ أجلس في زاوية الغرفة منثنيا على نفسي وظللت مضربا عن الأكل لفترة ليست بالهيّنة لكنّي لم أحتمل الجوع كثيرا وفي النهاية كنت أسرع لإلتقاطه كما الفأر ...
في مثل حالتي سيكون أمامك فرصة واحدة لرؤية العالم الخارجي عندما يفتح الباب حين يأتي الموعد اليومي المتجدد مع فاصل من الضرب والذل والإهانة ,,, ضرب مبرح ,,, شتائم وسباب ,, وما يخجل اللسان عن ذكره ,,, هذا ما كنت سألتني عنه سابقا وكنت أعجز دائما عن وصفه لك ,,,, ثم نظر إلي .....
كنت جالسا يعلو رأسي ليس طيرا واحدا بل سرب من الطيور ,,, عيناي جاوزتا الحد المسوح به في الإتساع ,,, كان علىّ قول شيئ لكنّي لم أستطع ,,, فقط رفعت يدي وطبطبت على كتفه ,,, ثم قبّلت رأسه ,,, وحاولت السير لكن هذا كان يحدث ببطء شديد وفجأة حضر الكلام :-
كثيرا ما سنمر بتلك المواقف التي قد لا نعرف نوعيتها ,, هل هي مفيدة أم ضارة ,,,, سيئة أم حسنة ,,, أقصد أن المعنى الحقيقي لكل ما نمر به هنا في الجيش لن يتضح إلاّ بعد الفراغ من المدّة كاملة ,, بعد الخروج من هنا ستضح الحكمة من كل أفعالهم ,,, فلربما أرادوا تعليمنا الصبر والجلد ,,, التحمل والإنصياع التام ,,, الصمت ,,, الموت من أجل الوطن ,,, بالنسبة لي أنا ياعبد البر أعتقد أن كل ذرة كره تترسب في قلبي تجاه الوطن أو الجيش ستتحول لاحقا إلى ذرات وذرات من الحب والتقدير بمجرد تسليمنا لعهدتنا في نهاية مدّة تجنيدنا ,, سنكون حتما فرحين ,, فخورين حتى بمثل هذا لموقف التي مررت به أنت ,,, ولربما يحسدك البعض على هذا الموقف ويتمنّوا لو شرف سجلهم بمثل هذا الموقف الشجاع ,,النبيل ,, الذي تجسدت فيه القدرة على اتخاذ القرار وتحمل تباعاته مهما كلفنا الأمر ,,, أنا واثق ياصديقي من رؤيتك بأحسن حال في القريب العاجل خاصة وأننا نستعد لحدث سيجعل التاريخ يذكر أسماءنا ,,, وسنسجل أوّل خطوة في تاريخ الجمهورية الثانية ,,,, سيسجل التاريخ أول بسمة حقيقية ينعم بها قلبي منذ انضمامي للجيش وما مررت به ,,, عندما سنتلقى ( أمر 41 ) ,,, عندما ...................................
الحلقة القادمة ( أمر 41,,,,,,,,,,,,, حرب )
إبراهيم رأفت