-
الحلقة الثانية عشر
كان واجف القلب .. مأخوذ الفكر .. مرتجف الصدر ..
وهذه المرة لم يستطع كتمان دموعه أمام أمه .. فسالت منه أنهارا وهو يقبل يديها ويقول لها ..
.. (( هل أنت راضية عني يا أمي الحبيبة .. ))
امتزجت دموعها بدموعة وهي تقول له بصون واهن ومرتعد ..
.. (( أنت قرة عيني .. وقطعة مني .. ومنك أستمد نبضات قلبي .. ))
لم تكن ترى عبد الجليل وهو يرتدي ذلك الرداء المميز لمن ستُجرى لهم العمليات الجراحية
بسبب ذهاب بصرها خلق تلك المنطقة المعتمة بالمياة البيضاء في عدسة عينيها
ولكن كانت تراه بمشاعرها وأحاسيسها وأخذت تتحسس رأسه ورقبته وصدره
وشعرت بدقات قلبه المتسارعة فسابقتها دقات قلبها ..
وأخيرا تم انتزاعه من أمامها ليذهب لتلك الغرفة لإجراء عملية استئصال الزائدة الدودية كما أخبرها من قبل ..
ولم تكن تدري شيئا عما يحاك بالداخل ..
كان عبد الجليل راقدا وهو يشعر بأن هذ آخر عهده بالدنيا ..
قام طبيب التخدير بالبدء في حقنه بعقاقيره المخدرة مع ضبط أجهزة المتابعة لحالته أثناء إجراء العملية ..
وقبيل غياب الوعي عن عبد الجليل .. تراءت تلك المشاهد بسرعة في مخيلته ..
صاحب المطعم الذي أخذه للطبيب فقام بعمل عدة أشعات على بطنة وفحصه جيدا
ثم قال له .. (( إنه مناسب جدا .. ))
والمشهد الثاني عندما جالسه الرجل بخارج غرفة الفحص وقال له ..
.. (( لكي تعلم يا عبد الجليل بأني أهتم بأمرك جيدا ولم أنس أمر العملية التي أمك في حاجة اليها لإسترداد بصرها .. لم أرد أن أمنحك أملا وانتزعه منك .. فأردت التيقن أولا من كل شيء .. والآن قد جائتك هدية من السماء أنت تستحقها .. ))
كان عبد الجليل مأخوذا بقوة وهو يستمع لتلك الكلمات .. فجأة وبلا مقدمات أصبح هناك أمل حقيقي في علاج أمه .. فتسائل بلهفة عن مقصد الرجل .. فأجابه قائلا وبنفس الأسلوب الإقناعي الذي يعزف به على أوتار مشاعر عبد الجليل النبيلة والرقيقة ..
.. (( أنت قطعة من لحم ودم أمك .. أليس كذلك ؟ ))
هز عبد الجليل رأسه موافقا .. فاستطرد الرجل قائلا ..
.. (( اذا من السهل عليك أن تمنحها جزءا من جسدك بما لا يضرك .. )) لم يستوعب عبد الجليل مقصد الرجل ولكن أومأ موافقا لكي يستمع الى النهاية ويعلم ما المطلوب كي تسترد أمه بصرها
فأكمل الرجل قائلا ..
.. (( ستقوم بالتبرع بإحدى كليتيك لرجل على وشك الموت .. ستنقذ حياته .. وسوف يتكفل هو بعلاج أمك كاملا .. ثم متابعة حالتك الصحية بشكل دوري كل ستة أشهر .. ما رأيك في كل هذا ؟ ..))
ولم يستغرق الأمر من عبد الجليل أكثر من ثانيتين للموافقة ..
أصر بعدها عبد الجليل على ألا يخبر حمدية كي لا يعطلها عن دراستها وعملها ..
وألا يخبر تامر حتى لا يفسد الأمر ..
وأخبر أمه بما طلبه منه الرجل .. أنه سيدخل باسم غير اسمه إلى هذا المستشفى لإجراء عملية استئصال الزائدة الدودية كرما منه .. وبعدها سيرى الرجل أمه فيقرر إجراء العملية لها ..
وبدأت الأضواء تهتز أمام عبد الجليل ..
وأصبحت الأصوات ذات رنين عجيب لم يسمعه من قبل .. كأنما هو شريط مسجل قديم بدأت الأصوات فيه تصاب بالبطء الشديد
واقتحمت الظلمة كل شيء أمامة ..
******
دخلت رحاب إلى قاعة المحاضرات وكعادتها منذ أسبوع كامل بحثت بعينيها متلهفة عن حمدية .. وللأسف وجدت زينب تجلس وحيدة في الموضع المعتاد لهن ..
شعرت بخيبة وصعدت متباطئة .. وجلست بجوار زينب وهي واجمة .. ثم نظرت نحوها متسائلة وقائلة ..
.. (( ألم يصلك أية أخبار عن حمدية بعد ؟؟ .. ))
لم تغب عن عينيها رنة السخرية في رد زينب وهي تقول .. (( إنها سيدة أعمال الآن ولا وقت لديها للكلية .. ))
تجاهلت رحاب رنة السخرية وقالت باهتمام ..
.. (( ولكن أسبوع من التغيب التام كثير جدا .. أخشى أن تكون مريضة أو بها مانع قوي .. كيف يمكننا السؤال عنها ؟ .. ))
هزت زينب كتفيها بما يعني أنها لا تدري ..
وظلت رحاب مشغولة البال والفكر طوال اليوم عن سبب غياب حمدية الغير مبرر والمفاجيء ..
ولهذا بعد انتهاء المحاضرات استقلت سيارتها الأنيقة وانطلقت بها الى الصيدلية التي تعمل بها حمدية .. عساها تكون هناك وتستعلم منها عن الخبر ..
دخلت ليرحب بها الدكتور موسى بشكل خاص وكأنما يعرفها منذ أمد ..
وحينما سألته عن حمدية ..
لم تغب عن عينيها نظرة الوجوم والتألم الذي اختفى سريعا وعادت ابتسامته مهتزة وهو يقول ..
.. (( منذ أسبوع كامل لم تأت للصيدلية .. ولهذا فأنا أغطي هذه الفترة بدلا منها حتى عودتها .. ))
ازادات حيرة رحاب ولكن سألته باهتمام أكبر .. (( ألم ترسل من يعتذر عنها أو يخبرك بسبب تغيبها ؟ .. ))
أيضا ارتعادة شفتيه السريعتين لم تغب عن عينيها الفاحصتين وأدار وجهه وقال لها .. (( للأسف لا .. ))
قالت رحاب بصرامة لم تتعمدها .. (( ولماذا لم تسأل أنت عنها ؟ .. ))
شعرت بالضجر في رد د. موسى وهو يقول .. (( اليك عنوانها ولتحاولي أنت السؤال عنها إن أمكنك .. ))
أخرج لها العنوان من صورة بطاقتها الشخصية فتناولته منه وخرجت دون أن ترد عليه ..
واستقلت سيارتها بألوانها الزاهية وبدأت السؤال عن عنوان حمدية
وكان كل من يرد عليها بتفحصها ويتفحص سيارتها بتعجب شديد
ما الذي أرسل هذه السنيورة الى هذه الخرابة ؟
بدأت رحاب في السير إلى المنطقة التي أشارو عليها
وبعد شارع واحد من مسيرتها ..
شعرت رحاب بشعور جارف انتابها ..
شعرت كأنما قد انتقلت من كوكب لآخر
ومن عالم لسواه
فجأة تبدلت الشوارع إلى خنادق ضيقة عجيبة مليئة بشتى أنواع القاذورات
ومرة واحدة تبدل البشر من كائنات تعرفها الى أخرى دهشت برؤيتها
الأطفال مغبري الوجوه تحوم حولها كائنات صغيرة لم تتعرف منها سوى على الذباب من بين خمسة أنواع أخرى
ملابسهم ترسم أشياء غريبة على أجسادهم التي لا تكاد أن تستر شيئا من أجسادهم وكأنما هي أوشام مرسومة على جزء بسيط منهم
الامهات جالسة بالخارج وعلى وجوههم كل آمارات الكآبة التي لم ترها من قبل
كانت تظن بأن مظاهر الضيق تتمثل في تعرج الجبهة وضيق الحاجبين وزم الشفتين
ولكنها لأول مرة ترى تعبيرات جديدة ورسومات مدهشة ألقت في نفسها مشاعر جديدة متناسبة معها .. فحواها الألم والعذاب
البيوت إن صح هذا التعبير عنها .. اندهشت أي مهندس عبقري قام بهذا التصميم المدهش والذي ربما لا يسير على أي قاعدة علمية أوهندسية معروفة ..
فلم ترى قائما أو عمودا واحدا يحمل تلك البيوت المتراصة كعلب الكبريت بشكل أفقي لا يكاد أحدها يتعدي طابقا واحدا بأي حال من الأحوال ..
كانت تشعر بأن أقل عاصفة قادرة على محو كل ذلك في ثوان ..
والأسقف ترى كيف تغطي وليس تحمي من بداخلها ؟!!
انقبض قلب رحاب بقوة
وكتمت دموعها بعنف
وارتجفت وهي ترى كل ذلك ؟
أين كان هؤلاء البشر
ولماذا لم نسمع عنهم من قبل
وكيف لا علم لنا بهم
والأعجب من هذا .. كيف يعيشون هكذا
شعرت رحاب بالانسحاق والهوان واحتقار الذات
فكل مشاكلها لا تتعدي لمحة بصر مما ترى الآن
كانت تشعر بالرضا التام وأنها قد فعلت المتوجب عليها نحو الحياة بمجرد مساعدتها البسيطة لحمدية وزينب ..
ولكن اكتشفت الآن أن هناك كونا بأكلمه لن تفرق معه لقمة واحدة تسد رمقه الى حين ثم يعود لسابق عهده ..
ظلت تسير كثيرا وتتبع الارشادات الخارجة من الأفواه المذهولة
هي تتعجب مما ترى
وهم أيضا ينظرون اليها كأنما هي طائر أسطوري حط عليهم
شعرت رحاب أنها قد تاهت ومن الصعب جدا أن تعود من حيث أتت
وشعرت بصدق جملة د. موسى حين قال لها ..
.. (( اليك عنوانها ولتحاولي أنت السؤال عنها إن أمكنك .. ))
فهي ترى بأنها تسير في متاهة غريبة لا فكاك منها
ووسط هذه الأهوال وجدت رجلا عجوزا يسير بمهل وبيده كتاب ضخم يحمله بعناية
كان مشهدا عجيبا لا يتناسب أبدا مع هذه الخلفية ..
رجل حريص على التثقف هنا ؟!! ..
ولهذا توجهت اليه لتسأله .. وما إن نطقت اسم حمدية حتى ارتسمت على وجهة لمحة ود جميلة وقال بابتسامه هادئة .. (( إنها ابنتي .. ))
قالت رحاب بتعجب .. (( ولكن أعلم بأن أباها قد توفاه الله .. ))
قال الرجل بنفس الود .. (( إنها ابنتي مجازا وليس حقيقة .. ))
وحينما أشارت اليه ليستقل السيارة معها ليوصلها اليها .. حاول أن يشير عليها بالسير جانبا كي لا يتسبب في تلويث سيارتها بملبسه .. ولكنها أصرت في عناد
.. واستقل عم إبراهيم الجرنالجي سيارة رحاب
وانطلق بينهما حديث عن المنطقة .. لم يكن كأي حديث
*****
وقف تامر أمام تلك السيارة الأنيقة المرتكنة أمام عشتهم وأخذ يدور حولها وهو يطلق صفيرا خاصا .. ثم عاد الى الحلف ليرى مشهد السيارة بشكل كامل
كان مشهدا عجيبا حقا في هذه الحارة الضيقة مع العشة المتهالكة
كانت كلوحة سيريالية غير منطقية ..
وأخذ تامر يتفكر .. (( سيارة من هذه ؟؟ هل هو أحد المتصدقيين ؟؟ .. ولكنهم يمنحون ما تجود به أنفسهم للجمعيات الخيرية من أهل المنطقة .. وهم يقومون بالتوزيع من واقع معرفتهم بأهلها .. من هذا المقتحم الجريء الذي قرر خوض هذه الأهوال بنفسه ؟؟!! ))
ظل يفحص السيارة من الداخل والخارج ويرى كل هذه التجهيزات الحديثة والمكلفة ليعلم منها مدى ثراء صاحبها ..
والغريب أنه قد انتبه الى غياب صاحبها بالداخل ..
المفترض بهؤلاء المتصدقين أن يلقوا بصدقتهم وينطلقو بسرعة قبل أن تصيبهم عدوى الفقر منا
من هذا الغريب في كل شيء الذي يتحمل كل هذه المدة بالداخل ؟!!
ولهذا قرر الدخول ليرى بأم عينينه ..
وكعادته ودون أن يطرق الباب دخل ليفاجيء من بالداخل
انتفضت حمدية وصرخت فيه قائلة .. (( ألن تتعلم الأدب أبدا يا هذا ؟!! .. ))
اندهش تامر بقوة من هذه اللهجة التي لم يعتدها من حمدية أبدا .. فهي دوما تتجنبه وتتحاشى الصدام معه .. ما الذي أثار غضبتها هكذا ..
ولكنه تجاهل كل هذا وتوقفت عينيه على تلك الأميرة التي تفترش الأرض بجوارها بكل بساطة
أنيقة في ملبسها غال الثمن
تفوح منها رائحة زكية ليست بعطر وإنما دليل على نظافتها واهتمامها بذاتها
تظهر عليها كل آمارت العز والثراء
لهذا تجاهل كلمة حمدية وقال لرحاب بابتسامة مصطنعة ..
.. (( آسف لإقتحامي هذا .. ولكن هل يمكنني معرفة من هذه الرائعة التي حلت علينا ؟؟ .. ))
قامت رحاب واقفة وحاولت مداراة الدموع المتجمدة في عينيها وقالت بكل بساطة
.. (( أنا زميلة حمدية بالكلية وصديقتها المقربة .. ))
ونظرت نحو حمدية وقالت لها ..
.. (( ساعود اليك مرة لاحقة .. ))
حاولت حمدية الاعتراض ولكن رحاب سبقتها بالخروج
ونظر تامر الى حمدية رافعا حاجبيه بقوة وهو يقول ..
.. (( الله عليك يا حمدية .. ستبدأ نظرتي ومعاملتي لك في التغير كثيرا .. يبدو أنك حقا ستكونين الكنز المفتوح لنا .. ))