المسلم كثير التفكير في أحوال أمته ، وسبل إصلاحها وأسباب قوتها ، وهو دائماً يحمل هموم الأمة ، ويعاني من جراحاتها، ويحزن لآلامها ،وتمتزج هذه الهموم مع إيمانه بالله ويقينه بنصره ، فيتولد في قلبه الإصرار على العمل ، وتنبثق في نفسه همة عالية لا ترضى بالدون ، ولا تقنع بما دون البذل الكامل ، والنصر التام ، لأنه سائر في طريق الله ، مجاهد في سبيل دعوة الله ، ولسان حاله يقول :
إذا غامرت في شرفٍ مروم **** فلا تقنع بما دون النجوم
ومن تكن العلياء همة نفسه ... فكل الذي يلقاه فيها محبب
ومن هنا يتميز الانسان الحق عن غيره في همومه وأحزانه ، وطموحاته وآماله ، وقد يعجب من حاله أهل الهوى ، وقد ينكر عليه أهل الدنيا وأتباع المصالح ، وقد يتهم بأنه يعيش في الدنيا الأحلام والأوهام ، وأن آماله وطموحاته ضرب من المستحيل ، ومع ذلك كله يعظم الهم في قلبه ، وتعلو الهمة في نفسه ، ويظل متميزاً محلقاً ، إذ من علامات كمال العقل علو الهمة ، والراضي بالدون دنيء ، ويشعر الانسان بحلاوة التفرد ، وينهل من نبع الإيمان الذي لا ينفد ؛ لأن " لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه ، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ، ومحبته والشوق إلى لقائه " .
وهذا زادٌ دائم التوقد والتوهج ، يدفع للبذل والعمل ، وبقدر العطاء والعناء ، تتولد اللذة والسرور ، وحسبنا مثلاً أنس بن النضر - رضي الله عنه - الذي قال يوم أحد : " واهاً لريح الجنة ، والله إني لأجد ريحها من دون أحد " ثم ألقى بنفسه على الأعداء يعانق الموت ، فاستشهد وبه نحواً من ثمانين ضربة وطعنة .
ولك - زميلى- قدوة السلف عندما قيل لأحدهم – لكثرة بذله وعمله -: حتى متى تتعب نفسك ؟ فقال : " راحتها أريد " ، نعم إنها راحة ولذة لا يعرفها إلا من ذاقها ، فرغم ما يراه الآخرون من أسباب الشقاء ، إلا أن الهمة العلية ، والأشواق الإيمانية تقلب الميزان ؛ " فإن العزيمة تذهب المشقة وتطيب السير والتقدم ، والسبق إلى الله عز وجل إنما هو بالهمة وصدق الرغبة والعزيمة " وهكذا يكون بين جنبيك – أخي – نفسً تتوق إلى المعالي وتترجم كلمات ربيعة بن كعب لما قال له المصطفى
: سلني ما شئت ، فقال : أسألك مرافقتك في الجنة . وأنت تعلم أن المصطفى - عليه الصلاة والسلام - قال
ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة ) ، والثمن بذل في سبيل الله لا يستثنى منه شيء حتى الروح .. { إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون } وأنت – أيها الصيدلى - تعرف الحياة وغايتها ، وقصرها ونهايتها ، فلتكن عندك مطية الآخرة التي هي المطمع والمطمح .
ومن هنا فإن الهم يولد الهمة ،والهمة تدفع للعمل وتظل أكبر منه دائماً
وإذا كانت النفوس كباراً **** تعبت في مرادها الأجسام
وقد قيل لبعض الرجال الأفذاذ: لنا حويجة ، قال : " اطلبوا لها رجيلاً " ، فلتكن أعمالك وآمالك دائماً عالية باستعلاء الإيمان المحرك ..{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
فلا بد لك أن لا يمر بك وقت دون همٍ وهمة وعمل ، ممارسة بجوارحك ، أو تفكيرا بعقلك ، أو دعوة بلسانك ، أو هم وحزن في قلبك ، فالداعية لا راحة عنده إلا في البذل ، وهموم أمته معه تؤرقه وتدفعه وشعاره قول الشاعر:
كلا رويدك ياطبيب وقد سألت أما استراح ؟ هل يستريح الحر يوقد صدره العبء الرزاح
يا أهل الهمم يا رواد القمم يا صفوة الأمم أرجوكم أن تعيشوا همما لا أماني
انظر إلى أصحاب الهمم العالية
يقول ابن الجوزي : قارنت نفسي بابي مسلم الخرساني فإذا همته عالية لكنها في الدنيا
نال الملك ثم ما تمتع كثيرا وسفك الدم واستولى على الأموال ثم قتل
كان أبو مسلم الخرساني نائم مع أمه (الهمة تولد مع الولد وهو صغير) فينام قليلا على جنبه الأيسر ثم ينقلب إلى الجهة اليمنى واستمر على التقلب حتى أزعج أمه
قالت له أمه: يا بني ما تنام !
قال: لم يأتني النوم
قالت: لم !
قال: همة تنطح الجبال ونفس تواقة
قالت: فماذا تفعل !
قال: يا أماه الخمول اخو الموت
قالت: فماذا تفعل؟
قال: سوف اجعل من علمي جهلا واضع نفسي في المتاهات حتى أدرك ما أدرك أو أهلك
فطلب الموت وساعد بني العباس ونال الملك وهو الذي نقل الدولة الأموية إلى العباسية
فالمقصود الهمة العالية
يذكر انه اجتمع في الحرم مصعب بن الزبير وابن عباس وابن عمر
فقالوا: كل منا يتمنى
قال مصعب بن الزبير: أتمنى أن احكم العراق وأتزوج عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين
فقال ابن عباس: أتمنى أن يرزقني الله علما نافعا
وقال ابن عمر : أتمنى أن يغفر الله ذنبي
فتولى مصعب العراق وتزوج عائشة وسكينة وقتل
وابن عباس صار عالم الأمة
وأما ابن عمر فنسال الله أن يلبي له ما سال
هذه الأماني حققوها بالعلم وحققوها بالعمل
في كتاب كيف أصبحوا عظماء للدكتور سعد الكريبي يقول: إن احمد زويل الذي حصل على جائزة نوبل المصري كان وهو طفل يحب أن ينادونه أهله الدكتور احمد فجاهد وثابر حتى حصل على الدكتوراه وحاز على جائزة نوبل .
كذلك طه حسين سمع احد الدكاترة انه كان يذاكر ويتعب ويسهر
قال له احد الدكاترة: تريد أن تكون أستاذ في الجامعة
قال: لا
قال: تريد أن تصبح دكتور
قال: لا
قال: تريد أن تصبح وزير
قال: لا
قال: اذاً ماذا تريد أن تصبح
قال: أريد ساعي البريد إذا جاء برسالة من المطار يعرف طه حسين سائق التاكسي بدون ما يسال عن بيته (من الشهرة يعني) فأعطاه الله ما أراد وجاءت فترة أصبح من أشهر الناس
حدث نفسك بالهمة العالية حدث نفسك أن تكون عابدا أو زاهدا أو مصلحا أو عالما أو محبوبا عند الناس أو مشهورا
يذكر في سيرة عبد الله بن الزبير انه كان يجمع الأطفال
ويقول: أنا الأمير عليكم، وكان إذا اجتمع مع الصغار
قال: من الأمير
قالوا: من؟
قال: أنا
وتولى الخلافة عندما كبر رضي الله عنه ( الشاهد انه حدث نفسه بذلك )
يذكر أن هارون الرشيد جلس مع أبنائه الأمين والمأمون فسال الأمين
فقال له: ما هي أمنيتك
فقال: أن تعطيني فرسا للصيد وترسل معي فلان الشاعر وترسل معي فلان وفلان وتعطيني كذا من المال
قال: أتريد الخلافة من بعدي قال نعم (يريد موت أبيه)
فقال له: قم محفوظا فقام
فقال: علي بالمأمون
فجاء المأمون فقال له: اجلس بجانبي
فقال: إنما أنا خادم من خدمك
فقال: ما هي أمنيتك
قال: كتاب أجلو به فهمي
قال: هل تريد الخلافة بعدي
قال: بل يحفظ الله أمير المؤمنين فما دمت حي فنحن بخير
وكما تعرفون من أعظم الخلفاء علما وثقافة على الغبش الذي كان فيه هو المأمون
إخوتي في الله هذه بعض الأماني التي جعلها أصحابها أهدافا سامية وهمما عالية
فاجعل أمانيك همة عالية وأهدافا سامية تصل بها إلى القمة والى مرادك
نعم راحتنا في العمل في الدنيا ، والراحة الكبرى الجنة والرضوان .