آآآآآآآآآآآآآه، رحلت يا أبتي، رحلت عني يا مؤدبي، رحلت عني يا معلمي، رحلت عني يا أخي وصديقي وتوأم روحي وخليلي، رحلت عني وتركتني في غربة على غربتي، ووالله ما عزاني أحد فيك بمثل ما فعلت أنت في آخر قصيدة كتبتها لي في قولك:
سألتك بالرحمن صبرا إذا أتى نعي يصيب القلب بالحسرات
سلام عليكم آل بيتى ودمتموا قياما بتقوى الله والحسنات
فأسأل الله أن يلهمنا الصبر وأن يرزقك الدرجات العلا من الجنة وأن يحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأدعوه سبحانه ألا يحرمني برّك ميتا.
ومن البر بك أن أذكر محامدك وإن كنت أعجز عن حصرها؛
كنت مسلما قابضا على دينه، وأشهد الله أني ما علمتك إلا داعيا لله محتسبا، خطيبا مفوها، لا تخشى في الله لومة لائم، جاهرا بالحق في وجه من طغى وتجبر، وأعلم والله أنه لولا تثبيطنا وتخذيلنا لك لكنت من المجاهدين في سبيله، فكم كنت تدعو الله ليل نهار أن يرزقك الجهاد والشهادة وكم علّمتني دعاءً ما زلت أدعو الله به ليل نهار "اللهم استعملنا في نصر دينك" فاللهم يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرمه منازل الشهداء والمجاهدين.
كنت زاهدا ورعا صواما قواما، تعلمت الزهد على يديك، أذكر حين سمعتني مرة أدعو قائلا "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا" فمازحتني قائلا "لسنا نحن من نحمل هم الدنيا فقد طلقناها ثلاثا إنما همّنا الآخرة" وأشهد الله أني ما رأيتك تحزن على فوات متاع من الدنيا قط وإنما كانت حسرتك وانفطار قلبك دوما على ضياع الدين، وكنت تغار مني إن رأيتني يوما صائما وتقول أنا أحق بذلك منك، فأصوم أنا يوما وتصوم أنت أسبوعا وأنت الشيخ المريض، فلله درك يا أبتي، والله أسأل أن تكون ممن يدعى من أبواب الجنة كلها.
كنت نعم الولد البار بوالديه أحياء وأمواتا، تدعو لهم ليل نهار وتبر صديقهم وتصل الرحم التي لا توصل إلا بهم، وكم اصطحبتني معك في صلة أرحام لم أرهم قط في حياتي، فكنت نعم الواصل وإن قطعوك.
كنت حليما كريما، تحلم وإن جهل عليك الجاهلون، وتؤثر على نفسك وإن كان بك خصاصة، كنا أطفالا نطلب ونطلب ولا نقبل إلا أن تجاب طلباتنا، والحق أنها كانت تجاب جميعها، ولم ندرك الأمر إلا عندما كبرنا، وعلمنا أنك كنت أحيانا تحرم نفسك الطعام والشراب لتلبي طلباتنا، علمنا عظمتك وجحودنا، فاللهم جازه عنا خير الجزاء.
كنت معلما فاضلا، ويشهد لك كل من تتلمذ على يديك -وأنا أولهم- وقد كانوا جميعا أبناءك وكنت نعم الأب والمعلم لي ولهم، فقد كنت ملتزما بالمنهج النبوي في التعليم والتربية، فكم كنت سببا في بناء بيوت مسلمة، وكم كنت تشكو إلى الله وتنصح للناس وتحذرهم من مناهج ونظريات تربوية -جاءتنا من الغرب وضعها الملاحدة وزينها لنا المتأسلمون من أبناء جلدتنا- لتدرس لأبناء الإسلام فتميع العقائد وتهدم الأخلاق، فأين المعلمون من مثل هذا الفهم؟
كنت مقاتلا فذا، شاركت في حرب الاستنزاف ضد اليهود لأعوام وكنت تتقن الأمر حتى أنك كنت تتحدث العبرية وتتقن مهارات القتال كما أنك حصلت على شهادات تقدير عدة كأفضل قناص على مستوى القوات الخاصة المصرية (الصاعقة) وتعرضت للموت مرات ومرات ولكنّ أجلك لم يكن قد حان حتى في أحلك المواقف حين انفجرت دانة دبابة على بعد خطوات منك فامتلأ جسدك بالشظايا وفقدت السمع بإحدى أذنيك، وحتى في ظل هذه الظروف لم تكن تتوانى عن الجهر بالحق في وجه هؤلاء العسكر حتى يزج بك في السجن بتهم هي وسام شرف يعلق على صدرك، فيا ليت قومي يعقلون.
كنت أخا في الله، يسعد كل من يتحدث إليك ولا ينساك من لقيك ولو مرة واحدة وتقع محبتك في قلوب من يعرفك ومن لا يعرفك، فكم كنت ولا زلت أفخر حين ألقى من الناس من لا أعرفه فيحييني ويرفعني فوق ما أستحق إجلالا لك وعرفانا بجميلك، فاللهم احشرني وأبي ومن أحبنا فيك ومن أحببناهم فيك في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأسأله سبحانه أن يجعلنا وإياك ممن قال فيهم رسول الله: " إن من عباد الله عبادا ليسو بأنبياء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء قيل : من هم ؟ لعلنا نحبهم ؛ قال : هم قوم تحابوا بنور الله ، من غير أرحام ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )".
كنت شاعرا رائعا، كم أمتعتنا بقصائدك الهادفة -التي أسأل الله عز وجل أن يعينني على نشرها كلها لينتفع الناس بها-، تكتب قصائدك واضعا نصب عينيك قول الله عز وجل في خواتيم سورة الشعراء: " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ"، فكنت تحرص رحمك الله ورضي عنك وأرضاك على الانتصار للدين أولا والحفاظ على اللغة العربية وإحيائها ثانيا في كل أشعارك، وكان من آخر ما كتبت في شهداء الثورة -كما نحسبهم-:
أأبنائى الأحباب يا من رحلتمو سكنتم مكانا عز فى الناس زائره
وخلفتمو فى الحلق منا مرارة وفى القلب آلام بها غاض مائره
ألا ليتنى كنت الفداء لأجلكم لكى أدفع الباغى ودوما أغاوره
رحلتم لنحيا...كيف نحيا بدونكم وقد كنتم والعيش تحلو مناظره
ولكنها الأقدار تأتى بحكمة فسبحان من تجرى علينا مقادره
وإنى فقدت العيش حين افتقادكم وزالت مغانى العيش وانفض سامره
هنيئا لكم ما نلتم من شهادة ودار جزاء ليس تفنى مصادره
وها أنا ذا أرددها لك هذه المرة، ألا ليتنى كنت الفداء لأجلكم:
رحلتم لنحيا...كيف نحيا بدونكم وقد كنتم والعيش تحلو مناظره
ولكنها الأقدار تأتى بحكمة فسبحان من تجرى علينا مقادره
وإنى فقدت العيش حين افتقادكم وزالت مغانى العيش وانفض سامره
هنيئا لكم ما نلتم من شهادة ودار جزاء ليس تفنى مصادره
هذا غيض من فيض سجاياك، ووالله ما وفيتك معشار ما تستحق، فاللهم اغفر لي تقصيري وارزق أبي الفردوس الأعلى من الجنة وأنعم عليه بصحبة نبيك.
ولدك المكلوم