السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبتــــــاه مـــاذا قد يخطُّ بنـــــــــاني . والحبلُ والجــلادُ يــنتظـــراني
هــذا الكتــــابُ إلــــيكَ مِنْ زَنْــزانَةٍ . مَقْــرورَةٍ صَخْـرِيَّـــةِ الجُــدْرانِ
لَــمْ تـَبْقَ إلاَّ لــيلةٌ أحْــــيا بِـــهـا . وأُحِـسُّ أنَّ ظــلامَــها أكــفــاني
سَتــَمُـرُّ يـا أبـتــاهُ لــســتُ أشكُّ في . هــذا وتَـحــمِـلُ بعـــدَها جُثماني
الليــلُ مـِنْ حَــولــي هُــدوءٌ قــاتِلٌ . والذكرياتُ تَـــمــورُ في وِجْـداني
وَيَــهُـــدُّني أَلــمي فــأنْشُدُ راحَـتي . في بِــضْـعِ آيـــاتٍ مِــــنَ القُــرآنِ
والـنَّفـْسُ بيــنَ جـوانِحي شــفَّافةٌ . دَبَّ الـــخُــشـوعُ بها فَــهَزَّ كَياني
قَدْ عِشْـــتُ أُومِنُ بالإلــهِ ولـم أَذُقْ . إلاَّ أخــيــراً لـــــذَّةَ الإيـــمـــانِ
* * * *
شـكــراً لــهم ، أنا لا أريـد طعامهم . فليرفعوه ، فلسـت بالـجـــوعـــان
هــذا الطعــام المُــُر ما صـنعته لي . أمــي، ولا وضــعــوه فوق خوان ِ
كــلا، ولم يشــهـده يا أبــتي مـعي . أخــوان لــي جــاءاه يســتبــقــان
مَــدوا إلــــيّ بـه يـداً مــصـبوغـــة ً . بدمي، وهــي غــايــة الإحــســان
والـصَّمــتُ يــقطـعُهُ رَنينُ سَلاسِلٍ . عَبَثَــتْ بِـهِــــنَّ أَصــابعُ الــسَّجَّانِ
مــا بَــَيْــنَ آوِنـةٍ تــَمُرُّ وأخـتها . يـرنو إلــيَّ بـــمقــلتـيْ شــيــطـــانِ
مِـنْ كُــوَّةٍ بِالبـــابِ يَرْقـُبُ صَيــْدَهُ . وَيَــعُودُ فــي أَمْــنٍ إلــى الــدَّوَرَانِ
أَنا لا أُحِــسُّ بِــأيِّ حِــقْدٍ نَحْـــوَهُ . ماذا جَنَى؟ فَتَمَــسُّــه أَضْغــانــي
هُوَ طيِّبُ الأخـلاقِ مـثلُـكَ يا أبــي . لم يَبْدُ فــي ظَــمَــأٍ إلـــى الــعُــدوانِ
لـــكـنَّـهُ إِنْ نـامَ عَـــنِّي لَحــظـةً . ذاقَ العَيــالُ مَـــرارةَ الحِــرْمــانِ
فـلَــرُبَّـما وهُــوَ المُــرَوِّعُ سحــنـةً . لو كانَ مِثْلــي شاعــراً لَرَثــانــي
أوْ عــادَ-مَـنْ يدري؟- إلــى أولادِهِ . يَومــاً تَــذكَّــرَ صُـورتــي فَبـكاني
* * * *
وَعلى الجِـــدارِ الــصُّلبِ نافـذةٌ بها . معنــى الــحـياةِ غـليظةُ القُضْبــانِ
قَدْ طـالــَما شــارَفْـتُـها مُتـَأَمِّــلاً . في الثَّائريـنَ على الأسـى الــيَقْظانِ
فَأَرَى وُجـوماً كالضَّبابِ مُصَوِّراً . ما في قُلــوبِ النَّــاسِ مِـــنْ غَلَــيانِ
نَفْسُ الشُّعورِ لَدى الجميعِ وَإِنْ هُمُو . كَتموا وكانَ المَـوْتُ في إِعْــلانــي
وَيدورُ هَمْسٌ في الجَوانِحِ ما الَّذي . بِالثَّــــوْرَةِ الـــحَــمْقاءِ قَـدْ أَغْراني؟
أَوَ لـــَمْ يَــكُنْ خَيـْراً لِنفسي أَنْ أُرَى . مثلَ الجُمـوعِ أَســيرُ فـــي إِذْعـــانِ؟
ما ضَــرَّني لَوْ قَدْ سَـكـَتُّ وَكُلَّما . غَلَبَ الأســى بالـَغْتُ فــي الكِتْمانِ؟
هـذا دَمِي سَيَـسِيلُ يَجْـرِي مُــطْفِئاً . مــا ثــارَ فـي جَنْبَـيَّ مِــنْ نِيــرانِ
وَفــؤاديَ الـمَوَّارُ فـي نَـــبَضاتِـهِ . سَيَـكُــفُّ فــي غَــدِهِ عَـنِ الْخَفَقانِ
وَالظُّلْــمُ باقٍ لَــنْ يُحَــطِّمَ قـَيْدَهُ . مَوْتـي وَلَــنْ يُـودِي بِـهِ قُــرْبــاني
وَيَـسيرُ رَكْـبُ الْبَغْـيِ لَيْسَ يَضِيرُهُ . شاةٌ إِذا اْجْـــتُـثّـَتْ مِـنَ القِـطْـعانِ
هذا حَديـثُ النَّفْـسِ حينَ تَشُفُّ عَنْ . بَشَرِيَّـتـي وَتَمُــورُ بَعْــدَ ثَــوانِ
وتقُـولُ لـي إنَّ الـحَـياةَ لِـغـايَـةٍ . أَسْــمَــى مِنَ التّـَصْــفـيقِ ِللطُّغْيانِ
أَنْفاسُكَ الحَــرَّى وَإِنْ هِـيَ أُخمِـدَتْ . سَتَـظَـــلُّ تَعْــمُــرُ أُفـْقَـهُــمْ بِدُخــانِ
وقُروحُ جِسْمِكَ وَهُوَ تَحْتَ سِياطِهِمْ . قَسَـماتُ صُــبْـحٍ يَتَّقِيــهِ الــْجـاني
دَمْــعُ السَّـجـينِ هُـناكَ في أَغْلالِهِ . وَدَمُ الشَّـــهـيــدِ هُنَــا سَيَــلْتـَقـِيـــانِ
حَتَّى إِذا ما أُفْعِـمَتْ بِـهـِمـا الرُّبـا . لـم يَـــبْـــقَ غَيْـرُ تَمَرُّدِ الـفَيَــضــانِ
ومَـنِ الْعَواصِفِ مَا يَكُونُ هُبُوبُهَا . بَــعْــدَ الــْهُـــدوءِ وَرَاحَةِ الرُّبَّانِ
إِنَّ اْحْتِدامَ الـنَّارِ في جَوْفِ الثَّرَى . أَمْرٌ يُثيرُ حَـــفِيــظَـــةَ الْبـــُرْكانِ
وتتابُـعُ القَـطَراتِ يَـنْزِلُ بَعْدَهُ . سَيْـــلٌ يَليــهِ تَــدَفُّــقُ الطُّــوفــانِ
فَيَمُـوجُ يقـتلِعُ الطُّغاةَ مُزَمْجِراً . أقْــوى مِنَ الْجَبَرُوتِ وَالسُّــلْــطـــانِ
* * * *
أَنا لَستُ أَدْري هَلْ سَتُذْكَرُ قِصَّتي . أَمْ سَــوْفَ يَــعْــرُوها دُجَــى النِّسْيانِ؟
أمْ أنَّنـي سَـأَكـونُ في تارِيخِنا . مُتــآمِـــراً أَمْ هَـــــادِمَ الأَوْثـــانِ؟
كُلُّ الَّذي أَدْرِيـهِ أَنَّ تَـجَـرُّعـي . كَـــأْسَ الْمَــذَلّــَةِ لَيْـــسَ في إِمْكاني
لَوْ لَـمْ أَكُـنْ في ثـَوْرَتي مُتَطَلِّبـاً . غَـــيْــرَ الضِّياءِ لأُمَّـــتي لَــكَــفاني
أَهْوَى الْـحَياةَ كَريمَةً لا قَيْدَ لا . إِرْهـــابَ لا اْسْتِـــخْــفافَ بِالإنْسانِ
فَإذا سَقَـطْتُ سَقَطْتُ أَحْمِلُ عِزَّتي . يَغْــلي دَمُ الأَحْــرارِ فــي شِــريــاني
* * * *
أَبَتاهُ إِنْ طَـلَعَ الصَّبـاحُ عَلَى الدُّنى . وَأَضــاءَ نُــورُ الشَّمْسِ كُلَّ مَــكــانِ
وَاسْتَقْبَلُ الْعُصْفُورُ بَـيْنَ غُصُونِهِ . يَوْماً جَديــداً مُــشْـــرِقَ الأَلْــوانِ
وَسَمِـعْـتَ أَنْـغـامَ الـتَّـفـاؤلِ ثـرَّةً . تَــجْــري عَـلــَى فَــمِ بـــائِعِ الأَلبانِ
وَأتـى يَـدُقُّ- كـمـا تَـعَـوَّدَ- بـابـَنــا . سَــيَـدُقُّ بابَ السِّـجْــنِ جَــلاَّدانِ
وَأَكُـونُ بَـعْـدَ هُـنَـيْهَةٍ مُتَأَرْجِـحَاً . في الْحَبْلِ مَـشْــدُوداً إِلـــى العِــيـدانِ
لِيَكُـنْ عَـزاؤكَ أَنَّ هَـذا الْـحَـبْـلَ ما . صَنَــعَتــْهُ في هِذي الرُّبوعِ يَـــدانِ
نَسَجُوهُ في بَلَـدٍ يَـشُـعُّ حَـضَـارَةً . وَتُضــاءُ مِــنْــهُ مَشــاعِـــلُ الْعِرفانِ
أَوْ هَـكـذا زَعَـمُـوا! وَجِيءَ بِهِ إلى . بَلَدي الْجَريــحِ عَــلَــى يَــدِ الأَعْــوانِ
أَنا لا أُرِيـدُكَ أَنْ تَـعيـشَ مُـحَـطَّماً . فــي زَحْمَــةِ الآلامِ وَالأَشْـــجــانِ
إِنَّ ابْنَـكَ المَــصْـفُودَ في أَغْــلالِـهِ . قَــدْ سِــيقَ نَـحْوَ الــْمَوْتِ غَيْرَ مُدانِ
فَـاذْكُــرْ حِكـاياتٍ بِـأَيَّـامِ الـصِّبا . قَدْ قُلْـتَـها لي عَـنْ هَـــوى الأوْطـــانِ
* * * *
وَإذا سَـمْـعْتَ نحِيبَ أُمِّيَ في الدُّجى . تَبْـــــكــي شَــبــابــاً ضاعَ في الرَّيْعانِ
وتُكَـتِّمُ الـحَـسـراتِ في أَعْـماقِها . أَلَـمَــاً تُـــوارِيـــهِ عَـــنِ الــجِــيــرانِ
فَاطـــبْ إِلـيهـا الصَّـفْـحَ عَنِّي إِنَّنـي . لا أَبْـــــغي مِــنَهـــا سِــوى الــغُفـْرانِ
مازَالَ في سَمْعــي رَنـيـنُ حَديثِها . وَمـقـالِـــهــا فــي رَحْــمَـــةٍ وَحنـــانِ
أَبُنَــيَّ: إنِّـي قـد غَــدَوْتُ عـلـيلةً . لم يـــبـقَ لــي جَــلَـــدٌ عَلــى الأَحْـزانِ
فَـأَذِقْ فُـؤادِيَ فـرْحَةً بِالـْبَحْثِ عَنْ . بِنْتِ الحَلالِ وَدَعْـكَ مِــنْ عِـصْــيــانــي
كـانَـتْ لــهـا أُمْـنِـيَـةً رَيَّــانَـةً . يا حُـسْـــنَ آمــــالٍ لـــــَهــــا وَأَمــانـــي
غزلـَت خيوط السعد مخضلا ولم . يكــن إنـــتـقاض الــغـزل فــي الحسبان
وَالآنَ لا أَدْري بِــأَيِّ جَــوانِـحٍ . سَــتَــبـيــتُ بَــعْــدي أَمْ بِــأَيِّ جِــنــانِ
* * * *
هــذا الـذي سَـطَرْتُـهُ لـكَ يا أبــي . بَــــــعْــضُ الـــذي يَـــجْـري بِفِكْرٍ عانِ
لكنْ إذا انْتَـصَرَ الضِّيـاءُ وَمُـزِّقَتْ . بَيَدِ الْجُــموعِ شَـــريـــعـةُ القُـــرْصـــانِ
فَلـَسَـوْفَ يَـذْكُـرُني وَيُكْـبِـرُ هِمَّتي . مَـنْ كــانَ فــي بَلـَدي حَـــلــيـفَ هَــوانِ
وَإلــى لِــقاءٍ تَــحْـتَ ظِلِّ عَدالَةٍ . قُـــدْســــِيَّـةِ الأَحْـكـامِ والـــمـــِيــــزانِ
كُتبت عام 1955 - للشاعر هاشم الرفاعي وهو في سن العشرين من عمره القصير
رحمة الله على هاشم الرفاعي الذي قُتل وعمره 24 عامًا
للمزيد عن الشاعر