(( الصناره الزقاء ))
فى يومٍ من الأيام ذهب الجد ليزور ابنه و اسرته .. و حينما وصل استقبله الجميع بكل حفاوه و ترحاب و لكنه لاحظ غياب أحمد حفيده , مما دعاه لأن يسأل عنه , فأجابته زوجة ابنه : " إنه على الشاطئ .. كعادته " .
و على الفور ذهب الجد ليرى أحمد و يطمئن عليه . فقد كان أحمد أعز الاحفاد و أغلاهم على الاطلاق على قلب الجد لما تمتع به أحمد من خفة ظل و روح مرحه و ذكاء متقد ... و فطره نقيه .
ربت الجد على كتف أحمد , فالتفت أحمد و قال : " جدى .. اهلا اهلا .. حقاً كنت أفتقدك" .
و جلس الجد بجوار أحمد و ظلا يتحدثا حتى أوشكت الشمس تتوارى خلف صفحة الماء كفتاةٍ يحدوها الخجل لتختبئ خلف الستار , فيجن الليل و يغفو النهار .
و بعد قضاء اليوم كله على الشاطئ انصرف الجد و الحفيد عائدين إلى المنزل و معهما سمكه واحده كان أحمد قد اصطادها بصنارته الزرقاء الجميله التى كان جده قد اشتراها له من قبل . و أثناء عودتهما سأل الجد :" لماذا سمكه واحده فقط يا أحمد ؟!" .. رد أحمد :" لأن حوض السمك لن يسع أكثر من هذا ".. تعجب الجد : " و لكن حوض السمك الذى تملكه كبير و ليس به سوى سمكتان فقط .. و ايضاً كنت أنت من اصطادهما .. و هناك مكان لعدد أكبر من السمك .."
.. ابتسم الصغير ابتسامه تحمل من زهور الحكمه ما يندر أن تٌدرك نبتته فى اقرانه ممن هم فى مثل سنه , و قال : " ياجدى الحبيب .. إن لذلك حكايه .. فإننى لا أصطاد عبثاً أو لأتسلى " .. تساءل الجد : " و لماذا تصطاد إذن ؟! " .. عندما قالها الجد كانا قد وصلا إلى المنزل و تاه تساؤل الجد بين اصوات الاهل الذين رحبوا به من جديد و اخذوا بيده إلى المائده لتناول الطعام .
عندما حان موعد النوم .. و لما كانت العاده أن يذهب الابن للأب أو الجد ليحكى له حكاية قبل النوم , فقد خالف الجد القاعده و ذهب هو لأحمد يسأله عن إجابة سؤاله . جلس الجد بجوار حفيده على السرير و سأله : " لماذا تصطاد إذن ؟! " .. ابتسم أحمد و قال: "حسناً يا جدى .. سأخبرك .. اننى كلما أنجزت هدفاً كنت أسعى إليه و كلما حققت حلماً من أحلامى ذهبت إلى الشاطئ و اصطدت سمكه و احتفظت بها .. حتى عندما أنظر إلى حوض السمك أدرك أين انا من أحلامى .. و أدرك أننى استطيع ان احقق الاحلام .. و عندما أرى السمك يتحرك فى الماء أعرف كم ان الاحلام التى حققتها ما تزال حقيقه حيه و تتحرك أمام عيني " ..
ظل الجد صامتاً يستمع لكلام حفيده الذى أبهره و أكد له أن ظنه فيه كان حقاً بمحله .. ثم قال : " و لماذا سمكه واحده فى كل مره ؟! " .. أجاب أحمد : " لأننى لدى أحلام كثيره يا جدى .. و إن اصطدت أكثر من سمكه لكل حلم يتحقق فلن يكفى الحوض كل تلك الاحلام .. " .. ابتسم الجد و قال : " بارك الله فيك يا أحمد و حقق لك كل أحلامك " .. ثم قبّلَه على جبينه و أخذه بين أحضانه و استغرق كلاهما فى نومٍ عميق .. و احساس بالدفء و الأمان .
مرت الايام و دارت السنون و كبر أحمد ... و فى يوم من الأيام ذهب الجد لزيارة احمد فى منزله ليطمئن عليه و على زوجته .. و كان أحمد مازال يحتفظ بحوض السمك فى منزله الجديد .. و عندما دخل الجد حجرة أحمد إذا به يفاجَئ بشيئ عجيب ..
إن حوض السمك ..
فارغ .. !!
" ماذا حدث للأسماك يا أحمد ؟؟!! " تساءل الجد بفضول .. صمت أحمد و كأنه لا يملك إجابه للسؤال .. و نظر فى الأرض ثم رفع عينيه و قال : " لقد تخلصت من السمك يا جدى .." .. رد الجد متعجباً : " لماذا ؟! " .. رد أحمد : " لأنه ما عاد يعنى شيئاً بعد الآن " .. قال الجد : " أخبرنى ماذا حدث بالضبط ؟! " .. " قال أحمد فى أسى : " يا جدى .. لقد وصلت السمكات لعدد جيد .. و كنت حقاً سعيد برؤيتهم ..
و لكن حدث ما لم اتوقعه .. فقد فقدت أعز اصدقائى .. و تخلى عنى الآخر .. و فقدت عملى ... حتى زوجتى أختلفت معى و تريد أن تتركنى و ترحل ... فما قيمة كل ما حققته من أحلام إذن , عندما أرى كل شيئ ينهار أمام عينى ؟!! " ..
نظر الجد إلى أحمد نظره لم يعهدها أحمد من قبل فى عينى جده .. فكأنما كان يخبره كم أنه خذله ..
و لما لم يطق أحمد تلك النظره فقال : " يا جدى .. لا تقسو علىّ .. و الأحرى بك أن تنصحنى إن شئت .. " .. لم يرد الجد و لكنه دخل إلى المنزل و أحضر شيئاً معه ثم خرج و قال لأحمد : " تعال معى .. هيا بنا " .. فذهب أحمد مع جده دون أن يستفسر عن شيئ .. و ذهبا معاً إلى الشاطئ و جلس الجد و طلب من أحمد الجلوس ..
ثم أعطاه ذلك الشيئ ..
إنها الصناره الزرقاء ..
و قال له : " اصطاد " .. لم يناقشه أحمد و أخذ الصناره و بدأ يصطاد حتى ثقلت الصناره , فرفعها أحمد و أخرج سمكه جميله تشع حيويةً و نشاطاً و كأنها تعلن عن نفسها و تتحدى من اصطادها و تتمسك بالحياة حتى آخر رمق ... ثم قام الجد بوضعها فى كيس به ماء كان قد أحضره معه من المنزل ... ثم صمت الجميع .
" لقد فهمت ما تعنيه يا جدى " قالها أحمد و هو ينظر لجده .. ثم أردف : " تلك السمكه تعلم ألا سبيل لها للنجاه .. و لكنها أبداً لم تيأس أو تفقد الأمل .. و ظلت قويه و متحديه حتى آخر لحظه .. و لعل رغبتها الشديده تلك فى البقاء و فى الحياه هى التى جعلت لها نصيباً فى الحياه .. و أعطتها فرصه أخرى للنجاه " .. نظر الجد إلى عيني أحمد و قال فى ثقه : " لقد فهمت السمكه حقاً يا أحمد .. و لكنك لم تفهم نفسك بعد " ..
استغرب أحمد من كلام جده و قال : " ماذا تقصد يا جدى ؟! " ... اعتدل الجد فى جلسته و شد على يد أحمد و قال : " يا بنى .. تلك السمكه لم يكن لديها ما يجعلها تنجو سوى الأمل فى الحياه .. و لكنك أنت لكى تدرك أحلامك و تبقى على آمآلك .. فلديك أكثر من مجرد الأمل ..
لديك عمل شاق .. لن يضيعه الله هباءاً أبداً ...
لديك قلب من ذهب .. لا شك أنه سينال ما يستحقه من الحب ...
لديك من يحبك حقاً .. يقيناً لن يخذلك أبداً ...
و تذكر دائماً يا بنى ...
ما دامت معك الصناره , فإنك تستطيع أن تصطاد السمك "
و أثناء حديثهما إذا بامرأةٍ حسناء تأتى من بعيد و كأن وجهها القمر ينير ظلمة الليل .. و عندما رآها أحمد أشرق وجهه كأنه نجمُ يتألق فى السماء ... فقام الجد فى صمت و تراجع للخلف فى هدوء و هو سعيد متبسم .. ثم جاءت تلك المرأه - زوجة أحمد - و جلست بجواره و عندما أردات أن تبدأ بالحديث عما حدث و تعتذر لأحمد , إذا به يضع يديه الحانيتين برقه على شفتيها و كأنه يطلب منها ان تنسى الماضى و لا تتحدث فيه أبداً لأنه فى الأصل قد سامحها منذ أحس بروحها حوله و شعر بقدومها .. و أمسك أحمد بيديها الناعمتين و نظر إلى عينيها ليخبرها أنه يحبها .. دون أن ينبث ببنت شفه .. فهى تفهم لغة عينه .. ثم أمسكا معاً بالصنارة الزقاء و شرعا يصطادا معاً ..
يداً بيد ..
قلباً بقلب ..
و روحاً بروح .
و من بعيد .. كان الجد ينظر إليهما و يراهما كأنما الشمس و القمر قد غادرا السماء و جاءا ليجلسان على الشاطئ و يصطادا معاً أحلامهما سوياً ..
تلألأت فى عينيه دمعةُ فرحٍ و قال كأنما يكمل كلامه لحفيده :
" و ما دام هناك من يمسك الصناره معك , فلا تخشى يوماً ألا تدرك الحلم "
............ تمت .............
بقلم : أحمد شكرى
14 - 3 - 2010